سعود بن محمد العقيلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم الحليم، الحمد لله الحكيم العليم والصلاة والسلام على إمام المرسلين وسيد العالمين الذي أقسم الله على أنه على خلق عظيم.
حدث خلال هذه السنة أمر عظيم جلل، أقضَّ مضاجع المؤمنين وأغم صدور المسلمين، ألا وهو سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم في دولة غربية على ملأ من قومهم ومن المسلمين.
فتفاقم الأمر وعظمت تداعياته وسلك المسلمون مسلكاً اختاروه طريقًا لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان على أرض الواقع ما ليس بخاف على أحد. وبعد أن هدأ الأمر وكاد أن يكون استقر، رأيت لزامًا عليّ أن أقف وقفات مهمات متدبرًا ما حدث.
وتساءلت هل ما قامت به جماهير المسلمين عملٌ مشروعٌ يثابون عليه أم لا؟
ولكي لا يتشعب الموضوع كثيرًا؛ فإني سأجعل كلامي في وقفات محددة؛ لعل الأمر بعدها يكون أقرب للإدراك والفهم والتصور.
الوقفة الأولى
من سنن الله الكونية والشرعية أن يبتلى الخير بالشر، والشر بالخير لحكمة يريدها سبحانه، فالواجب على المسلم استشعار هذه السنة الإلهية، وألا ينفك عنها في أي زمان وفي أي مكان.
ومن سننه أيضًا أنه جعل للخير رموزًا وأعلامًا، وللشر رموزًا وأعلامًا يقع بينهم من العداوة والصراع ما يقع، والأتباع في ذلك تبع.
ومن أعظم حكم هذا الامتحان بين الخير والشر أن الحق يزداد قوة وظهورًا، وأن الباطل يزداد ضعفًا وهوانًا.
ولما كان الله هو الحق، وهو اسم من أسمائه، فقد وعد - ووعده الحق - بنصرة الحق وإعزازه، وإذلال الباطل ودفعه.
ومن ملامح هذا العداء والصراع ما جاء في قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) [الأنعام/ 112]. وقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا) [الفرقان/31].
وهذه عداوة كونية أرادها سبحانه تمحيصًا للحق، ويقابلها عداوة شرعية كما في قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا) [القصص/ 8]، وقد ارتضاها سبحانه وتعالى لنفسه فقال: (فإن الله عدو للكافرين) [البقرة/ 98].
وقد بيّن لنا سبحانه وتعالى في كتابه صور تلك العداوة للأنبياء الذين يمثلون الحق وأهله.
فمن صور تلك العداوة التكذيب، قال تعالى: (كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضًا) [المؤمنون/ 44]، وقوله: (وإن يكذبوك فقد كذب رسل من قبلك) [فاطر/ 4].
ومن صوره الاستهزاء قال تعالى: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) [يس/ 30]، وقوله: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوًا) [الفرقان/ 41].
ومن الصور الإيذاء، قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين آذوا موسى) [الأحزاب/ 69].
ومن الصور القتل، قال تعالى: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق) [آل عمران/ 112]، وقوله تعالى: (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون) [المائدة/ 70].
والغريب العجيب أن المسلمين كأنهم لم يسمعوا بتلك الآيات التي تثبت حقائق لا شك فيها، فاستغربوا ما حدث أيما استغراب! ودهشوا منه أيما دهشة! وكأنهم لم يقرأوا في القرآن ما هو أعظم مما حدث.
وهذا الاستغراب يدل على بعد الأمة عن القرآن وعدم تدبره أثناء قراءته.
بل أخبر الله عما هو أعظم من ذلك، وهو سب الله وتنقصه، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) [الأنعام/ 108]، وقال تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة) [المائدة/ 64]، وقال تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) [آل عمران/ 181].
ونختم هذه الوقفة بأن لا محل للغرابة والتعجب مما حدث؛ بل يجب أن يكون المسلم قد وطأ نفسه ووطنه على مثل ذلك، ونحن لم نذكر شيئًا من السنة وإلا فيها الكثير مما يستشهد به.
الوقفة الثانية
قال جماهير العلماء من الأصوليين وغيرهم: إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد ثبت في الوقفة الأولى أن اليهود سبّوا الله وتنقصوه، ولم يعقب الله على ما قالوا بالأمر بالمقاطعة؛ بل الصحيح أن الإشراك بالله هو تنقص وسب له واستهزاء عن طريق اللزوم، ومع ذلك لم يأمر الله بالمقاطعة التجارية للمشركين أو غيرهم.
وقد ثبت أن اليهود قتلوا أنبياءهم كما أخبر سبحانه، ولم يأمر الله من آمن منهم بمقاطعة من فعلوا ذلك.
ولم يفعل ذلك موسى عليه السلام حين سبوه وآذوه، ولم يأمر أتباعه بذلك، لا انتصارًا لنفسه ولا انتصارًا لمن قتلوا من الأنبياء قبله.
ولم يقاطع موسى عليه السلام فرعون مع أنه ادعى الألوهية وطلب موسى ليقتله، والأعجب أن موسى عليه الصلاة والسلام تربى في بيت فرعون يأكل من طعامه، ويلبس من كسائه، وهو على تلك الحال من الكفر والضلال.
ومع أن إخوة يوسف عليه السلام فعلوا به ما فعلوا مما قصّ الله علينا؛ إلا أنه لم يقاطعهم تجاريًا؛ بل لما حضروا باع لهم واشترى منهم، ولم يأمره سبحانه وتعالى بمنع أرزاق مصر عنهم حتى يعتذروا.
وبالجملة فإنه مع ثبوت الإيذاء والقتل والقتال والمعاداة من غير الأنبياء لهم إلا أنه لم يأمر أحدًا منهم بمقاطعة من عاداه تجاريًا.
الوقفة الثالثة
لن نتكلم عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة في صدر الإسلام، ولكن سنتكلم عن المرحلة المدنية، حيث قدم المدينة، وحالف من كان فيها من اليهود، ووفى بما عاهدهم عليه، لكن اليهود نقضوا عهدهم مرارًا وتكرارًا وصبر عليهم عليه الصلاة والسلام، وكان نقضهم للعهد في صور كثيرة، منها التعدي على أموال المسلمين وأعراضهم، ومنها عدم معونته ونصرته، ومنها ممالأة أعدائه، ومنها سبه وشتمه وتنقصه والسخرية من دينه.
فلما أعذر إليهم بصبره نبذ إليهم؛ فأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وأبقى آخرين.
ومن أعظم ما فعلوه به خاصة أنهم خططوا لقتله بالرحا، فأخبره جبريل بذلك. ومن ذلك أنهم سحروه، ومن ذلك أنهم سمّوه صلى الله عليه وسلم.
وفي كل هذه الأحوال لم يأمره الله سبحانه وتعالى بمقاطعتهم تجاريًا، ولم يأمر هو أمته بذلك؛ بل كان اليهود هم تجار المدينة وأهل الصناعة والزراعة فيها.
فكان المسلمون يزارعونهم ويساقونهم، ويشترون من زراعتهم، ويلبسون مما تصوغه أيديهم، ويشترون ما يصنعونه من سلاح، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم، وربما استخدموا غلمانهم في بيوتهم.
بل حتى الذين أجلى منهم لخيبر بسبب سبه وشتمه لم يأمر أحدًا من المسلمين بمقاطعتهم، بل أجاز المزارعة والمساقاة بينهم وبين المسلمين.
وكذلك فإنه مع علمه صلى الله عليه وسلم بما فعله اليهود مع الله وأنبيائه لم يقاطعهم، فثبت أنه بايعهم وشاراهم واقترض منهم إلى غير ذلك من مصالح الدنيا.
الوقفة الرابعة
ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله"، ثم أذن لمحمد بن مسلمة في قتله، فقتله.
وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال مثل ذلك في أبي رافع اليهودي، ثم أذن لعبدالله بن عتيك في قتله فقتله، وكان أبو رافع يسمى تاجر الحجاز.
ومع أن أمْرَ مسبة هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهر يعرفه الجميع، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا من المسلمين بمقاطعتهم، فلم يقاطع أحد من المسلمين أبا رافع مع أنه تاجر الحجاز وهو يهودي يحب المال ومقاطعته تؤثر عليه؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم سكت على مبايعة محمد بن مسلمة له قبل قتله بقليل ولم يقيدها صلى الله عليه وسلم بالخدعة.
الوقفة الخامسة
قال ابن القيم: "وفيها تعيين قتل الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن قتله حد لا بد من استيفائه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن مقيس بن صبابة، وابن خطل والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه، مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما تقتل الذرية، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين، وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقتل كعب بن الأشرف اليهودي وقال: "من لكعب فإنه آذى الله ورسوله"، وكان يسبه، وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ولا يعلم لهم في الصحابة مخالفة.
... ثم قال: ومرّ عمر رضي الله عنه براهب فقيل له: هذا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم.
... وقال: ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ومنع دينار جزية في السنة، فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب ... إلى أن قال: فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبدالله بن أبي وذا الخويصرة ومن قال له: إنك تنهى عن الغي وتستخلي به، ومن قال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، ومن صدر منهم نحو هذا.
لأن الحق له وله أن يستوفيه أو يسقطه، وذكر أن في ترك قتلهم مصلحة عظيمة في حياته زالت بعد موته من تأليف الناس وعدم تنفيرهم عنه.
وختم قائلاً: "ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف وجمع القلوب عليه كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه؛ ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل، وترجح جدًا قتل السابِّ، كما فعل بكعب بن الأشرف فإنه جاهر بالعداوة والسب فكان قتله أرجح من إبقائه، وكذلك قتل ابن خطل ومقيس والجاريتين وأم ولد الأعمى، فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه"، ولم يذكر رحمه الله أن هؤلاء منافقين وأحكامهم تختلف وهو الحق.
والسؤال: هل يجوز قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الدنمرك؟
والظاهر أن لا، لأن ما ذكره ابن القيم من إجماع إنما هو في حق أهل الذمة، وهذا السابُّ ليس من أهل الذمة. الثاني أنه ليس هناك عهد خاص بيننا وبين تلك الدول قد نص فيه على عدم سب نبينا صلى الله عليه وسلم أو أمرًا يقاس عليه. الثالث: أنه إذا كان ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض من سبه للمصلحة الراجحة فكذلك هنا فإن المصلحة ظاهرة وراجحة. وكان الأمر زمن النبي صلى الله عليه وسلم يعيق عن الإسلام، أما اليوم فقد ظهر وانتشر، وأيضًا فإن المسلمين اليوم في ضعف بيِّن.
الرابع: أنه لم يكن بلغة الإسلام المعروفة بينهم.
الخامس: أن أولئك كانوا بين ظهراني المسلمين وبين أيديهم، وهذا بعيد عنهم ليس بين أيديهم ولا تحت حكمهم.
السادس: أنه يقبل من الكافر ما لا يقبل من غيره، ويسكت على قوله إذا كان في ذلك مصلحة، وذلك ما حصل في صلح الحديبية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، ولما قال: اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، قال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك.
فهذا سهيل ينكر الرحمن وهي صفة لله، وينكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك قبل صلى الله عليه وسلم وكتب كما أراد سهيل.
ومع أن المشركين قد سلبوا من أسلم من أهل مكة ماله، إلا أنه لم يقاطعهم ولم يأمر أحدًا بمقاطعتهم.
فإن قيل: بل كنا معهم في عهد وهذا نقض، قلنا: لِمَ لم ينقضوا عهدهم وقد أعانوا على احتلال بلدين مسلمين وغزوهما – افغانستان والعراق - وهذا ناقض بالإجماع وهو الأسبق وليس فيه أدنى خلاف.
وأيضًا فإن عمر لما قيل له ما فعل الراهب قال لو سمعته لقتلته ولم يأمر أحدًا بالذهاب إليه لقتله.
وكذا قال عبدالله بن عمر ولعل عمر ترك ذلك لمصلحة عدم القتل.
الوقفة السادسة
إن الإسلام جاء بسد الذرائع؛ فنهينا عن سب آلهة الكفار والمشركين، وحرم ذلك لكي لا يكون ذلك ذريعة لسب الله سبحانه وتعالى.
فالأولى في مثل ما حصل أن يترك فاعله يعوي على نفسه؛ لأن مناكفته كما حصل ستؤدي إلى إشهار سبه وتنقصه وتناصر الكفار على ذلك، وهذا ما حصل.
فإذا غلب على الظن أن ذلك يكون حُرِّمَ كل فعل يؤدي إلى إشهار سبه وإظهار تنقصه، وإن كان في أصله جائز.
ألا ترى في قصة عائشة - والأمر أقل من ذلك - نهي الصحابة عن الحديث فيه وأرشدهم الله إلى ذلك بقوله: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) [النور/ 16] فأرشد الله المؤمنين إلى قطع الحديث فيه مطلقًا.
وكذلك جاء منهج أهل السنة والجماعة في ما حدث بين الصحابة من الفتنة فإنهم أوجبوا الإمساك عن الخوض فيه.
ولذلك أخطأ خطأً عظيمًا من أمر بنشرها زعمًا منه أنه يلهب مشاعر المسلمين؛ فهو بهذا ينشر إساءة النبي صلى الله عليه، ويحقق لمن أساء مقصوده.
الوقفة السابعة
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتصر لنفسه قط؛ فقد سحره اليهود عن طريق لبيد بن الأعصم، وعلم بذلك، وتأذى من ذلك ستة أشهر، ولم يقتل لبيدًا ولم يقتل الجارية التي أعانته بأخذ شعر النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لم يقتل اليهودية التي سمّته، والذين قالوا إنه قتلها قالوا قتلها لما مات صاحبه الذي أكل معه، وهو البراء بن بشر.
ومع ما جرى من ذلك كله لم يقاطعهم ولم يأمر بمقاطعتهم تجاريًا.
الوقفة الثامنة
كيف ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بل كيف ينصر الله أولاً؟
ينصر الله بنصر شريعته كما قال سبحانه وتعالى: (إن تنصروا الله ينصركم) والله ليس في حاجة لنصرة العبد. وإنما إعزاز الله بتوحيده وإظهار شريعته.
فإذا كان ذلك في جناب الله، فهو كذلك في جناب النبي صلى الله عليه وسلم نصرته بنصرة شريعته لا بتحريفها والابتداع فيها.
ولذلك كان الذب عن دينه أعظم من الذب عن نفسه؛ لأنه جاهد بنفسه وعرضها للهلاك من أجل دينه.
ومخالفة شرعه أعظم من نصرة مزعومة؛ وتأمل أنه في معركة أحد جعل الرماة على الجبل وقال لهم: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا".
فلما خالفوا أمره ونزلوا طلبًا للغنيمة انقلب نصرهم هزيمة بسبب مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم.
وفي مقولته تلك – في معركة أحد - جعل المحافظة على شرعه بطاعته أعظم من نصرة جسده، لذلك قلنا إن الذب عن دينه أعظم من الذب عن نفسه، لأن المقصود من إرساله أصلاً هو إظهار الشريعة وإعزاز التوحيد.
وهذا الذي كان عليه الصحابة؛ فانظر إلى أبي بكر - كما ثبت في الصحيح - تأتيه فاطمة رضي الله عنها تسأله ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لا، سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة"؛ فتغضب عليه فاطمة إلى أن توفيت.
ولو كان أبو بكر رضي الله عنه يعمل بالعاطفة على حساب الشريعة لقال: هذه فاطمة بقية الرسول صلى الله عليه وسلم وهي ليست بالغنية، هذه أحب بناته إليه هذه سيدة نساء الجنة، هذه أم الحسن والحسين، هذه... إلخ.
ثم سوغ لنفسه أن يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن حاشاه فبهذا حفظت الشريعة وتحفظ.
لذا لا يجوز أن ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأمر مشروع يوافق شريعته صلى الله عليه وسلم.
وليست المحبة أن يخالف شرعه، ولو كان بدعوى نصرته، وإذا كانت محبة الله إنما تثبت باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فكذلك من باب أولى محبته.
الوقفة التاسعة
إننا لو عملنا بالمقاطعة لهذا السبب؛ فإن قياس الطرد والأولى سيجعلنا نقاطع دول العالم كلها فتأمل.
وبالتالي نعيش في عزلة تنافي مقصود الشارع، ولذلك بدل أن يكون عدونا من كتب ونشر وسعنا دائرة أعدائنا إلى جميع قارات العالم، وانتشرت المفسدة التي زعمًا كنا ندرؤها.
وبلغ من فرط جهل كثير من الناس والجمعيات المسلمة المطالبة بسن قانون دولي يحترم الأديان، وهذا عام يلزم المسلم أن يحترم كل النحل الأرضية.
ويا ليت المسلمين غضبوا قبل هذه الغضبة على من سب عيسى عليه السلام في تلك البلاد، وذلك كثير! لأن عقيدتنا في الأنبياء واحدة.
ومن عجيب أمر الناس في هذا العصر أنهم قاطعوا تلك البلد الذي سب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقاطعوا بلدًا مسلمًا حرف حاكمها كتاب الله وأنكر سنته وأبطل شريعته وغير قبلته وحارب أتباعه.
ومع الأسف فإنه يأمر بالمقاطعة وكأنه يضحك على المسلمين، أليس هذا أحق بالمقاطعة من غيره؟!
كذلك ألا يلزمنا القياس بمقاطعة من سلم المسجد الأقصى وأعان على احتلاله وأبطل الجهاد من أجله.
كذلك أليس القياس يلزمنا بمقاطعة تلك الدول، التي تزعم أنها مسلمة، وليس لها هم إلا محاربة الإسلام.
فعلينا أن نجزم ونؤمن أن الله متم نوره ولو كره الكافرون، وكما حمى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته برغم كل ما حدث وعصمه، فكذلك يحميه وهو ميت. ولنتصف بالحلم، وتأمل كيف يحلم ربك على من كفر به وسبه وشتمه وتنقصه وعصاه.
والأمور كلها بيد الله والعاقبة لله ولرسوله ولدينه.
وتأكيدًا لذلك فقد قال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً) [الأحزاب/ 48].
وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) [الأنعام/ 112].
فإذا كانت المصلحة فلنذرهم وما يفترون، وكذلك قال: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا) [الفرقان/ 31].
وتأمل كيف ختم الآية بالكفاية والهداية والنصر.
وقال تعالى: (إنا كفيناك المستهزئين) [الحجر/ 95].
وقد حصل مفاسد عظيمة على المسلمين؛ فكم من دماء المسلمين أهريق ولم يهرق دم من سب وشتم.
وكم خسر المسلمون في ملصقات أكثرها ملصقات كتبت بعبارات ليست موافقة للشرع مثل (محمد وبس)، وهي بالإطلاق لا تجوز لما في ذلك من نفي لحق الرب.
ومن المفاسد أنها وزعت وألصقت في مساجد المسلمين في البلاد الإسلامية وكأنهم هم من سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ركبت المنامات وانتشرت بدع بسبب ذلك؛ بل ووضعت أقوال على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.
الوقفة العاشرة
أنه لا يعبد الله إلا بما شرع، وأنه لا جهاد بدون تطبيق لأحكام الجهاد وأنه لا يرفع الجهل إلا العلم.
وعليه أقول: إن مقتضيات تشريع المقاطعة وجدت في جميع عصور الأنبياء ومع ذلك لم تشرع في أي دين سماوي.
فقد سب الله، وقتل الأنبياء وسبوا، وحوربت الشرائع، وقتل المؤمنون. ومع ذلك لم يفعلها الأنبياء انتصارًا لله ولرسوله ولشرائعه وللمؤمنين.
وفي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، ولم يفعلها الصحابة، ولم يقل بها التابعون، ولم يفتِ بها إمام.
لذلك أقول - والله المستعان ;كما قال شيخ الإسلام بن تيميه ( من تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان وسبيله من سبيل الشيطان )- وعليه يمكن أن يقال إنَّ تعبُّدَ الله بالمقاطعة بدعة لا يؤجر عليها ولا يثاب.
ولا يصح للمسلم أن يفعلها على وجه التعبد، وقال بعض المحققين: إنه يؤجر على حسن القصد، فليس من أراد الخير وأخطأه كمن أراد الشر وأصابه، ولكن تبقى المقاطعة أمرًا مباحًا تحدده المصلحة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.