بانيلا بارمنغ: الدنماركيون أدركوا أن استخدام حرية التعبير في الإساءة للأديان سخافة كبيرة

منى مدكور
في ظل المحاولات الحثيثة التي تبذلها دولة الدنمارك لاحتواء الازمة المتفجرة ازاء نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، والتي تتصاعد وتيرتها ما بين يوم وآخر في العالم الاسلامي والعربي، أرسلت صحيفة «ويك إند أفيزن» الدنماركية، التي تعد من أكثر الصحف شعبية في الدنمارك، الصحافية المخضرمة بانيلا بارمنغ، وهي صحافية شهيرة ومتخصصة في الشؤون العربية، منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما، لرصد وإجلاء حقيقة ردود الفعل الغاضبة على تلك الرسوم.

ولقد انفردت «الشرق الأوسط» بلقاء بانيلا التي التقت العديد من المثقفين المصريين من مختلف التيارات والاتجاهات السياسية والدينية، بالإضافة إلى بعض العامة لرصد حالة الغضب، لأن شعبها لا يزال يجهل حقيقة هذه الغضبة الكبرى! وعن ذلك تقول لـ«الشرق الأوسط»: أتيت الى القاهرة بتكليف مباشر من رئيس التحرير لرصد حالة الغضب في مصر تحديدا التي تعتبر من أكبر الدول العربية في المنطقة والتي نظم شعبها أيضا حملة مقاطعة واسعة ضد المنتجات الدنماركية، بالاضافة الى الشعوب العربية الاخرى، وذلك لإيجاد حالة من التواصل بين الشعوب العربية ورغباتها المشروعة في الحفاظ على مقدساتهم وبين الشعب الدنماركي الذي لا يعرف الكثير عن الدين الاسلامي والشعوب العربية، ومهمتي البعيدة كل البعد عن الجهات الدبلوماسية الرسمية، هي لغرض كتابة تقارير يومية لمدة أسبوع تقريبا عن الوضع في المنطقة العربية متمثلة في مصر، لإفهام الشعب الدنماركي لماذا العرب والمسلمون غاضبون من هذه الرسوم الكاريكاتيرية، خاصة ان علينا كشعب وحكومة التكاتف لحل هذه الازمة الكبيرة، بعد ان اصبحت مشاهد حرق العلم الدنماركي والمظاهرات، التي تجوب الشوارع ضد الدنمارك وشعبها باتت مصدر قلق لجموع الناس في الدنمارك، لا سيما أن معظمهم يجهلون الاسباب الحقيقية لموجة الغضب هذه.

وعما اذا كانت التقارير التي سيتم رصدها عن ردود الفعل الغاضبة ستؤخذ بعين الاعتبار من قبل صناع القرار في الدنمارك، تقول بانيلا: «أعتقد انها سيكون لها تأثير مباشر خاصة ان معظم قراء الصحيفة من الطبقة المثقفة والنخبة السياسية وطلبة الجامعات، بالاضافة إلى كون صحيفتنا أسبوعية لا تكتفي بتقديم الاخبار مثل الصحف اليومية، بل تعتمد بشكل كبير على التقارير المطولة خاصة العالمية التي تهم القارئ الدنماركي».

أما عن الذين قابلتهم بانيلا كرموز في المجتمع المصري والعربي فتقول: قابلت الكاتبة الاسلامية صافيناز كاظم والنائب الاخواني د. عصام العريان والباحث السياسي السيد سعيد. وهذا التنوع في حد ذاته سيخلق حالة من التأكيد على ان الغضب واحد، ولكنه اختلف في جدوى طرق التعبير عنه ما بين شخصية وأخرى، ولكنهم في النهاية غاضبون سواء اختلفوا او اتفقوا على طرق التعبير عن هذا الغضب، التي عمت الشعوب العربية والاسلامية، وهذا هو ما يجب ان يصل إلى الشعب الدنماركي. أما عن كونها اختارت القاهرة تحديدا دون غيرها من العواصم العربية، وعما اذا كانت ستقوم بجولة عربية لحشد ردود فعل اخرى لايصالها للشعب الدنماركي بعيدا عن التهويل الاعلامي المرئي كما تصفه، تقول بانيلا بكل أسف: لم يسمح لي دخول أية دولة عربية سوى مصر.

وتعترف بانيلا كمواطنة دنماركية أن الازمة في بدايتها (شهر نوفمبر الماضي)، لم تكن موضع اهتمام الشعب الدنماركي، فتقول: في بداية الازمة ومع نشر الرسومات الكاركاتيرية لم يشعر المواطن الدنماركي بأية مشكلة على اعتبار ان ما حدث هو مجرد تعبير عن رأي لوجهة نظر صاحبها، فالمواطن الدنماركي على الرغم من انه يعيش مع اكثر من 200 الف مسلم في الدنمارك، إلا أنه يجهل تماما طبيعة المقدسات الاسلامية وما هو مسموح وما هو ممنوع، ولكن هذا لا ينفي المسؤولية عن رئيس تحرير الصحيفة التي قامت بنشر هذه الرسومات خاصة اذا ما عرفنا ان هناك قانونا دنماركيا صارما بشأن عدم اهانة أشخاص بعينهم بسبب ديانتهم (العنصرية الدينية) على اعتبار ان الدين مسألة شخصية بين الانسان وربه وهو القانون الوحيد الذي من الممكن ان ينطبق على هذه الرسوم باعتبارها مهينة للمسلمين، لأنها تعرضت لرسول المسلمين. ولكن ليس هناك قانون ملزم بعدم التعرض للانبياء والرسل، بمعنى انه من الطبيعي جدا أن تقوم أية صحيفة دنماركية برسم رسومات مشابهة عن المسيح او موسى عليهما السلام، وقد حدث هذا بالفعل مئات المرات بلا أية ضجة تذكر، لأن المواطن الدنماركي يعتبر الدين في النهاية مسألة شخصية.

وهو ما تعتبره بانيلا من ناحية اخرى، مبررا قويا لعدم اعتذار رئيس الوزراء الدنماركي عن هذه الرسومات قائلة: لا يوجد في الدنمارك أي قانون يسمح لأي شخص، مهما كانت مكانته السياسية حتى لو كان رئيس للوزراء، أن يصادر صحيفة او أن يفصل صحافيا من منصبه مهما كانت الاسباب. وهذا ما كفلته حرية التعبير التي تعيشها الدنمارك كجزء لا يتجزأ من الديمقراطية. لذلك عندما قال رئيس الوزراء انه لا يستطيع الاعتذار بالنيابة عن الصحيفة التي قامت بنشر الرسومات فهو امر مقبول تماما لدى الشعب الدنماركي، والذي قيل وقتها لاحتواء الازمة كان اعتذارا شخصيا بصفته مواطنا دنماركيا وليس بصفته رئيسا للوزراء. ولهذا لم تتدخل الدبلوماسية الدنماركية في الموضوع الا حينما اعلنت الصحيفة ورئيس تحريرها اسفها في بيانات اعتذار للمسلمين. وبصراحة شديدة لو اعتذر رئيس الوزراء في بداية الازمة بصفته الوظيفية لأسقطه الشعب في الانتخابات القادمة، على اعتباره شخصا غير أمين على حرية الرأي والتعبير! وتفجر بانيلا مفاجأة حينما تقول انها بهذه التقارير الحية التي ستنقلها عن العالم العربي والاسلامي، ستقدم دعما قويا في اوراق الدعوى القضائية التي رفعتها مجموعة من المحامين والقانونيين الدنماركيين ضد الصحيفة، متهمين اياها بالاساءة الى الجالية المسلمة في الدنمارك، بسبب تطاولهم على المسلمين ومعاملتهم بعنصرية على اساس الدين، وهو ما لا يقبله قانون الحريات في الدنمارك. ولكن للاسف لا تزيد العقوبة في مثل هذا النوع من القضايا عن السجن لمدة عامين بدون دفع أي غرامات مالية.

وتعترف بانيلا من ناحية اخرى ان الصحيفة تتبع اليمين المتطرف في الدنمارك. فتقول: لا يمكن أن ننفي ان «يولاند بوستن» تتبع اليمين المتطرف في الدنمارك، وهو لديه انطباع سيئ عن المسلمين، نتيجة بعض الممارسات التي يقوم بها بعض المسلمين هناك. فكلنا ـ نحن الدنماركيين ـ نذكر حادث القتل البشع الذي حدث العام الماضي، عندما قتل شاب باكستاني مسلم شقيقته الشابة التي رفضت الزواج ممن اختاره الأهل لها وكان ذلك في وضح النهار وفي الشارع علانية!! وهو ما يدعم حقيقة انه لا توجد في الدنمارك أية صحف حكومية، بل كلها صحف مستقلة بأصحابها ومن حقها وفقا لقوانين الدنمارك أن تقول ما تريد بلا أي رقابة او حذف. وهذا ما جعل قضايا الفساد في الدنمارك قليلة للغاية بسبب هذه القوة التي بلا حدود لحرية النشر، وان كان الدنماركيون ادركوا اليوم بعد هذه الازمة انه من السخافة استخدام هذه القوة والحرية في الاساءة للاديان السماوية. وعن تأثير حملة المقاطعة التي قامت بها الشعوب العربية والاسلامية على الاقتصاد الدنماركي تقول بانيلا: لا ننكر ان هذه الحملة كبدت الاقتصاد الدنماركي خسائر كبيرة، ولكن الشعب الدنماركي ينظر لها من منظور آخر، وهو ان هذه صحيفة واحدة من عشرات الصحف الدنماركية التي اساءت للرسول الكريم، وليس الصحف الدنماركية كلها.

من ناحية اخرى تؤكد بانيلا ان ثورة الغضب التي اعترت العالم الاسلامي خاصة في فلسطين والمشاهد التي نقلتها وكالات الانباء والقنوات الفضائية لشباب فلسطينيين يحملون الكلاشينكوف ويلوحون به مهديين أي مواطن دنماركي لهي خسارة كبيرة للقضية الفلسطينية، حيث تقول بانيلا: ان استغلال هذه المشاهد من قبل العالم الغربي خاصة في الدنمارك لم يأت لصالح الفلسطينيين، فالمواطن الدنماركي الجالس في منزله وهو يشاهد هذه التهديدات على الشاشات، وهو لم يقترف ذنبا بصفته الشخصية تجاه احد وهؤلاء الصبية يحملون المدافع الرشاشة في وجه الآخرين معبرين عن غضبهم لهو رسالة سيئة بدأت تتبلور للشعب الدنماركي ولشعوب أوروبا، التي كانت تتعاطف بشكل كبير مع القضية الفلسطينية، خاصة ان القوانين الأمنية التي تحكم هؤلاء الصغار الفلسطينيين ليست متوفرة او جازمة لهم، مما يجعل المواطن الاوروبي يفكر بشكل سلبي تجاه القضية برمتها لصالح الاسرائيليين.

وتؤكد بانيلا ايضا، ان الدين الاسلامي دين جديد في الدنمارك، حيث لم تعرفه الا مع نهايات عام 1960 أي منذ ما يقارب ستة وأربعين عاما فقط، عكس الديانة اليهودية التي تعايشت معها الدنمارك منذ ما يزيد عن اربعمائة عام!! وعن ذلك تقول: ان اعداد المسلمين في الدنمارك حوالي 200 ألف مسلم معظمهم يحملون الجنسية الدنماركية، وهم في الغالب ذوو اصول باكستانية او تركية، بالاضافة الى بعض اللاجئين من العراق وإيران وفلسطين ولبنان والصومال. وللدلالة على حرية التعبير التي تعيشها الدنمارك، فقد تظاهر 3000 مسلم سلميا ضد الرسوم المسيئة، وعبروا عن استيائهم ايضا في صحف دنماركية اخرى وناقش 3 مسلمين احدهم فلسطيني الاصل هذه القضية في البرلمان ولم يعترضهم أحد، كما ان المسلمين ينضمون إلى صفوف الجيش والشرطة، ويعملون في كافة نواحي المجتمع بلا أي تمييز عنصري ضدهم، حتى الاطفال في مدارس كوبنهاغن يتناولون جميعهم لحما حلالا مذبوحا على الطريقة الاسلامية، مراعاة لمعتقدات الطلبة المسلمين من دون تمييز او تفرقة بين كون الطالب مسيحيا او يهوديا او مسلما، كما ان مناطق الجاليات الاسلامية والتي تحتوي على حمامات سباحة عامة تخصص يومين أو ثلاثة للسيدات فقط حسب التقاليد الاسلامية التي تمنع اجتماع الرجال والسيدات في حمامات السباحة، وهذا مخالف تماما لمعتقداتنا، ولكنه امر لا بد منه تعبيرا عن احترام الآخر.

أما فيما يخص ان حرية التعبير التي طالت الاسلام، لا يمكن ان تطول بأي حال من الاحوال النازية او محارق الهولوكوست المزعومة لليهود في تفرقة واضحة ما بين احترام الاسلام كدين سماوي واحترام الصهوينية كمعتقدات فتقول بانيلا: من المهم ان نعلم اننا تماما ضد النازية، واننا قمنا بمساعدة اليهود وقمنا بارسالهم الى السويد هربا من النازية ابان الحرب العالمية الثانية، وهم ما زالوا يعيشون معنا ومنذ امد بعيد وعندما لا يمكننا التكلم هذه القضية الشائكة (الهولوكوست والنازية)، فهذا لا علاقة له بالدين او تفضيل شيء على شيء، بل هو نابع من تعايشنا مع اليهود منذ زمن بعيد، واصبح عندنا الخبرة الكافية عن ردود الفعل المتوقعة والتي ستحدث بالفعل في حال ما اذا ناقشنا هذه القضية. ولذلك نراعي ذلك كثيرا لأننا نعلم ما الذي يمكن ان يحدث لستة ملايين يهودي في اوروبا، اذا ما فتح هذا الباب مرة اخرى، على الرغم من ان نسبة اليهود في الدنمارك اقل من المسلمين، لكن الوضع في النهاية يعود للتعايش وفهم الآخر.

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

1
3856
تعليقات (0)