بيان من أتباع دين الإسلام، أتباع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم

من أتباع دين الإسلام، أتباع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الثقلين من الجنّ والإنس.

السلام على من اتّبع الهُدَى.

أما بعد: فهذا خطابُ أمةٍ لا يُمثِّلُها ولا يَحُدُّها بلدٌ ولا مكان، ولا تنتمي إلى عرقٍ أو لَوْنٍ أو لغة، ولا تدعو إلى عقائد أو مفاهيم وضعها علماؤها ومفكّروها، ولا تُريدُ بَسْطَ نفوذها من خلال حضارتها البشريّة بِصَبْغ الناس بتصوّراتها المستمدّة من مذهبها أو تاريخها أو تقاليدها الآدميّة.

ولكنّها أمةٌ تدعو الناس بدعاية الله، وتُسمعهم خطابَ الخالق سبحانه، قائلةً للبشريّة جمعاء: أسلموا تسلموا.

إن هذا الخطاب الذي نوجَّهه للبشريّة ، بل للثقلين ، لا يحقّ لأحدٍ أن يتصوّر أنه يجوز له أن يكتبه من تلقاء نفسه وأن يُوجَّهَهُ لأحدٍ من الخَلْق ؛ لأنه خطابٌ يتضمّنُ ما لا يقدر عليه جميع البشر، إنه يتضمّن الوعدَ الأكيد المتحقّقَ بالحياة الطيّبة السعيدة في الدنيا، وبالثواب الأجلّ الأعظم في الآخرة { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

ولذلك فإن من ظنِّ أنه يحقّ له أن يُوجَّه مثل هذا الخطاب من تلقاء نفسه إلى البشريّة، كائناً من كان، فهو إنّما يُحِلُّ نفسه مَحَلّ الإله الخالق، ويَدّعي بذلك ما ادّعاه فرعون ونمرود من الألوهيّة، متعالياً على أبناء جنسه من البشر إلى هذا الحدِّ الأخرق من التعالي. ومن حقِّ البشر حينها، وكُلِّ واحدٍ منهم، أن يرفض الانصياع لمثل هذا الخطاب من بشرٍ مثله، بل على البشر أن يرفضوا سماعَ مثل هذا الخطاب، بل عليهم ألا يسمحوا لأحدٍ من البشر أن يترفـّع عليهم وعلى جنسه البشري إلى هذه الدرجة الخرقاء من الترفّع؛ لأن في مجرّد سماعهم لهذا الخطاب البشريّ إقراراً بعبوديّتهم لبشرٍ مثلهم !!!

ولذلك (أخيراً) فإن مثل هذا الخطاب الذي نُوجّهه إلى البشريّة، لا نوجِّهه على أننا أمةٌ تنتمي إلى أي انتماء بشري، ولا يجمعها أيُّ اجتماع مكانيِّ أو زماني أو حضاري، ولا يؤلَفُ بينها أيُّ مطامعَ اقتصادَية أو مطامح سياسيّة أو مصالح دنيويّة. إنه خطابُ الأمّة التي اتّبعت دين الخالق الواحد الأحد، الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له.

نعم .. إننا أتباع دين الإسلام، الدين الذي رضيه الخالقُ للبشريّة، وجعله آخرَ دينٍ يُصلح به شأن الثقلين، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وتتحقَّق بالإيمان به والعمل ِ بأحكامه سعادتُهم في الدنيا والآخرة، ولن تتحقّق سعادتهم بغير هذا الدين؛ لأنه الدينُ الوحيد الذي يرضاه الله للبشريّة بعد بعثة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فهو دين الخالق، والخالق وحده هو العالم بمصالح العباد وبما يحقّق لهم منافعهم في الدنيا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، والخالق وحده هو الذي يملك أمر الدنيا والآخرة، ويُدبِّر شؤونهما، وبيده كُلّ شيء، وهو على كل شيء قدير. ثم هو وحده سبحانه الذي يُجازي المحسنين بالإحسان والمسيئين بالعقاب في اليوم الآخر، فهو سبحانه وحده { مالك يوم الدين} [الفاتحة : 4] { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار} [غافر:16].

إنها حقيقةٌ محضة، يجب أن يقرّ بها كل العقلاء: وهي أن الدين الذي يُلزمُ الخالقُ المخلوقين به، والذي يُنظِّمُ لهم فيه ربُّهم جميعَ شؤون حياتهم، من علاقتهم به سبحانه، وعلاقتهم بالمخلوقين أمثالهم، على اختلاف أجناسهم وأحوالهم، ويبيّنُ لهم فيه طريقَ سعادتهم في الدنيا والآخرة=أنه سيكون حقاً الوسيلة الوحيدة الحقّة لبلوغ تلك السعادة، وأن البشريّة لن تجد وسيلةً لبلوغها إلا هذه الوسيلة، وأنه لا يحق لها أصلاً ولا يجوز أن ترفض هذا الدين والنظام الإلهي لخالقها سبحانه.

إنّ وجود الخالق حقيقةٌ لا يشك فيها عاقلٌ، بل هي أعظمُ حقيقةٍ في الوجود على الإطلاق. ولا يشك عاقلٌ أيضاً أن من أنكر هذه الحقيقة بلسانه من البشر، أنه قد اعترف بها قلبُه ، بل قد أعلنها هو بوجوده، وأعلنها معه الوجود كلُّه من حوله. ولهذا سقطت الشيوعيّة، مع أنها سقطت من يوم أن وُلدت؛ لأنها صادمت أعظم حقائق الوجود، وهي أن الوجود يدل على أنه لا بُدّ له من خالق عليمٍ حكيم عظيم قادر.

وهذا الخالق العظيم سبحانه، الذي دلّت مخلوقاته على عظمته وعلمه وحكمته، بما أوجده من هذه الأفلاك العظيمة، وما فيها من النظام الدقيق المتناهي الدقّة، وما أوجده على وَجْه الأرض من الأحياء المختلفة في البر والبحر، والنباتات، والجمادات، وما بينها من التناسق، وما فيها من عجيب الصنعة ولطيف التدبير، وغير ذلك مما لا زال البشر يبحثون عن أسراره، ويسعون إلى اكتشافه=لا يُمكن أن يكون قد خلق الخَلْق عبثاً بغير حكمة، ولا أن يكون قد خصَّ الثقلين بالعقل من سائر مخلوقاته على وجه الأرض دون سبب ؛ لأن هذا العمل يعارضُ حكمته وعلمه وعظمته سبحانه التي دلّت عليها مخلوقاته (كما سبق)؛ ولذلك يقول تعالى { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115].

إذن فلا بُدَّ أن تكون هناك غاية من خَلْق الخَلْق، ولا بُدَّ أن يكون هناك غاية من خلق البشر الذين نحن منهم، خاصةً أنّهم قد مُيّزوا بنعمة العقل والتفكير، التي استطاعوا من خلالها (وهي هبةٌ من الخالق لهم) أن يُسخِّروا كثيراً من المخلوقات وأنظمةِ الكون من حولهم لتحقيق كثيرٍ من المنافع الدنيويّة لهم .

ثم هل يحق للبشر أن يحدّدوا غاية إيجادهم والسبب في تخصيصهم بنعمة العقل؟! بل هل يمكنهم أصلاً أن يعرفوا هذه الغاية ؟! لا شك أنهم أعجز من ذلك، وأن هذا هو حقُّ خالقهم وحده، ولا يحق لأحدٍ أن يدّعي له شيئاً من الحق فيه غيره سبحانه وتعالى؛ لأن المخلوق لا يعلم ما في نفس المخلوق، فأنَّى له أن يعرف ما في نفس الخالق؟!!

ولذلك فإن تَرْكَ البشريّة دون بيان الغاية من خَلْقهم يُعارضُ حكمةَ الخالق وعظمته وعلمه، ويُعارضُ عَدْلَه أيضاً؛ إذ فيه تكليف بما لا يدخل تحت قدرتهم. ويعارِضُ رحمته سبحانه بعباده، وهو الذي وسعت رحمته كل شيء، بأن يتركهم هملاً بغير نظامٍ يُبيِّن لهم فيه أسباب سعادتهم ، التي خلقهم من أجلها.

ولذلك أرسل الله تعالى الرسل عليهم السلام، لبيان دينه، الذي هو نظام البشرية، الذي به يَصْلُح أمر الدنيا والآخرة ، وبه يعرف الإنسان الغايةَ من خَلْقه ، ويعرف طريق الوصول إلى تحقيق هذه الغاية. إذ بغير إرسال الرسل لن يكون بإمكان البشر أن يعرفوا غاية خلقهم ولا بطريق بلوغها، وبذلك لا يُمكن أن يُثاب من حقّق تلك الغاية وأن يُعاقب من لم يحقّقها، كما قال تعالى { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165]، وقال تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15].

وبذلك يتّضح أن إرسال الرسل هي الحقيقة الثانية الكبرى، التي ألزمتْ بالإيمان بها الحقيقةُ الأولى، التي هي وجود الخالق سبحانه. فوجود الخالق يدلّ على وجوب الإيمان بإرسال الرسل، وهذا ما لا يصحّ من عاقلٍ أن يُكابر في إنكاره.

والرسل إنما جاؤوا لتبليغ دين الله تعالى، وسبق أن ذكرنا أن دين الخالق وحده هو الذي يضمن للبشريّة السعادة الدنيوية والأخرويّة، ولذلك فإنه يلزم أن تتّبعه البشرية. وهذه حقيقةٌ ثالثةٌ كبرى، سبق إثباتها شرعاً وعقلا.

وكما أرسل الله تعالى إلى البشر رُسلاً منهم لتبليغ دينه إلى الأُمم السابقة، مثل نوح (عليه السلام)، وإبراهيم (عليه السلام)، وموسى (عليه السلام)، وعيسى بن مريم (عليه السلام) = فقد أرسل الله تعالى إلى البشريّة محمداً (صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أنبياء الله ورسله). فليست بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أمراً جديداً على البشرَية، كما قال تعالى { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ } [ الأحقاف :9]. فقد أرسل الله تعالى قبله رسلاً كثيرين، كما قال تعالى { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً { 163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164} رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [النساء:163-165].

إذن فإنكار رسالة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم لمجرّد أنه رسول الله، لا يُقبل من أحد؛ لأنه إن كان هذا المُنْكِرُ ممّن يؤمن برسولٍ قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قد أقرَّ بذلك عقيدةَ إرسالِ الرُّسُل، فلمَ يُنكر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؟! وإن كان هذا المُنْكِرُ ممن لا يؤمن برسول، فيلزمه أن ينكر وجود الخالق، وأن ينكر وجوده هو نفسه؛ للترابط بين هذه الحقائق الكبرى (كما سبق). وليس في الناس اليوم إلا أحد هذين الفريقين، فيلزم الناس كلّهم اليوم عدم إنكار نبّوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا كان إنكارهم لها مبنيّاً على مجرّد إنكار وَصْفِه بالرسالة.

وأمّا إن كان إنكار رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم لدعوى أنه لم يقم دليلٌ على صدق نبوّته، فهذا إمّا ناشئٌ من هذا المدّعي عن جَهْلِ وتقصير بالغ في البحث عن الحقيقة، أو ناشىءٌ عن عنادٍ واستكبار وإعراض عن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. وسنذكر – نحن– هنا في هذا الخطاب بعضَ دلائل نبوّته باختصار، تاركين مَهمّة البحث والتقصِّي للمنصفين الباحثين عن الحقيقة الكبرى، التي بها يسعدون في دنياهم وأُخراهم، وبالإعراض عنها يشقون في دنياهم وأخراهم. وقبل أن نذكر هذه الدلائل، فإنا نسأل أتباع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم (كاليهود والنصارى): ماذا لديكم من أدلّة صدق نبوّة موسى وعيسى عليهما السلام؟ فإنهم لن يذكروا دليلاً إلا ولدينا – نحن المسلمين – من جنسه ما هو أعظم دلالةً وأوضح برهاناً على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . بل الأغرب من ذلك: أننا أقدر على إثبات نبوّة موسى وعيسى (عليهما السلام) من أتباعهما، ولدينا من أدلّة صدق نبوّتهما (عليهما السلام) ما ليس عند أتباعهما !!! لكن تَميَّزَ نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بخلود بعض معجزاته، وعلى رأسها القرآن الكريم، كما يأتي بيانه.

وسنذكر دلائل من دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم باختصار، إذ هناك كتبٌ ومراجعُ فصّلتها وبيّنتها، وعلى الباحث عن سعادته في الدنيا والآخرة أن يبحث عنها ويدرسها. مع أنّ فيما سنذكره في آخر هذا الخطاب كفايـةً (على وجازته) لمن أنصف وتخلى عن مألوفاته السابقة الراسخة في نفسه بغير دليل، ولم يستكبر في الاعتراف بالخطأ ولو كان خطأً كبيراً !!

إن هذة الدلائل المثبتة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هي آخر المطاف وآخر النتائج وآخر الحقائق الكبرى التي أردنا إعلانها للثقلين، وهي أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، بعثه الله بدين الإسلام، وأنزل عليه كلامه تعالى وهو القرآن الكريم. كما أرسل الرسل من قبله ، وبعثهم إلى أقوامهم بدينه سبحانه، وأنزل عليهم كتباً: التوراة إلى موسى (عليه السلام)، والإنجيل إلى عيسى(عليه السلام).

إنّ إرسال الرسل حقيقةٌ تقرُّها العقول الصحيحة (كما سبق)، ويؤمن بها أكثر أهل الأرض. وإرسال الرسل إنما كان لتبليغ دين الله تعالى، ودين الله تعالى هو حُكْمُهُ ونظامُه الذي أرشد إليه خَلْقَه لتحقيق سعادتهم، التي لا تتحقق إلا من خلال التزام دين الله تعالى، وهذه هي عبادة الله، التي خلق الله الخَلْقَ لأجلها. فعبادة الخالق لا ينتفع بها الخالق، وإنما ينتفع بها المخلوق، بل هي إنما شُرعت لتحقيق غايةِ النفع له.

ومع أن الله تعالى قد أرسل الرسل بدينه، الذي هو هُداه ونوره للبشريّة، وأيّدهم بما يدل على صِدْقهم، إعذاراً إلى البشر وإقامةً للحجّة عليهم=إلا أن من الناس من أعرض عن هداية ربِّه، وعاند وأبى إلا اتّباع الشيطان، وأصرَّ إلا أن يُقيم دولةَ الباطل، وأن يعادي ويحارب أتباع دين الله تعالى، وأن يصرف الناس عن اتّباع الأنبياء والرسل ... إلى غير ذلك من أنواع الضلالات الكثيرة. فهل يُمكن أن يدع الله تعالى هؤلاء المعاندين لدينه، المقاتلين لأنبيائه وأوليائه، الظالمين لأنفسهم ولغيرهم، دون حساب وجزاء؟!!! { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36}[ القلم : 35-36]، وقال تعالى { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{21}وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{22} [الجاثية:21-22].

لقد اقتضت حكمةُ الخالق وعدله سبحانه أن تكون هناك نهاية لهذه الحياة الدنيا ولهذا الوجود الأول، ليعقبه وجودٌ ثانٍ وحياةٌ أخرى، تكون داراً للحساب والجزاء ، ليُثاب المحسن الذي التزمَ دينَ الله تعالى بالإحسان، ويُعاقبَ المسيء الذي خالف دينَ الله تعالى بالإساءة.

وهذا يعني أنه لا بُدّ للدنيا من نهاية، وهذا مما لا يشك فيه عاقل. وما دامَ أنَّ هناك رسلاً وأدياناً أُرسلوا لأهل هذه الدنيا الفانية، فلابُدّ أن يكون منهم رسولٌ هو آخرَهم وسيكون الدين الذي بُعث به هو آخرَ الأديان قبل فناء الدنيا. وعليه فإن مبدأ وجودِ رسولٍ خاتمٍ ودينٍ أخير مبدأٌ يدلّ عليه العقل، و لا غرابة فيه. بل الأمر المستنكر المرفوض عقلاً تصوّرُ وجود رُسُلٍ وأديان بلا نهاية ، في عالمٍ فانٍ مُنْتهٍ!!!

ولقد كان اختيار الخالق سبحانه لخاتمِ رُسُله هو أن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون دينه الذي أُمر بتبليغه ( وهو الإسلام ) هو آخر الأديان : قال الله تعالى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [ الأحزاب : 40] ، وقال صلى الله عليه وسلم ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي: كمثل رجلٍ بنى داراً فأتمَّها وأكملها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة (قال صلى الله عليه وسلم): فأنا موضع اللبنة، جئتُ فختمت الأنبياء)). وقال صلى الله عليه وسلم (( أُرسلتُ إلى الخلق كافّة ، وخُتِم بي النبيّون )).

ولذلك فإننا – نحن المسلمين– وإن كُنّا نؤمن أن جميع الأديان التي بُعث بها الرسل حَقٌّ من عند الله، وأنها تتفق في الأصول، كالدعوة إلى توحيد الله تعالى: بأنه سبحانه هو وحده الخالق المالك القادر على كل شيء، المدبِّرُ لهذا الكون، وأنه لا يحصل في الكون شيءٌ ( صَغُر أو كَبُر) إلا بعلمه و إذنه وأمره وحدَه سُبحانه. وأنه هو تعالى وحده المستحق للعبادة، فلا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له. وأنه عز وجل وحده صاحب الكمال المطلق في أسمائه وصفاته { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11].

ومن جملة الأصول التي تتفق عليها الأديان: الأمر بمحاسن الأخلاق، والنهي عن الفواحش، قال الله تعـالى {قـُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } [ الأعراف : 28]، وقال تعالى { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ النحل :90 ].

وهذا كُلّه هو أساس جميع الشرائع الإلهيّة، التي بُعث بها رُسل الله.

وإنّما تعدّد الرسل وتعدّدت الشرائع السابقة؛ لأن أتباع الأنبياء السابقين كُلّما مات فيهم رسول سُرعان ما تأتي أجيالٌ بعده تزيغُ عن شرعه، وتخالف الدين الذي بُعث به، وتحرّفُ كتاب الله الذي أُنزل عليه، حتى ربّما خالفت الأصل الذي بُعث به الأنبياء، وهو التوحيد ، فادّعوا لله تعالى الأبناء والأنداد والشركاء والشفعاء، وعبدوهم مع الله، أو عبدوهم من دون الله تعالى. فإذا فعل الأتباعُ ذلك أرسل اللهُ رسولاً ليعيدهم إلى شرعه، مجدِّداً ما خفي عليهم من معالم دينهم، ومصحِّحاً ما حرّفوه من كتاب ربِّهم. وهذا ما فعله موسى (عليه السلام) بعد يعقوب ويوسف (عليهما السلام)، وهذا ما فعله عيسى (عليه السلام) بعد موسى (عليه السلام)، وهذا مافعله (أخيراً) محمدٌ صلى الله عليه وسلم بعد موسى وعيسى وجميع أنبياءِ الله تعالى ورسله (عليهم وعلى نبيّنا أفضل الصلاة وأتم التسليم).

ولذلك فإن الإيمان بالرسول السابق وبجميع الرسل السابقين لا يُغني شيئاً بعد إرسال رسولٍ جديد، ولابُدّ لمن أدرك الرسول الأخير أن يؤمن به وأن يدين بالدين الذي جاء به، ولن ينفعه شيئاً إيمانُه بمن سبقه من الرسل واتّباعُه الدين السابق؛ لأن كل شريعةٍ جديدة من الله تعالى إنمّا شرعها لتنسخ ما سبقها، ولأن تكذيب آخر رسول تكذيبٌ للدين الذين يلزم من أدركه الإيمان به واتّباع أحكامه. ولذلك فإن من لم يؤمن بموسى ممن أدركه من بني إسرائيل سيكونون كفاراً لا يستحقون النجاة من عقاب الله تعالى، ومن لم يؤمن بعيسى من اليهود سيكونون كفاراً لا يستحقون النجاة من عقاب الله تعالى، ومن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى وجميع أمم الأرض سيكونون كفاراً لا يستحقون النجاة من عقاب الله تعالى.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتمَ الأنبياء ودينُ الإسلام آخرَ الأديان لزم الثقلين أن يؤمنوا بهما، وأن يرضوا بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، و بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبيّاً. ولذلك فقد أخذَ الله العهد على جميع أنبيائه ورسله أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لو أدركوه ، فكيف بأتباعهم؟! يقول الله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران : 81]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا حَظُّكم من الأنبياء وأنتم حظَّي من الأمم))، وقـال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، لا يَسْمَعُ بي من هذه الأُمّه يهوديٌّ ولا نصرانيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ به؛ إلا كان من أصحاب النار)). ولذلك (أيضاً) لن يقبل الله تعالى من الناس ديناً غير دين الإسلام بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كما

قال تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. ولذلك (أخيراً) كان القرآن الكريم ناسخاً لجميع الكتب السابقة، حتى لو لم تُحرّف وتُبدَّل، كما قال تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة:48].

وهذا كُلُّه هو الذي أَلْزَمَنا بتوجيه هذا الخطاب إلى الثقلين، وأوجبَ علينا القيامَ بهذه الَمهَمّة العظمى والدعوة الكبرى والنداء الأشمل والبلاغ العامّ إلى الجنّة والناس أجمعين.

ولذلك أيضاً فإن مثل هذا الخطاب لا يحق لأحدٍ أن يوجِّهه إلى البشريَّة (كما ذكرنا في فاتحة هذا الخطاب)، إلا أمّة الإسلام، ممن آمنوا بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهُم وحدهم المبلّغون عن الله تعالى دينَه الذي أتمَّه وأكمله ورضيه للناس { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة : 30].

وسيجب القيام بمَهمة توجيه هذا الخطاب، وسيلزم القيام بدعوته الكبرى، وسَيُخْتَصُّ بذلك دون مَنْ سواه ممّن يخالفُه=كلّ من دخل في هذا الدين من جميع أمم الأرض، في أيّ زمان ومكان؛ لأنّ هذا الدين دين الله الخالق سبحانه، لا علاقة له بأيّ انتماءٍ بشريّ (كما تقدم).

وحقٌّ على البشر كلِّهم أن يسمعوا هذا الخطاب، وأن لا يُعرضوا عنه. بل يجب عليهم فَهْمُه بدقّة، والتمعُّنُ فيه، والبحثُ عمّا يتعلقُ به، وبَذْلُ غايِة الجهد وطويلْ ِ الأوقات في ذلك؛ حيث إِن القرار الذي سيتّخذه من بلغه هذا الخطاب بعد سماعه هو أعظم قرارٍ على الإطلاق، بل هو – في الفرق الشاسع بينه وبين جميع القرارات سواه– في الحقيقة ينفرد بكونه القرار الوحيد!!!

إنه القرار الذي سيحدّدُ به الإنسان مصيره، وسيرسم فيه خُطا مستقبله: إمّا سعادة الدنيا والآخرة، أو شقاوة الدنيا والآخرة!!!

وحقٌّ للبشر كلَّهم أن لا يسمحوا لأحدٍ، كائناً من كان، أن يمنعهم من سماع هذا الخطاب، أو أن يحول بينهم وبين فهمه ودراسته؛ لأنه بذلك يخونهم أعظم خيانة، ويرتكب في حقهم أقبح جُرْم، ويتعدى عليهم أشنع اعتداء=إذ إنه بذلك سيكون سبباً في اتخاذهم قراراً خاطئاً، في قرار هُمْ أحوج أن يصيبوا فيه من أي قرارٍ آخر!!!

وحقٌ على البشر كُلِّهم، ممن بلغه هذا الخطاب، سواءً اتّخذَ أحدُهم فيه قراراً أو مازال في مجال اتّخاذ القرار=حقٌّ عليهم لأبناء جنسهم من البشر كُلِّهم أن لا يستأثروا بهذا الخطاب وحدهم، بل عليهم أن يُبلّغوه جميعَ البشر، وان يَسْعَوا في ذلك قَدْر وُسْعِهم؛ حيث إنّ لغيرهم من العقلاء حقَّ اتّخاذِ قراره بنفسه، وأن يحدّد مصيره بمحض إرادته، لا أن يكون تبعاً لغيره مُعيراً عَقْلَه وتفكيره للآخرين، خاصةً أنه قرار المستقبل والمصير، وأنه قرار القرارات كلها!!!

وإننا إذ ندعو إلى تدبُّر خطابنا هذا، ونحثُّ الناس جميعاً على التفكير العميق في مضامينه، وعلى البحث والقراءة والسؤال والدراسة الجادة الجاهدة بشأنه، من أجل الوصول إلى القرار الصحيح فيه=نكون قد أعلنّاها صريحةً واضحةً: بأن الحقّ المطلق هو ما تضمّنه هذا الخطاب، من الأمر باتباع دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربّه الواحد الأحد سبحانه؛ حيث إن الذي يأمر بالقراءة والبحث والدراسة لاتّخاذ قرارٍ عن اقتناع خاصّ وفي حُرّيةٍ كاملة، ويبلغ به التحدِّي لمن يخالفه هذا الحدَّ من التحدِّي، بل يصل به إلى تحدّي الثقلين جميعاً=لا يكون عاقلاً إلا وهو صاحب الحق المحض والصواب الخالص.

ولقد كان بإمكاننا أن نُجامل، وأن نتلطّف في العبارة، وأن نعرضَ خطابنا هذا على أنه خيارٌ من ضمن خيارات متعدّدة يحق للناس أن ينظروا فيها، ليتخيّروا منها ما شاؤوا. كان يمكننا أن نفعل ذلك، ونحن نعرف أن هذا هو الأليق، لكن في غير هذا الخطاب!! لأننا إنّما نبلّغُ دينَ الخالق سبحانه، وَفق أمر الله تعالى لنا بذلك. ولا نُبلِّغُ أفكارنا أو تصوُّراتنا التي ابتدعتها عقولنا أو حضارتنا، لكي يحق لنا حينها أن نعرضها بالأسلوب الذي نختاره أو الذي يختاره المخاطَبون.

لقد جاء هذا الخطاب قياماً ببعض الواجب علينا من ربَّـنا في تبليغ دين الله تعالى، وقياماً ببعض حقّ رسولنا ورسول الثقلين كافّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي بلّغَ دينَ الله أحسن بلاغ وأتمَّه وأكمله، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، وقياماً بحقّ البشريّة علينا (كما سبق)، لكي تتحمل مسؤوليّة نَفْسها أمام خالقها، ولكي تختار لنفسها: إمّا رضى ربِّها وثوابَه أو غضَبَه وعقابَه، وسعادتَها الأبديّة أو شقاءها الأبدي.

ولذلك فقد كان لِزاماً علينا، قياماً بتلك الحقوق: لربّنا عز وجل، ثم لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم للبشريّه جمعاء: أن نُعرّف البشريّة، بل الثقلين، بخاتم الأنبياء، الذي بُعث بآخر الأديان؛ حيث إنّ من آمن به رسولاً آمن بالدين الذي جاء به ديناً، ومن عاند وجحد رسالته كفر بالدين الذي جاء به من عند ربّه عز وجل، والذي لا يقبل الله تعالى من الثقلين ديناً سواه، والذي به يصلح شأنهم في الدارَين، ولن يصلح إلا به.

^

فمن هو خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؟

هو عبدالله ورسوله: محمد بن عبدالله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، اختاره الله تعالى من أفضل بيوت العرب وأعزّها وأشرفها، لما يتميّزون به من كرم النسب (فهم رأس المنتسبين إلى الرسولين الكريمين إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام))، ولما عُرِفوا به من كريم الصفات في رجاحة العقول وحُسْن الأخلاق.

لقد وُلد محمد صلى الله عليه وسلم بمكّة، في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، في العام الذي أهلك اللهُ تعالى فيه جيشَ الحبشة الذي كان عازماً على هدم الكعبة المشرّفة، فأهلكه الله تعالى على مشارف مكّة، قبل أن يحقق ما خرج لأجله من أرض اليمن. وكان ذلك العام هو عام (570م).

لقد وُلد صلى الله عليه وسلم يتيماً، حيث إن أباه كان قد تُوفّي وهو حَمَلٌ فكفله جدّه عبد المطلب، الذي كان سيدّ العرب.

ثم إن أُمَّه آمنة بنت وهب توفِّيت أيضاً، وله من العمر ستّ سنين. وبعدها بقليل توفي جدّه أيضاً، ليكفله عمُّه أبو طالب، الذي كان عطوفاً على ابن أخيه شديدَ المحبّة له.

فنشأ في كنف عَمّه أبي طالب، ورعى الغنم صغيراً، ثم عمل لمّا شبَّ مع عمِّه في التجارة.

وكانت قد ظهرت له من حين مولده إلى حين بلوغه سنَّ الرجولة دلائلُ كثيرةٌ تدلّ على عناية ربّه عز وجل به، وعلى حياطته له وحِفْظه وتأديبه.

واشتُهر بين قبيلته (قريش) وغيرها بمكانةٍ سامية، وعرفوه بعظيم بركته، وجميل صفاته، ومحاسن أخلاقه: من الصدق، والأمانة، والعَدْل، وكمال الرجولة، وسداد الرأي، ورجاحة العقل.

وقد حفظه الله تعالى قبل بعثته من أدناس الجاهليّة، ومن عبادة الأصنام، التي عبدها قومُه بعد تبديلهم ملّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، اللذين كانا قد بلّغاها أجدادَ قومه صلى الله عليه وسلم، وهي ملّة (كباقي الملل الإلهيّة) قائمةٌ على توحيد الله تعالى. ولكن هذه الملّة التوحيديّة قد بُدّلت وغُيّرت، كما وقع للأديان الإلهية الأخرى جميعاً، مثل اليهوديّة والنصرانيّة، التي بُدّلت أيضاً، وحُرّفت كتب أنبيائها. فأظلمت الأرض لذلك بالشرك، وبأصناف الظلم والضلالات والفواحش.

وبعد أن أتمّ محمد صلى الله عليه وسلم أربعين عاماً (أي سنة610م)، ازدادَ تَهْيِيءُ ربِّه له لاستقبال وَحْيه إليه، ولتحمُّل أعباء الرسالةِ العُظْمى الرسالة الخاتمة. ومن ذلك أنه كان قد حُبّبَ إليه الانعزال في إحدى المغارات البعيدة عن بيوت مكّة، وهو غار حراء، ليتعبّدَ فيه خالقه الواحد الأحد سبحانه وتعالى.

وفي إحدى الليالي من شهر رمضان من السنة المذكورة، وبينما كان يتعبّد كعادته في غار حراء ، فاجأه المَلَك جبريل (عليه السلام) بالنبوّة من الله عز وجل، كما نُبّئ غَيرُهُ من الرسل قَبْلَه. ولَقّنه جبريل (عليه السلام) حينها بضع آيات من كلام الله تعالى، فكانت أوّل ما يطرق سَمْعَه وسَمْع الدنيا من كلام الله تعالى، المسمى بالقرآن الكريم.

لقد كانت هذه الكلمات التي هي أول كلمات تتصل من السماء بالأرض، بعد رَفْع عيسى (عليه السلام)، وهي قوله تعالى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق :1-5].

وبذلك يُعلن هذا الدين من ساعة مولده ، ومن أُولى لحظات وجوده: أنه دينُ العلم والثقافة والحضارة؛ حيث كانت أُولى كلماته (اقرأ)، وكان في أُولى آياته ذِكْرُ (القلم)، الذي هو أداة الكتابة. والقراءة والكتابة هما وسيلتا التعلّم والتعليم والبحث والاكتشاف والحضارة والتقدّم.

لقد أفزع هذا الحادثُ الجلَلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، حتى طَمْأَنتْهُ زوجُه خديجةُ لمّا رجع إليها، لِمَا عرفته عنه من كريم الصفات وشريف السجايا، التي لا يُمكن معها أن لا يحوطه خالقُه عز وجل بالحفظ والعناية. ثم طَمْأنه أيضاً ورقةُ بن نوفل، وهو رجل من قومه، كان على علمٍ بالأديان الإلهية السابقة، وما فيها من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم إن الوحي استمرّ في النزول عليه بآيات أخرى من القرآن الكريم، وأُمر فيها بتبليغ دين الله تعالى، وأن يصبر على أذى الناس في سبيل ذلك. فَأْتمر لأمر ربِّه، وابتدأ بالدعوة سِرّاً. فكان أسرعُ الناس إيماناً به أعرفَهم به، لما علموه فيه من الصدقّ والأمانة ورجاحة العقل وعظيم البركة. وكان من هؤلاء المؤمنين الأوائل: زوجه خديجة بنت خويلد، وصديقه أبو بكر، وابن عمِّه علي بن أبي طالب.

ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - صدع بالدعوة، وأعلنها صريحةً على رؤوس الأشهاد. وأخذ يذهب إلى مجالس الناس ونواديهم ومجامعهم وأسواقهم، يدعوهم إلى دين الله تعالى، ويقرأ عليهم كلامه سبحانه (القرآن الكريم)، آمراً لهم بما في القرآن الكريم، من الإيمان بالله إلهاً وحدًا لا شريك له، وإفراده عز وجل بالعبادة، مُبيّناً لهم فساد الشرك الذي هم فيه، وبطلانَ عقائد مَنِ ادّعى مع الله أنداداً كالأبناء والشُّفعاء المعبودين مع الله ظلماً وضلالاً. كما كان يأمرهم بمحاسن الأخلاق جميعها، وينهاهم عن مساوئ الأخلاق جميعها.

فكان يأمرهم: بالصدق، والإحسان، والعدل، والرحمة، والعفو عن الإساءة، والأمانة، والوفاء بالوعد، والعِفّة، والحياء، والكرم، والإيثار، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، ونُصْرة المظلوم، وإعانة الضعفاء، والتصدّق على الفقراء والمحتاجين .. وغير ذلك من محاسن الأخلاق والأعمال، وكان ينهاهم عن أضدادها من مساوئ الأخلاق والأعمال.

ومع أن المصدّقين له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به كانوا يزدادون يوماً بعد يوم، إلا أن المعاندين المستكبرين كانوا أيضاً يزدادون عناداً واستكباراً وإصراراً على كفرهم وضلالهم. ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بمعارضة دعوته صلى الله عليه وسلم، أشدَّ المعارضة، وحاربوها بكل ما أُوتوه من قوّة ومكر وخُبْث.

ولمّا رأى أولئك المعاندون أن أتباعه يزدادون، ولما خشوا من إقبال الناس على الدين الذي جاءهم به من خالقهم=أخذوا في صدِّ الناس عن هذا الدين بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وبوَصْفه بأنه كذاب، أو ساحر، أو كاهن، أو شاعر. وأخذوا في إيقاع أشدّ أنواع الأذى بمن آمن به، فتفنّنوا في تعذيبهم بصنوف التعذيب المختلفة، وبالقتل. وبالغوا في القتل والتعذيب، حتّى اضُّطر بعضُ المسلمين، وبإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يُهاجروا من بلدهم ووطنهم، بل أن يتركوا بلاد العرب كلّها إلى الحبشة، فراراً بدينهم، الذي أوذوا من أجله أشدّ الإيذاء.

بل بلغ من إيذاء المشركين أن فرضوا حصاراً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه ومن يناصره من قراباته، لقد كان حصاراً اقتصاديّاً واجتماعيّاً، بألا يُشترى منهم شيء ولا يُباعوا شيئاً، وأن لا يُتزوَّجَ منهم ولا يُزَوَّجوا، وأن يُحْصَروا في أحد شعاب مكّة. ودام هذا الحصار ثلاث سنوات، أُوذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إيذاءً شديداً، حتى أكلوا أوراق الشجر والعظام البالية من شدّة الجوع.

ومع هذا الإيذاء الشديد من كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع إيذائهم له أيضاً بالسبّ والافتراء عليه، والسخرية منه والاستهزاء به=فقد كان أشدّ أنواع الأذى وَقْعاً على نَفْسه، وأعظمها تأثيراً عليه، هو إصرارُ هؤلاء المعاندين على ضلالهم، مع ما يسمعونه من كلام الله تعالى المعجز ، ومع مايرونه من دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم. حتى وَصَفَ الله تعالى حاله في ذلك، بأنه يكاد يُهلك نفسه حرصاً على إيمانهم ونجاتهم من عذاب الله تعالى، فقال تعالى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6]، وقال تعالى {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [الشعراء :3]. وبيّنَ له ربُّه عز وجل أن عدم إيمانهم به لم يكن لتقصيره صلى الله عليه وسلم في البلاغ، ولم يكن لنقصٍ في أدلّة نبوّته ؛ ولذلك فإن عدم إيمانهم لم يكن لأنهم يعتقدون كذبه حقيقة ، بل هم يعرفون صدقه ، ولكن العناد والاستكبار هو الذي يدعوهم إلى كل هذا الإصرار على الباطل. ثم يُذكّره ربُّه بأن هذه هي سُنَّة الله تعالى في الكون، وهي سنة الصراع بين الحق والباطل، وأن جميع الأنبياء والرسل قد قُوبلوا بمثل هذا التكذيب والإيذاء. فقال تعالى { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ {33} وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:33-34].

وقد حاول قومُه شتّى الأساليب أن يثنوه عن دعوته، بالأذى (كما سبق)، وبالإغراء بالمال والرياسة والنساء وغيرها من ملذّات الدنيا، وبالجدل والمغالطات الكلامية، وبالمطالبة بالمعجزات والخوارق، والتي وقع بعضها كما طلبوه، لكنهم صاروا يطالبونه بالمزيد منها على وَجْه السخرية، كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً {90} أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً {91} أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً {92} أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً{93}[الإسراء:90-93]، فما زاده صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلا صبراً على دعوته، وإصراراً على تمام تبليغها. مع رحمة هؤلاء الضُّلاّل، والعفو عن إساءتهم، رجاء أن يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، ولو بعد حين. مع أن الله سبحانه قد خيّره غير ما مَرّة أن يُنزل عليهم عذابه، فكان صلى الله عليه وسلم يختار إمهالهم رأفةً بهم وحرصاً على نجاتهم.

وفي أثناء الحصار الذي ضربه المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، ماتت زوجُه خديجة وعمُّه أبو طالب، وكانا من أكثر الناس مناصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجه خديجة كانت أول من آمن به، وتعينُه برأيها السديد ومالها، وعمُّه كان يدافع عنه بجاهه ومكانته في قريش حميّةً لابن أخيه. فتأثر النبي صلى الله عليه وسلم لموتهما، واشتدّ إيذاء المشركين له. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب التي تَرِدُ إلى مكة داعياً لهم إلى دين الله تعالى، عسى أن يجد فيهم من يؤازره منهم في الدعوة إلى الله وتبليغ شرعه. فلم يجد عند عامّة القبائل إلا الإعراض، بسبب الدعاية القويّة ضِدَّه التي كان قومُه من كفار مكّة يُذيعونها بين الناس والغرباء الواردين إلى مكة قبل لقائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ومكث النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك أكثر من عشر سنين، لايجد في قبائل العرب من يناصره، حتى التقى في موسم للحج بوفد من الأوس والخزرج، وهما قبيلتان عربيتان من سكان المدينة النبويّة التي تبعد عن مكّة أكثر من أربع مئة كيلٍ شمالاً. فعرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلامَ عليهم، فأسلموا، وبايعوه على الدين الذي جاء به من الخالق سبحانه. وعادوا بعد موسم الحج إلى بلدهم المدينة، وبدؤوا هم أنفسهم بالدعوة إلى الدين الجديد الذي آمنوا به، فتابعهم بعضُ أهاليهم. ثم لمّا كان العام القابل، وجاء موسم الحج، التقى عددٌ آخر وأكبر من العدد الأول من الأوس والخزرج بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام، فآمنوا به، وبايعوه على المناصرة له وأن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم.

ثم إنه أُذن للنبيّ صلى الله عليه وسلم من ربِّه عز وجل أن يأمر أصحابه بمكة، الذين بلغ بهم الإيذاء أشدّ ما يمكن أن يبلغه، في أن يُهاجروا إلى المدينة؛ فراراً بدينهم، ونشراً لتعاليم الإسلام بين من أسلم من أهلها في اللقائين السابقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوةً إلى الإسلام بين من لم يُسلم منهم.

وهذه هي الهجرة الثالثة للمستضعفين من المسلمين بمكّة، حيث سبقتها هجرتان إلى الحبشة، وهذه كانت بعد هاتين الهجرتين، وكانت إلى المدينة لا إلى الحبشة.

لقد خرج المسلمون من مكّة، وهي وطنهم وأحبّ بقاع الأرض إليهم، تاركين وراءهم فيها بيوتهم وأموالهم وأهاليهم من الآباء والأمهات والأبناء والزوجات، تقديماً لإقامة دين الله تعالى على الأرض وزهداً في كل ما سواه من أمور الدنيا ومتاعها وملذّاتها. وقد وقع لهم في سبيل ذلك أسمى ما يُقَصُّ وأجلّ ما يُذكر عن استرخاص الدنيا كلّها؛ مقابل رضى ربهم ورجاء بلوغ جنته والنجاة من عذابه في الآخرة.

لقد هاجروا إلى المدينة مستخفين عن كفار مكّة، آحاداً وجماعات، حيث إن كفار مكّة كانوا يمنعونهم من ذلك أشدّ المنع، لما يعلمونه من أن ذلك سيكون بداية إنشاء دولة الحق في المدينة.

وبعد أن هاجر أكثر المسلمين من مكّة إلى المدينة، أُذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر هو أيضاً إليها، وذلك بعد أن كان قد أقام بمكّة بعد بعثْته ثلاثة عشر عاماً، يدعو الناس فيها إلى دين الله تعالى وتوحيده بالعبادة ومحاسن الأخلاق والأعمال.

وقد كان المشركون يخشون من هجرته، وقد حاولوا مَنْعَه منها بكل ما يستطيعون من المكر وتدبير المكايد ومحاولة القتل والسجن. لكنّ الله مكّنه من الخروج من مكّة، مصطحباً معه أحبّ أصحابه إليه: وهو أبو بكر الصِّدّيق رضي الله عنه. فخرج صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه مستخفيَيْن من مكة، قاصدين المدينة، في حادثة تاريخية جليلة، مليئة بالعظات، ثريّةٍ بالمواقف الإيمانية التي تلين لها القلوب وتذرف منها العيون.

وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبُه أبو بكر طريقهما إلى المدينة، حتى بلغا مشارف بيوتها، وفي منطقة عند مدخلها يُقال لها قُباء، خرج له المسلمون: من المهاجرين، ومن الأوس والخزرج (الذين لُقِّبوا بالأنصار)، فقد كانوا سمعوا بخروجه من مكّة، وكانوا يترقّبون وصوله في غاية الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم؛ فاحتفى به المسلمون من المهاجرين والأنصار أشدّ احتفاء، وفرحوا بَمقْدَمِه أعظم الفرح، وكان يوماً مشهوداً جليلاً، لا للمسلمين فَحَسْب، ولا للبشريّة كلّها وحدها، بل للحقّ وأهله من أهل السموات والأرض على مَرّ التاريخ، وإلى نهاية التاريخ في الدنيا، وإلى ما بعد ذلك في الحياة الأبديّة في الآخرة. ولذلك اتّخذ المسلمون هذا الحدث تاريخاً لهم ، وهو حَدَثُ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة.

وقد كان وُصُوله صلى الله عليه وسلم إلى قُباء يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، في وقت الضُّحى، حين اشتدت الشمس وكادت تعتدل في كبد السماء. وهو يوافق يوم عشرين سبتمبر من سنة (622م).

ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في قُباء (على مشارف بيوت المدينة) أربع عشرة ليلة، أسَّسَ فيها أول مسجدٍ على وجه الأرض يُبْنَى في الإسلام.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة، ليبني فيها مسجدها وبيته بجواره. آمراً أصحابه ألا يتأنقوا في بناء المسجد والبيت، بل أن يكون عريشاً كعريش موسى (عليه السلام). وقد كان صلى الله عليه وسلم يبني المسجد والبيت معهم بنفسه، وينقل لَبِناتِه ويضعها معهم بنفسه .

لقد تأسست دولة الإسلام (وهي دولة الحق) فعلاً في المدينة، وصُدِحَ بالأذانِ لأول مرة في التاريخ من مسجدها بعد بنائه؛ ليكون هذا الأذان إعلاناً لقيام دولة الدين الذي رضيه الله تعالى للعالمين، وجُعل الأذانُ لذلك مرتبطاً بأعظم شعائر هذا الدين بعد الشهادتين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ألا وهي الصلاة التي هي ثاني أركان دين الإسلام الخمسة، والتي هي: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً.

وما إن استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبدأ يدعو الناس إلى دين الله عز وجل، حتى أسلم عامة أهل المدينة، إلا فئتين منهم، وهما: المنافقون، والمستكبرون الحاسدون من أهل الكتاب (كاليهود).

أمّا المنافقون، وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والذين إنمّا ظهروا لمّا أصبح للإسلام وأَهله شىءٌ من القوّة والمنعة : فقد كانوا (وما زالوا) من خلال تَخَفِّيهم الدنيءِ هذا في صفوف المسلمين، لا يألون جهداً في محاربة المسلمين بكل الوسائل، وهُمْ وإن كانوا قِلّةً من جهة العَدَد، لكن سُوءَ أثرهم على الأمة الإسلامية كان (وما زال) عظيماً؛ لأنهم كالداء الذي يَنْخُرُ في جسد الأُمّة من داخلها، ولأنهم جواسيسُ لأعدائها الخارجيين.

وأمّا اليهود الذين كان يقطن المدينه بعضٌ من قبائلهم، والذين عرفوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم من حين أن رَأَوْهُ، ولم يشكُّوا أنه هو الرسول الخاتم الذي بشَّرَ به الأنبياءُ من قبل ووُصف في كُتُب الله السابقة=فقد عاند أكثرهم، وحسدوا بني إسماعيل عليه السلام من العرب أن يكون خاتم الرسل منهم؛ فهم عند أنفسهم شعبُ الله المختار، وخير أمم الأرض قاطبة، وكل الناس عبيدٌ لهم !! وهُمْ بذلك متغافلون عمّا جاء في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم واسمه ونسبه، ومتغافلون أن هذا الاختيار حقٌ للخالق لا لهم، ومتغافلون أن اختيار الله تعالى للنبي الخاتم من أيّ جنس كان لا يُبيحُ لهم إلا الإيمان به واتّباع الدين الذي أُمر بتبليغه للناس كافّة، ومتغافلون (أخيراً) أنه لا علاقة بين جنس هذا الرسول الخاتم ورسالته العالميّة التي لا تُفرق بين أجناس الناس وبلدانهم وألوانهم ولغاتهم في شيءٍ من تعاليمها من أوامر الله تعالى ونواهيه وعبادته. لقد تغافلوا عن هذه الحقائق كلّها، بعد أن أعماهم الحقد والحسد، لما تَشَرَّبَتْهُ قلوبُهم من العنصريّة والتعالي على البشر جميعهم، فأصّروا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربة دينه وأتباع الملّةِ التي بُعِث بها أشدَّ المعاداة والمحاربة؛ إلا العدد القليل منهم، ممن فتحوا أعينهم وقلوبهم لتلك الحقائق، وأنصفوا من أنفسهم، وأرادوا لها الخير في الدنيا والآخرة.

وهذا يعني أن إنشاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لنواة الدولة الإسلامية بالمدينة لم يُخفَّف شيئاً من عِبْءِِ دعوته صلى الله عليه وسلم، ولاهَوّنَ من عناء تبليغ دين الله تعالى الذي كان يعانيه بمكة. بل ما زال أعداؤه الأولون من مشركي مكة يحتالون بكل ما يستطيعون من مكرٍ وقوّة أن يُوقعوا به وبأتباعه وأن يُطفئوا نور الله الذي جاء به، ويُناصرهم في ذلك أعداؤه الجُدُد من المنافقين والحاسدين المعاندين من أهل الكتاب. وفي المقابل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال حريصاً على هداية هؤلاء جميعاً وعلى نجاتهم من سخط الله تعالى وعذابه، سالكاً في سبيل تحقيق ذلك كُلّ ما يستطيعه من جُهْد ووقت، ومن رفقٍ ورحمة وحكمة، ومن علم واحتجاج ممّا علّمه ربُّه عز وجل وبيَّن له من الحجج والبراهين، مُؤيَّداً مع ذلك كلّه بالمعجزات والخوارق التي يراها ويسمعها الجميعُ مؤمنُهم وكافرُهم.

وأمامَ تكالُب الأعداء وشراسة حربهم ضدَّ الإسلام ونبَّيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وبعد أن شعر أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار بأنّهم أصبحوا صفاً واحداً في مواجهة أعدائهم، بعد أن كانوا قبل الهجرة متفّرقين ليس لهم أيّ قوّة=تَمَنَّوْا أن لو أََذِنَ الله تعالى لهم بالدفاع عن دينهم وعن دولته الناشئة ولو بالقوة والقتال، حيث لم يكن مأذونا لهم بذلك في مكة ، ولمدة ثلاثة عشر عاماً فيها. فلقد علم المسلمون حينها من خلال السنوات التي مرت عليهم بمكة، ومن خلال الواقع الحالي لهم في المدينة، ومن خلال تاريخ الصراع الأزلي بين الحق وأتباعه والباطل وأتباعهً=أنه لابد من حصول مواجهة ومواجهات قوية وصارمة بينهم وبين أعداء دين الله تعالى وأتباع دينه. إنها سنةٌ كونيةٌ يكرّرُ التاريخُ فيها نَفْسَه في كل عصر وأوان: فأتباع الباطل لن يكفُّوا عن محاولة طمس ضوءِ الحق واستئصال أنصاره، كما أن على أنصار الحق أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يُبلّغوا الحق للناس، ممن لا يحول بينهم وبين الإيمان بالحقّ ومناصرته إلا أنهم لم يعرفوه ، فهم ليسوا كالمعاندين المستكبرين الذين يعرفون الحق ويصرون على الباطل. أما الحقَّ نَفْسُه فهو منتصرٌ منتصر؛ لأنه دين الإله الحق سبحانه وتعالى{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ويقول تعالى{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ{8}هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:8-9].

ولقد كان المسلمون بعد إحساسهم بقوتهم، المستمدة من إيمانهم الصادق اليقينيّ أنهم هم وحدهم أنصار الحق، وأن الله تعالى مؤيدهم، وسيجعل العاقبة لهم ولو بعد حين. وبعد أن رأوا وِحْدَةَ صفِّهم، وما بينهم من الأُلْفَةِ والأخوّة الإيمانيّة القويّة والرحمة والتعاون على الخير والإيثار=يَتَشَوّقُون لذلك اللقاء الحاسم بينهم وبين أعداء دين الله تعالى. مع أنهم لا يشكُّونَ أدنى شك أنهم من جهة الموازين المادّيّة أضعف من عدوهم، وأقل عَدَدَاً وعُدَدَاً بما لا يمكن أن يوازن بينهما؛ فهم كسفينة في خضم محيط هائج مائج من الأعداء في كل بقاع الأرض. لكن إيمانهم ويقينهم ورغبتهم في رضا ربهم ونوال ثوابه جعلهم مستعدين لتقديم أعظم التضحيات، راغبين في أن ينجحوا في اختبار إيمانهم وثباتهم عليه ولو بإراقة دمائهم وبَذْل أموالهم ودنياهم كُلِّها.

ومع أن هذه المواجهة الحاسمة بقيت غير مأذون بها بمكة لمدة ثلاثة عشر عاماً، إلا أن الله تعالى بحكمته البالغة وعلمه بكل شيء وعدله الكامل سبحانه وتعالى قد أذن بها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وقد جاء هذا الإذن في كتاب الله تعالى بأسلوب رائع معجز يأخذ بمجامع القلوب، في بضع آيات، تتضمّنُ بيانَ عدالةِ الإذن بالقتال، وأنه بسبب الظُّلم الذي وقع ويقع على أنصار دينه سبحانه، ومع أنه لم يقع من أنصار دينه عز وجل شيءٌ يقتضي مواجهتهم بالقوّة، إلا أنهم كانوا يقولون بأفواهم: "ربُّنا الله"، ولم يقاتلوا ولم يحاولوا ذلك، مع أنهم أولى بذلك وأحق؛ لأنّهم أهل الحق. وبذلك يظهر عِظَمُ ظُلْمِ أعداءِ دين الله تعالى، ومقدارُ شراسةِ حربهم ضدّ الإسلام وأتباعه، وعدالة تشريع القتال والإذن به لمواجهتهم. ثم يذكر الله تعالى أن هذه سنّةٌ كونيّة، وهي سُنّة المدافعة بين الحق والباطل، وأن الإذن بالقتال وتشريعه ليس خاصاً بدين الإسلام، فقد كان مأذونا به لموسى ويوشع بن نون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، وهذا مما نؤمن به نحن المسلمين ، ويؤمن به أيضاً اليهود والنصارى (لأنه موجود في التوراة وأسفار الأنبياء التي بين أيديهم اليوم). وبَيّنَ عز وجل أن القتال لو لم يشرع لأنصار دينه من أهل الحق، لطمس الباطلُ الحقَّ، ولما أبقى أتباعُ الباطل من معالم دين الله من الكنائس والمعابد والمساجد شيئاً؛ فهم لو تركناهم ما تركونا!! و ما فترةُ عدم الإذن بالقتال عن المسلمين ببعيد، بما فيها من القتل والتعذيب!!! ثُمّ بيّنَ الله عز وجل الغرض من الإذن بالقتال للمؤمنين، وأنّه ليس لأي غرض دنيويّ ، بل هو لغرض ٍ واحد فقط، وهو إقامة دين الله على أرض الله وبين عباد الله عز وجل. ثم ختم الله تعالى الحديث عن هذا الموضوع ببيان أن مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكذيب ومناصبته العداء ليس أمراً خاصاً به، بل هي عادةُ المعاندين المستكبرين من أقوام الأنبياء السابقين، وأن العاقبة كانت في كل مَرّة لأهل الحق، بعد إمهال أهل الباطل فترةً من الزمن ؛ لتقوم الحجة الكاملة عليهم، واستدراجاً لهم.

يقول تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41} وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ {42} وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ {43} وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ{44} [الحج: 39-44].

هذه هي الظروف والأحوال التي شُرع فيها الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذه هي آية الإذن به. ومن هذين الأمرين يتضح غرض الجهاد وهدفُه غاية الوضوح ، وهو ما كان واضحاً عند المسلمين أيضاً غاية الوضوح. فهو إنما شُرع لمقاومة الباطل وَدفْع صولته على الحق، ولنشر الحق بين من لم يكن يحول بينه وبين اتّباعه إلا عدم رؤيته.

إذن فللجهاد سببان، لا ثالث لهما:

الأول: الدفاع عن الحقوق الشخصية: كالدين، والعرض، والنفس، والمال، والوطن. وهذا حقٌ لا خلاف في عدالة مشروعيتّه، إلا عند من أراد استعباد غيره من البشر وأن يسلبهم حُرّيتهم!

الثاني: لإيصال صَوْت الحق إلى الآذان التي لم تطرقها إلاّ أبواقُ الباطل وضجيجُه، ولعَرْض دين الله تعالى على القلوب التي مُنِعت من أن لا تعرف إلا ظلامَ الكفر وظُلم الشرك. فدولة الباطل وسدنته وطواغيتُه، وعلى رأسهم الشيطان (عدوّ البشريّة الأول، الذي أخرج أبويهم من الجنّة)، وهم الذين امتنعوا عن الخضوع لدين خالقهم، مع علمهم بأنه دين خالقهم، استكباراً وعناداً للخالق سبحانه وتعالى=لن يروق لهم أن تنتصر دولة الحق، وأن ينتشر دين الله تعالى بين الناس. وهم يعلمون أنهم على الباطل، وأن ظلام باطلهم لا يَقْوَى أمام ضياءِ الحق، وأن كثيراً من أتباع الباطل لو جاءهم بصيصُ ذلك الضياء لا نقادوا إليه. ولذلك فمن الطبيعي أن يحرص أعوان الباطل وطواغيته أن يسدوا الآذان ويحجبوا الأعين لأولئك الأتباع، وأن يبنوا الأسوار ويسدلوا الستور بينهم وبين الحق؛ لكي لا يفقدوا أولئك الأتباع، الذين لو تُركوا لسماع صوت الحق لانقادوا لحُجَجِه الآسرة للقلوب، ولأقبلوا عليه إقبال الظامئ إلى الماء الزلال. فلا مناص حينها للحق من أن يواجه دول الباطل بالقوة، وأن لا يقف مكتوف اليد أمام تلك الحجب التي ضربها الباطل على أعين وآذان وقلوب أتباعه، ممّن لو تبدَّى له حاجبُ شمس الحقّ لاَ نْقَشَعَ أمامَه ظلامُ الباطل وانزاحت سدوله مِن على قلبه. فعلى أنصار الحق وعلى أتباع دين الله تعالى: أن يكسروا أسوار الباطل، وأن يهتكوا ستور أعوانه، بأن يحاربوا دولته التي رفعت تلك الأسوار وأرخت تلك الستور بين الحق والظامئين له الراغبين فيه.

إذن فالفتوح الإسلامية لم تكن قطُّ لإجبار الناس على تغيير أديانهم بالقوة، ولم يعتقد المسلمون أنه يحقُّ لهم ذلك شرعاً في يوم من الأيام، كما أنه لا يصحّ لهم أن يعتقدوا أنه يحق لهم شرعاً أن يتركوا دول الكفر تمنعُ الناس وتصدّهم عن دين الله تعالى.

إن دين الإسلام الذي هو دين الخالق لم يُبح للمسلمين أن يجبروا الناس على تغيير أديانهم بالقوة، لا لأن تلك الأديان ليست باطلة، بل هي باطلةٌ كلّها إلا دين الإسلام ؛ ولكن لأن الخالق سبحانه (وهو الذي فطر البشر على ما هم عليه من الفطرة) يعلم أن الإنسان لا يمكن أن يغير معتقداته بالقوّة والإجبار، وأن العقائد لا تتبدّل بالترغيب والترهيب وحدهما، وإنما تتبدّل بالقناعة الناتجة عن الاختيار الحُرّ، ثم القناعة قد تكون قناعةً صحيحةً: إذا كانت ناتجةً عن دليل صحيح وبرهان حقيقي، وقد تكون قناعة غير صحيحة: إذا لم تكن ناتجة عن ذلك.

إذن فالفتوح الإسلامية إنما كانت حرباً لدول الكفر التي منعت شعوبها من سماع دعوة الحق، والتي صدت مواطنيها عن دين خالقها الذي لا سعادة لها ولا راحة ولا اطمئنان بغير الإيمان به وتطبيق أحكامه. ليكون الغرض من الجهاد حينها تمكين دولة الحق من عرض دين الله العرض الصحيح الكامل، لا العرض المشوه الناقص (كما يحصل قديماً وحديثاً من الباطل ودُوَلة وأنصاره)، وليُتَْركَ للناس بعد ذلك اختيارُ الطريق الذي يريدون، دون تدخل أحدٍ - بأي نوع من أنواع التدخُّل - في سبيل اتخاذهم قرارهم بكل وضوح وحُرّية، وليكون عليهم بعد ذلك أن يتحملوا نتيجة قرارهم { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].

وهذا هو معنى قوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال:39]؛ حيث إن القاعدة الراسخة في دين الإسلام، وهي عدم الإكراه في الدين، قد جاءت في كتاب الله واضحةً ناصعة { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وهذه القاعدة جاءت مشفوعة بما يُشْبه تَعْليلها وبيان سبب تقعيدها، حيث قال الله تعالى فيها { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{256} اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَاخَالِدُونَ{257} [البقرة:256- 257]، فعدم الإكراه في الدين كان لأنّه قد تّبينَ واتضح سبيل الرشاد من سبيل الغواية. وهذا كما أنه صريحٌ في وجوب ترك الناس أحراراً في اختيارهم للدين الذي كانوا عليه أو للدين الحق، فهو صريحٌ أيضاً في وجوب تحقيق أسباب هذا الاختيار الحُرّ، وهو أن يكون الرشد قد تبين وامتازَ عن الغيّ، وأمّا إذا لم يتبين الرشد من الغيّ: فكيف سيمكن أن يتحقق الاختيار الحر؟! بل كيف سيتحقق الاختيار أصلاً إذا لم يكن لديّ إلا خيارٌ واحد، بل سبيلٌ واحدٌ فقط، هو الغيّ وحده (أو الغيّ المختلط بالرشاد، أو الرشاد المشوّه الناقص، اللذان هما غيٌّ أيضاً)؟!! إنني في هذه الحالة، حالة عدم تبيّن الرشد من الغيّ، سأكون أبعد ما أكون عن الاختيار، بل أنا حينها مُكْرهٌ، شعرتُ أو لم أشعر!!!

ولذلك فقد جاءت الفتوح الإسلاميّة تحقيقاً للاختيار الحُرّ، بتبيين الرشد من الغي، وهو الاختيار الذي منعت دولُ الباطل شعوبَها من الوصول إليه أو أن يصل إليهم، بحصرهم ضمن اختيارٍ واحدٍ فقط، هو الغي!!!

إن الجهاد في سبيل الله، كاسمه: جهاد في سبيل الله، فهو مشروع لإقامة دين الله تعالى. وليس مشروعا استعباداً للبشر، ولا طمعاً في المكاسب المادية من الاستئثار بالثروات واغتصاب الأملاك وسَلْب الأموال، ولا ليكون سُلّماً لتحقيق المطامع المعنويّة من بَسْط النفوذ وفرْض السيطرة واستعراض القوّة. وقد كان هذا واضحاً غاية الوضوح عند المسلمين، حتى قالها أصغر جندي مسلم لأعظم قائد فارسي في زمن الفتوح الإسلامية: " جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".

فلهذا الغرض الشريف والغاية السامية فُرض الجهاد في سبيل الله تعالى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

وبعد سنة ونصف تقريباً من وصوله صلى الله عليه وسلم وقع أوّل لقاءٍ بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر. لقد دارت رحى أوّل معركة إسلاميّة على أرض بَدْر، وهي موضع يبعد عن المدينة (155 كيلاً) جنوباً، وذلك في 17 رمضان في السنة الثانية من الهجرة، الموافق: فبراير من سنة 624م.

لقد كانت موقعة بَدْر مثالاً رائعاً للصِّدام المادِّي الحِسِّي الصريح بين الحق والباطل، ليجسِّدَ الصِّدامَ المعنويَّ الأبديَّ بينهما أوضح تجسيد، جاعلاً له بهذا التجسيد صراعاً مُشاهَداً ماثلاً للعيان، لا مجرّدَ صراع فكريّ أو حضاريّ، لِيَعْظُمَ اليقينُ بذلك على أن مثل هذه المواجهة لابُدّ أن تكون. إن هذه المواجهة حقيقيةٌ، ولو تأخَّرت أحياناً، لكنّها محتومة، لها أسبابها وأبعادها المعلومة، ونتيجتُها محسومة { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].

وكان سبب هذه الغزوة أن كفار قريش الذين كانوا قد استلذّوا إيذاءَ المسلمين وتعذيبَهم وقَتْلَهم بمكّة، ولم يزدادوا مع امتداد الوقت إلا استمراءً لهذه اللذّة، مغترِّين بقوتهم وبعدم قتال المسلمين لهم ودفاعِهم عن أنفسهم=قد أسكرهم الغرور، حتى نَسُوا أن الهجرةَ قد وَحّدت صَفَّ المسلمين، وأن موقع المدينة في شمال مكّة يقع على مقربة من قوافلهم التجارية المتّجهة إلى بلاد الشام، وأن التعرُّضَ لها من قِبَل المسلمين أصبح أمراً مقدوراً لهم، وأنه هَدَفٌ قريبٌ وسهلٌ وعادلٌ لهم، بل هو - في الحقيقة - ردٌّ على شيءٍ قليل من الأذى والتعذيب والقتل الذي كانوا ( وما زال المستضعفون منهم بمكة ممن لم يهاجر) يُلاقونه منهم، واستردادٌ لشيءٍ من حقوقهم في بيوتهم وأموالهم وأملاكهم التي استولى عليها المشركون بعد هجرتهم.

لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ مواجهته الصريحة التي أُذن له بها بمواجهةٍ اقتصاديّة، وحَرْبٍ ماليّة، بَمْنع كُفّار مكة من أحد طرق قوافلها التجاريّة، عسى أن يكون ذلك سبباً لاستفاقة كفار مكة من سكرة غرورهم، وأن يعلموا أن الحقّ قد قامت له دولة، وهي وإن كانت في بداية نشأتها، لكنها قادرةٌ على أن تأخذ بعض حقّها. إذ لعل هذا ، لو تفطن له المشركون، يكون سبباً لأن يفيئوا إلى الحق، أو أن يكفوا بعض غلوائهم في إيذاء المسلمين وتدبير المكايد ضدّهم.

ولذلك لمّا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرورُ قافلة تجارية لقريش، عائدة من الشام، على مقربة من المدينة، أمر أصحابه بالخروج لها. لكن القافلة استطاعت أن تُفْلت من أيدي المسلمين، حيث كان قد بلغ قائدها ما كان ينويه المسلمون، فغيّرَ مسارها، وتَخَفَّى بذلك، حتى ابتعد عن المسلمين ونجا بقافلته.

أمّا قريشٌ بمكّة، فإنه بلغها نَبَأُ احتمال وقوع قافلتها في أيدي المسلمين، فاستشاطت غضباً، واعتبرت ذلك كسراً لأنف كبريائها. فخرجت مغرورةً بعددها وعتادها، لإنقاذ القافلة. ثم إنّه بلغها نجاةُ القافلة أيضاً، فلم ترجع إلى مكة، لأنّها ترى أن مجرّد خروج المسلمين عن سكوتهم الطويل على إيذائهم إلى بداية الدفاع عن النفس والمطالبة ببعض الحق، أن ذلك إهانةٌ كبرى يستحقّون السَّحْقَ لأجلها، وأن يُبادوا عن بكرة أبيهم.

وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد نجاة القافلة، بخروج قريش، وعلم أن الله تعالى شاء أن تكون أول مواجهةٍ صريحةٍ لا حرباً اقتصاديّة، بل حرباً عسكريَّة وقتالاً بين جند الرحمن وجند الشيطان. فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم في منطقة بدر (المشار إليها آنفاً)، وهي أقرب إلى المدينة بنحو نصف المسافة منها عن مكّة.

أمّا كفار قريش فخرجوا بخيلهم وخُيَلائهم، وهم في غاية الكبر والبطر، تغنِّيهم القيان، وتُضْرب الدفوف، ويشربون الخمور. وكأنّهم مقبلون على فرح أو عيد، إمعاناً في التعالي والغرور، إذ إنهم يعلمون أنهم يزحفون بجيش يفوق عدد المسلمين بثلاثة أضعاف، وأنهم أكثر سلاحاً وأشدّ عتاداً.

أمّا المسلمون فقد مكثوا ببدر، ينتظرون هذا اللقاء الحاسم، مستكينين لربِّهم عز وجل، يرجون رضاه عنهم ببذل أنفسهم في سبيل دينه، ويتضرّعون إليه تعالى بأن يرزقهم إحدى الحُسْنيين : النصر، أو الشهادة . معتمدين على تأييد ربِّهم لهم، ووعده بنصر المؤمنين، من غير أن يُغفلوا ما استطاعوا عليه من الأسباب الدنيويّة التي تعينهم على تحقيق النصر.

وأخيراً التقى الصفّان، والتحمَ الجيشان، ودارت رحى المعركة، على أرض بَدْر.

لقد كانت بَدْرٌ المعركةَ الأولى في تاريخ البشريّة الأخير، تاريخ آخر دين يرضاه الخالق للخَلْق، بين أنصار هذا الدين وقيادة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وأنصار الكفر وقيادة فرعون هذه الأمة أبي جهل.

لقد صدق المسلمون مع ربِّهم، فصدقهم وَعْده، وأنزل عليهم نَصْرهُ، وهَوَت رؤوس الكُفْر على أرض بدر، فسقط سبعون منهم قتلى، وسبعون أسرى، وَوَلّى بقيّتهم الأدبار.

إنه أوّل يوم في تاريخ البشريّة الأخير، ينتصف فيه الحق من الباطل، وأول يوم ينتصرُ فيه الإسلام على الكفر باليد والسِّنان، وإن كان منتصراً دوماً بالحجة والبرهان؛ ولذلك سَمّى الله تعالى هذا اليوم بيوم الفرقان؛ لأنه يومُ ظهر فيه الحق على الباطل، وأسفر فيه وجه الخير بنوره، وتقنّعَ فيه وَجْهُ الشرّ بظُلمته.

وفي هذا العام، وهو العام الثاني: فُرض صوم رمضان، وفرضت زكاة المال والفطر، وحُوِّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.

وما إن مَرَّ على غزوة بدر سنةٌ واحدة حتى عاد مشركو قريش لغزو المسلمين بالمدينة، انتقاماً وثأراً لما وقع لهم ببدر. وكانت هذه الغزوة على مشارف المدينة، عند جبل أُحد، الذي لا يبعد عن وسط المدينة إلا خمسة أكيالٍ ونصف كيلٍ فقط.

وبعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروج قريش لحربهم من مكة جمع أصحابه من المهاجرين والأنصار، واستشارهم في أمر هذه المواجهة: هل يخرج للقاء المشركين خارج المدينة، أم يبقى في المدينة نفسها مستفيداً من تحصيناتها الطبيعيّة ومن حصونها وأسوارها؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤيّدُ الرأي الأخير، لكنّ حماسَ بعض المسلمين كان سبباً لتنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيه (الذي لم يكن قد أُوحي إليه فيه شيء)، فاختار المسلمون الخروج، وقَبِل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وهو له كارهٌ، مرسياً بذلك مبدأ الشورى بين المسلمين على أنصع صوره.

لقد بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن عددَ المشركين كبيرٌ، وأنه يفوق عدد المسلمين بثلاث مّرات. فخرج من المدينة إلى جبل أحد، ليختار ساحة القتال بنفسه، وهو يعلم أن قريش لن تتردّد أن تأتيه في أي مكان كان، فأحكَم صلى الله عليه وسلم خطّة القتال، واحتاط لكل الاحتمالات، ومن ذلك أنه أمر كتيبةً من جيشه أن تعسكر على جبل صغير مُطِلٍ على ساحة القتال، وشدّدَ عليهم الأمر بعدم مفارقة أماكنهم مهما كانت الظروف.

فلما أقبل المشركون يؤزُّهم الانتقام ويُحَمِّسُهم طلبُ الثأر لهزيمتهم السابقة ببدر. واجههم المسلمون في أُحُد بثبات المؤمنين الموقنين بالنصر المؤيد من الله تعالى، الراغبين في التضحية في سبيل الدين.

وقد تمّ اللقاء في وَسَط شهر شوال من سنة ثلاثٍ للهجرة، الموافق لمارس من سنة (625م).

ودارت رحى المعركة، فهوت ألوية الباطل، وبدأت فلول المشركين بالفرار، وكادت المعركة تُنهي فصولها على نصر جديد للمسلمين. غير أن الكتيبة التي أُمرت بالمرابطة على رأس ذلك الجبل، وأمرت أن لا تبرح مكانها مهما كانت الظروف، ظنّت المعركة قد انتهت، وأحبّت مشاركة بقية الكتائب المسلمة لذّة الظفر والانتصار، فخالفت ما أُمرت به، فهبطت عن الجبل. وتنبَّهَ لذلك قائدُ إحدى كتائب المشركين، فاغتنم هذه الفرصة لإنجاء قومه، فالْتفَّ بكتيبته من وراء الجبل، وفاجأَ المسلمين من خَلْفِهم، الذين باغتهم الحَدَثَ بهَوْل المفاجأة وشراسةِ الحيرة في الأوقات الحرجة، وتنبَّهَ بقيّةُ المشركين الذين كانوا أمامهم فاريّن أو على أهبة الفرار بما حدث، فقادتهم غريزةُ حبِّ البقاء إلى التجربة الأخيرة، ليعودوا إلى المسلمين بروح جديدة أشدّ شراسة، فوقع المسلمون بذلك بين فكَّين، ووقع الابتلاء العظيم.

لقد ضرب المسلمون في تلك اللحظات أمثلةً رائعة في التضحية، وصدق الإيمان، وحبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أحاطوا به، وجعلوا من أجسادهم درعاً له يحمونه بها. ولا يزداد المشركون في هذه الأثناء إلا سُرعة إقبالٍ من كلا الجانبين، حتى التقى الفكّان على قتلى المسلمين، وتراجع بقية المسلمين إلى جبل أحد، ليجعلوه خَلْف ظهورهم، خروجاً من المأزق الذي حُوصروا فيه، ليقف العدوّ أمامهم، بعد أن التقى طرفا جيشه، ليرى بقيّةَ جيش المسلمين قد نَجَا، وأنْ المفاجأة قد انتهت دَهْشتُها، وأنهم يستعيدون أنفاسهم. فأدرك المشركون أنه لا مطمع لهم في المسلمين أكثر ممّا وقع، وأنه لا بُدّ من المبادرة إلى إنهاء فصول هذه المعركة عند هذا الحدّ، قبل أن يعود إليهم المسلمون بما عرفوه عنهم من : صدق اللقاء، ومحبّة التضحية. فأسرع المشركون في مغادرة ساحة القتال، عائدين إلى مكّة، ولم يَجْرُؤوا على أن يحاولوا الإجهازَ على المسلمين، أو أن يدخلوا المدينة، التي أصبحت مكشوفةً لهم تماماً، فهم بينها وبين المسلمين.

لقد كانت غزوة أحد درساً قاسياً للمسلمين، لكنه درسٌ جديد، كان لا بُدّ منه. فهو كَمِبْضَعِ الطبيب، الذي يجرح ليداوي، فالمجروح به بعد جُرحه أصحّ وأقوى منه قبله.

إن أتباع الحق قد ينهزمون، لكن الحق بحُجّته وبرهانه لا ينهزم، وهذا هو سبب ثبات أتباعه حتى عند وقوعهم تحت أَلَم الهزيمة. فالهزيمةُ لا تجعل الحق باطلاً، ولا الباطل حقاً!! والضّعفُ الماديّ لا يقلب الحقائق، ولا يُغِّيرُ الثوابت.

أفتنسى النصرانيّةُ الاضطهاد الشديد الذي لاقَتْهُ على يد قياصرة الروم الوثنيين في أوائل تاريخها؟! أفتنسى القتل والتعذيب والتشريد؟!! والذي لم يكن ليُعجزَ أعداءهم أن يُلبسوهُ لباسَ العدالة، بإصدار تلك الأحكام بالقتل والتعذيب من أروقة محاكمهم التابعة لهم. ولم يكن ليعجز أعداءهم أيضاً أن يصفوا النصارى حينها بأقبح الأوصاف، وأن يُذيعوا هذه الأوصاف بكل الوسائل الإعلاميّة المتاحة لهم في ذلك الوقت، ليؤكّدوا بذلك على عدالة أحكامهم أيضاً. لم يكن ذلك كله (وقد وقع فعلاً) كافياً لقَلْبِ الحقائق، وإلا فهل أصبح النصارى هم أهل الباطل فعلاً حينها؟! هل تحوَّلَ دينُ الوثنيين ليكون هو الحقّ وأتباعه هم أهل الحق؟!! لمجرّد أن الوثنيين كانوا هم أهل الحضارة والتقدم والقوّة والسلطان، ولمجرّد أنهم كانوا هم القادرين على السَّحْق والإذلال القَسْري!!!

أم هل ينسى بنو إسرائيل ما لاقوه من فراعنة مصر؟! أو من بخت نصر في بابل؟!

أم هل تنسى كُلُّ أمة كانت على الحق ما مَرَّ بها من لحظات الهزيمة والضعف المادّي؟!!

لقد عاد المسلمون بعد أحد بدروس قاسية، لكن على قدر قسوتها كانت إفادتها.

وعاد المشركون الذين يقاتلون بغير مبدأ، لأن مبدأهم هو الباطل، بغير دروس؛ إلا من سُكْر الانتصار، وإشباع شهوة الانتقام، وانتهى الأمر عندهم إلى هذا الحدّ، إلا من هاجس الخوف المترقَّب، من أن تَقْوَى دولةُ الحق، حتى تغزوهم في عُقْر دارهم.

إن المسلمين وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لديهم وقتٌ إلا لنشر دين الله تعالى، ولذلك فقد عادت وفود الدعاة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يُرسلهم إلى القبائل بالانتشار، والتي لم تكن لتنجو تلك الوفود من الغَدْر والخيانة ومن الأعداء المتربّصين بهم من كل جانب، كما حصل للقُراء في موقعة الرجيع مع قبيلة لحْيان، وفي موقعة بئر معونة في نجد.

وفي لحظات الضعف، كما في مثل أعقاب غزوة أحد، يظهر الخونةُ الغادرون، بنقض العهود، ومحالفة الأعداء، وإعانتهم على محاولة الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا ما وقع من بني النضير من اليهود، فحاصرهم المسلمون، حتى رضي اليهود بالجلاء عن المدينة. كما جلا بنو قينقاع من اليهود أيضاً قبلهم، أعقاب غزوة بدر، الذين أغاظهم انتصار المسلمين ببدر، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وجاهروهم بالعداء؛ لشدّة ما تملّكهم من الحسد على المسلمين.

وفي يوم الاثنين لليليتين خلتا من شهر شعبان من سنة خمس، الموافق 28 ديسمبر من سنة (626م)، غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق، وهم من قبيلة خزاعة العربيّة، وكانوا من أحلاف كفار مكّة، وممن أعانوا الكفار يوم أحد، وهم فوق ذلك سدنةُ صنمٍ شهير عند العرب، وهو مناة. وكان موقع هذه القبيلة مهمًّا جدًّا، حيث كانوا بين مكّة والمدينة، ويبعدون عن مكّة نحو مائة كيل شمالاً. وقد كانت نتيجة هذه الغزوة حاسمة حيث انتصر فيها المسلمون، وأعادوا هيبتهم بعد أُحُد، وبعد أن طمع فيهم العرب، ومنهم بنوا المصطلق هؤلاء، الذين كانوا عازمين على غزو المسلمين، فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم قبل أن يبدؤوا هم به. وكان ذلك قراراً حكيماً، حيث كان له الأثر الكبير في تحقيق نصر المسلمين.

ولا شك أن هذا الخبر قد ساءَ قريشاً كثيراً، وأشعرها بالقوّة التي بلغها المسلمون وبالشجاعة التي أُوتوها، وتملّكهم الفزع من أن يأتي اليوم الذي قد يقصد فيه المسلمون مكّةَ نفسَها. ولذلك فقد أعلن كفار مكّة الاستنفار العام، وأرسلوا إلى أحلافهم من القبائل، وإلى القبائل الكافرة القريبة من المدينة يعرضون عليها التحالف على تكوين جيش واحد يقضي على الإسلام تماماً ويستأصل شأفةَ المسلمين. وقد أعانهم على هذا التحزُّبِ يهودُ بني النضير وغيرهم من اليهود، الذين ملأ الحقد قلوبهم، خاصة بعد جلائهم من المدينة.

وقد تمّ لكفار مكّة تكوين الجيش الذي يريدون، وتحزّبَ الكُفّار بالفعل وأقبل الشركُ وأهلُه في جيش كثيف، يفوق عدد جيشهم في بَدْر بعشرة أضعاف، حيث كانوا عشرة آلاف مقاتل.

وفي هذه المرَّة عرف المسلمون أن الحماسَ الذي أخرجهم في أُحُدٍ من المدينة لن ينفعهم، وأنه لابد من الإفادة من طبيعة أرض المدينة، المحصّنةِ بالجبال والحِرار، والتي لا يمكن معها أن يدخل المشركون المدينة، إلا من جهةٍ واحدة؛ ولذلك فقد قاموا بحفر خندق في تلك الجهة، ليمكنهم تحصين بلدهم. ولذلك سُمّيت هذه الغزوة بغزوة الخندق، كما سُمّيت أيضاً بغزوة الأحزاب؛ لتحزُّبِ أعداءِ الإسلام وأهله على أن يقضوا على الإسلام وأهله. وقد وقعت في شهر شوّال من سنة خمس للهجرة، الموافق 1 فبراير من سنة 627م.

لقد وصل الأحزابُ المدينة في هذا التاريخ بالفعل، وقد فاجأهم الخندق الذي حُفر بسرعة غير متوقَّعة؛ لأنه حُفِر باشتراك جميع المسلمين، حتى النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفره معهم، ويضرب بمعوله معهم.

ووقف المشركون أمام هذا الخندق حائرين، الذي إن حاولوا اقتحامه، أمطرهم المسلمون بالسهام.

ولكن المشركين شدّدوا الحصار على المسلمين، الذي دام أربعة وعشرين يوماً، كانت من أشدّ ما تعرّض له المسلمون من الابتلاء. حيث اجتمع فيها مواجهةُ هذا الجيش الكثيف من الأحزاب الذي ينوي استئصالهم تماماً، والجوعُ وقِلّةُ المؤن، مع فشوّ خبر خيانة يهود بني قريظة الذين ينوون إدخال المشركين إلى المدينة من جهتهم وأن يعاونوهم في حرب المسلمين، مع إشاعة المنافقين لروح الهزيمة وسَعْيهم إلى إثارة وساوس الشك في أصل الدين.

لقد كان امتحاناً صعباً جدّاً، ذكره الله تعالى في كتابه، فقال تعالى {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً {11} وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً{12} [الأحزاب:10-12].

فالذين جاؤوهم من فوقهم: هم الأحزاب، والذين جاؤوهم من أسفل منهم: يهود بني قريظة الذين خانوا المسلمين في أحرج ظرف، والمنافقون: اغتنموا الفرصة التي ظنّوا أنها آخر ساعات الإسلام وأهله.

أما المؤمنون (فكالعادة) لا يزيدهم البلاء إلا عافية، ولا يخرجون من المِحَنِ إلا أكثر ثباتاً على الحق، كما قال تعالى { وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً {22} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً{23} [الأحزاب:22 – 23].

لقد كانت خاتمة هذا الضيق العظيم والمحنة الكبرى غير متوقّعةٍ أبداً، حيث ملَّ المشركون الانتظار، وابتلاهم الله تعالى بريح شديدة البرودة، أضعفتهم عن تحمُّلِ البقاء في العراء أكثر ممّا بقوا. فتفرّقت أحلافهم، وابتدأوا بالرجوع إلى ديارهم شيئاً فشيئا، حتى انفضّ الأحزاب، وكان من آخرهم رجوعاً كفار مكّة. وانتهت هذه المحنة الكبرى، التي كانت في ظاهرها أعظم من كل المحن السابقة، نهايةً كأنه لم يكن لها بداية، كما قال تعالى {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:25].

لقد انتهت هذه المعركة بانتصارٍ حقيقي للمسلمين، حيث كلّفَ المشركين الكثير، ولم يكلف المسلمين إلا القليل. كما أنه قد أثبت عَجْزَ مشركي مكة من استئصال شأفة المسلمين، وأنّه لا أمل لهم في ذلك؛ لأنّهم قد بذلوا غاية ما يستطيعون في هذه الغزوة لتحقيق هذا الأمل الكبير لهم، ومع ذلك فقد رجعوا وقد فشلوا عن أقلّ ما يأملون فيه.

وقد الْتَفَتَ المسلمون بعد هذا النصر إلى أعدائهم الملاصقين لهم، والذين ما فتئوا ينقضون العهود، وقد نقضوه هذه المرّة في أحرج ظرف، وأبدَوْا بوضوح الرغبةَ نَفْسَها التي كانت عند مشركي مكَّة ،وهي استئصال المسلمين عن آخرهم. لقد الْتَفَتَ المسلمون إلى اليهود المجاورين لهم، الذين كان ضررهم والخوف منهم (بسبب المجاورة) أشدّ من غيرهم، والذين لم يراعوا شيئاً من العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين. فحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة، إلى أن استسلموا على أن يَحْكُمَ في جريمتهم أحدُ حلفائهم من المسلمين، الذي ظنّوا أنه سيكون أرْأفَ بخيانتهم من غيره. لكنّ هذا الحليف (هو سعد بن معاذ رضي الله عنه) قد حكمَ فيهم بالحُكْم الذي يستحقُّه كل من خان الخيانة العظمى، وهو الحُكْمُ نفسُه الذي كان اليهود قد أصدروه فعلاً ضدّ المسلمين، وأضافوا إلى إصداره السَّعْيَ إلى تنفيذه، وهو استئصال المسلمين، لولا إفشالُ الله تعالى لمؤامرتهم الكبرى في ذلك. بل الفرق كبيرٌ جدّاً بين حُكْم اليهود السابق لحكم المسلمين وحُكْمِ المسلمين: حيث إن حكم اليهود كان نقضاً للعهد، وكان خيانة للمواثيق، التي كانت بينهم وبين المسلمين، وكان من غير جُرْمٍ ارتكبه المسلمون، وكان في وقتٍ حرج يستحقُّ فيه المسلمون الإعانة على عدوِّهم الكافر المتحزِّب ضدّهم، وكان إصدار ذلك الحكم من اليهود على حين غِرّة وغفلة من المسلمين عنهم. أمّا حكم المسلمين فهو على الضدِّ من ذلك كُلّه، فهو جزاءٌ لنقض العهود ولخيانة المواثيق، وهو حكمٌ قضائيٌ عادل من قاضٍ اختاره اليهود أنفسهم، وهو حكمٌ بالمثل وجزاءٌ بالمثل.. إلى غير ذلك من أضداد حكم اليهود، ممّا يُبيّنُ عدالةَ حكم القاضي الذي رضيه اليهود وظُلْمَ واعتداء حكم اليهود.

لقد حَكَمَ فيهم سعدُ بن معاذ بقَتْل القادرين على القتال منهم، وأن يُسبى النساء والأطفال، ونُفَّذَ فيهم هذا الحكم، فقُتل نحو أربع مئة رجل، وسُبي النساء والصغار.

ولا نستغرب بالطبع أن يستنكر هذا الحكم اليهود، فما نكاد نعرف مجرماً رضي بعقوبة إجرامه. ولا نستغرب أيضاً أن يستنكره أعداءُ الإسلام، فهذا موقف كل عدوٍّ من عدوِّه.

لكنّنا نستغرب انسياقَ المنصفين وراء هؤلاء أو هؤلاء دون تأمُّل، ودون أن يستحضروا ما تذكره التوراة من معارك الأنبياء السابقين، وعدد ما سقط فيها من القتلى( )، ودون أن يستحضروا التاريخ القريب المعاصر، وكَمْ سَقَط فيه من الضحايا المدنيين ومن النساء والأطفال!!! نحن إنما نخاطب المنصفين، ولا نخاطب المتعالين، الذين ينظرون إلى غيرهم أنهم لا وزن لهم ولا قيمة، الذين يرون الحقوق لهم وحدهم ولا حق لغيرهم!!!

ثم ألا يكفي أن يرضى عن هذا الحكم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، بل يُخبر أنه هو حكم الله فيهم؟!!!

وبعد عامٍ واحد من غزوة الأحزاب ، أي في ذي القعدة من سنة (6هـ)، (الموافق مارس من عام 628م) خرج النبي صلى الله عليه وسلم بألفٍ وأربع مئة من أصحابه متوجِّهين إلى مكّة، بنيَّة العُمرة، وأحرموا لذلك من ذي الحليفة.

ولمّا بلغ كفار مكّة هذا الخبر، اعتبروا ذلك إهانةً لهم، خاصةً بعد فشلهم الذريع في العام الماضي في غزوة الأحزاب. كما أنّهم يعلمون أنه لا حقّ لهم في أن يمنعوا أحداً جاء لتعظيم البيت الحرام والطواف والسعي، وأن جميع العرب لا يقبلون ذلك منهم.

ولذلك ما إن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منطقة الحديبية، وهي موضع يبعد عن مكة اثنين وعشرين كيلاً فقط، حتى أعلن كفارُ مكّة مَنْعَ المسلمين من دخولها، وابتدؤا عَقْدَ مفاوضات معهم بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا اعترافٌ ضمنيّ واضح، ولأول مَرّة، من مشركي مكّة، بالكيان الإسلامي. إنه الاعتراف الذي كان المشركون يَأْبَوْنَ الرضوخ له أشدَّ الإباء، فهاهم اليوم يسعون هم إليه ؛ بسبب موقفهم المحرج السابق ذكره.

وقد رضي النبيُّ صلى الله عليه وسلم (وهو الرؤوف الرحيم) من مشركي مكّة بهذا الرضوخ، واكتفى منهم (وهو العليم بكبريائهم) بهذا الجرح العميق لكبريائهم. ولذلك فقد رضي بشروط ظاهرها أنها ليست في صالح المسلمين، مكتفياً بهذا النصر المعنوي الكبير، الذي هو في حقيقته نَصْرٌ دعوي كبير، لأنه كَسَر غرور الكفر الذي كان يحجب الحق عن أصحابه، وفتح باب إعمال العقل في دعوته من قِبل المشركين. وهذا ماوقع بالفعل، حيث قذفت مكّةُ بعد هذا الصلح بفلذات أكبادها، وبخيرة قوّادها، مسلمين طائعين بمحض إرادتهم، دون أن يُجبروا على ذلك.

وهذا الصلح الذي لم يَرْضَ عنه بعضُ المسلمين أوّلَ إبرامه، وصفه الله تعالى بأنه (فتح)، وذلك في قوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً {2} وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً{3} [الفتح:1-3].

لقد أتاحت هذه المعاهدة للنبي صلى الله عليه وسلم فرصة كان ينتظرها، وهي توسيع نطاق دعوته. ممّا ترجمه بمكاتبة ملوك الآفاق يدعوهم للإسلام، فكاتب ملك الروم وملك الفرس وملك الأقباط بمصر وغيرهم من الملوك والأمراء يدعوهم للإسلام.

ونص خطاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل ملك الروم هو هذا النصّ الصحيح الثابت:

(( بسم الله الرحمن الرحيم

من محمدٍ عبدِ الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم.

السلام على من اتّبع الهُدَى.

أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسْلِم تَسْلَمْ، يُؤْتكَ اللهُ أْجَركَ مرتين، فإن تولَّيت فإن عليك إثْمَ الأريسيين ( ).

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } )).

إن هذا الخطاب الإسلامي الدعوي النموذجي، يستحقّ منّا الوقوف معه قليلاً، في أثناء تعريفنا بنبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم.

فممّا نودّ التنبيه عليه بشأنه ما يلي:

أوّلاً: عالميّة دين الإسلام، وأنّه الدين الذي لا يرضى الله تعالى من العالمين سواه بعد بعثة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم به. وهذا ممّا يختصُّ به دينُ الإسلام، دون بقيّة الأديان السابقة، التي كانت أدياناً قوميّة (لاعالميّة).

ثانياً: بيان الأسلوب الحضاريّ الراقي للدعوة إلى الإسلام، الذي هو أسلوب هذا الخطاب النبويّ. حيث إن أسلوب الكتابة أسلوب لطيفٌ في التعبير عن خطأ المخالِف، أكثر من أسلوب المشافهة والمجابهة بذلك. ثم تضمّن الخطابُ وصفاً لهرقل بما يناسب مكانتَه: "عظيم الروم". ثم البداية بالسلام على من اتّبع الهدى، وما في هذا الافتتاح بالدعاء من حُسْن البَدْء وبراعة الاستهلال، دون أيّ مخالفةٍ شرعيّة.

ثالثاً: بيان أنّ من كان على دين النصارى الصحيح غير المحرَّف، ممّن لا يقولون بألوهيّة عيسى (عليه السلام)، بل إنه رسول الله كغيره من رُسُل الله=أنّ هذا لا يُنْجيهم عند الله تعالى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إن آمنوا بالنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم. فإن آمنوا فإنه يكون لهم أجران: أجر إيمانهم بعيسى نبيًّا ورسولاً، وأجر إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتمًا للأنبياء والمرسلين. ولذلك خَصّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأريسيين بالذكر؛ لأنهم كانوا من أهل التوحيد، وكان هرقل منهم (ولو في باطن أمره). فإصراره على عدم اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم وكُفْرُهُ بذلك، سيكون سبباً في إصرار هؤلاء (الذين هم أصحاب الدين الصحيح قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم) وسبباً في كُفْرهم أيضاً، فيكون عليه إثمهم؛ لأنه كان سببَ هذا الإثم، وسببَ صَدِّهم عن آخر الأديان (وهو الإسلام) الذي لا يقبل الله من العالمين سواه.

رابعاً: ثم تأتي الآية مبينةً حقيقة دعوة الإسلام للنصارى خاصّة، ولغيرهم من الأمم، وأنّها دعوةٌ يستوي فيها المدعوُّ والداعي: دعوةٌ إلى توحيد الله تعالى بالعبادة، وأن يكون الحُكْمُ لله تعالى وحده، لا لنبيٍّ مرسل، ولا لملك مُقَرَّب. وهذا أحد أكبر الفوارق بين الإسلام والأديان الأخرى، تلك الأديان التي تُعْطي حَقَّ التحليل والتحريم لرهبانها وأحبارها، مع أنه في الإسلام حقٌّ لله تعالى وحده، ليس لأحدٍ فيه حقٌّ غيره سبحانه.

هذه هي حقيقةُ دعوة الإسلام أجملتها تلك الأسطر الرائعة!!!

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبيّة، وفي أوائل سنة سبع من الهجرة (يونيو سنة 628م)، توجّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لغزو خيبر، وهي قريةٌ تبعد عن المدينة (165 كيلاً) شمالاً، ومن أسباب ذلك : أن سكانها من اليهود كانوا ممن تمالؤوا على المسلمين، وأعانوا أحْزاب المشركين في غزوة الخندق.

فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وحاصر حصونهم، وانتصر عليهم، فدخل بعض الحصون عُنْوَةً، ودخل بعضها صُلْحاً، وسارع آخرون إلى طلب الأمان، فكان لكل صِنْفٍ حُكْمُهُ، ولم يُجْلِ أحداً من دياره، إلا أنه صالحهم على أن للمسلمين إجلاءهم متى شاؤوا.

وفي ذي القعدة من هذه السنة (مارس من سنة 629م) قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عُمرته هو وأصحابُه، وهي عُمرته التي كان قد مُنِعَ من أدائها في عامه الماضي. وكان هذا القضاءُ للعمرة أحدَ شروط صلح الحديبية، الذي كان بينه وبين كفار مكّة.

وفي جمادى الأولى من عام ثمانية للهجرة (الموافق سبتمبر من سنة 629م) جَهّزَ النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامُهُ ثلاثة آلاف مقاتل، لم يَقُدْهُ النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جعل قيادته بيد زيد بن حارثة، فإن قُتل: فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل: فعبد الله بن رواحة. وكانت وِجهته لعربٍ من حلفاء الروم، هم الغساسنة، الذين أظهروا العداوة للمسلمين.

ولقد خرج المسلمون إلى بلاد الشام، إلى (مؤتة)، جنوب غرب الأردن، فَسُمِّيت الغزوة لذلك بغزوة مؤتة. لتَلْقَى هناك جموعاً هائلة، بلغت مائتي ألف مقاتل، حيث إن الروم كانوا قد أمدُّوا أحلافهم بمئة ألف مقاتل، انضمّوا إلى الغساسنة وأحلافهم الآخرين من العرب.

إن هذا الفارق الشاسع بين عدد الجيشين (3000 <---> 200000)، مع الفارق الكبير أيضاً في العتاد، يظهر أن الحرب غير متكافئة بكل المقاييس. ولذلك تردّد المسلمون في المواجهة، ثمّ عزموا على الإقدام. ولم يتردّدوا خوفاً، وإنّما مراعاةً للمصلحة ونظراً في الحكمة من المواجهة، ولا أقدموا إلا خشيةَ الإثم وأن يقعوا في سخط الله بمخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد بدأت هذه المعركة بذلك الميزان الطائش غير المتكافئ، وأَبْلَى المسلمون بلاءً حسناً، وأثبتوا للدنيا كيف ومتى تكون الآخرةُ أحبَّ إلى المرْءِ من الدنيا. وسَقَطَ القوّادُ الثلاثة شهداء في أرض المعركة، واحداً تِلْوَ الآخر، مُعَلِّمين العالمين درساً من الشجاعة لا يُنْسَى، حتى إن جعفر بن أبي طالب الذي كان القائد الثاني، لمّا قُطعت يُمْناه التي يرفع بها الرايّة، رفعها بيُسْراه، فلمّا قُطِعت يُسراه ضمَّها إليه، حتى استُشهد، ليتسلمها القائد الثالث بعده!!!

ثم رأى المسلمون، وهم في أرض المعركة، أن يُولّوا القيادة القائد الفذّ خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي رأى أن استمرار القتال لا يعني إلا الفناء المحقَّق. فدبَّر مكيدةً يُوهم العدوَّ بمجيء مَدَدٍ للمسلمين، و أَوْهَمَهُم أنه ينسحبُ انسحاب مخادعةٍ للإيقاع بهم، فانْفَصَل العدوُّ عنهم، ولم يُفكّر في تَعَقُّبهم. واستطاع خالدٌ بذلك أن ينجو بجيش المسلمين من الهلاك الكامل، وأن يعود بعدد قليل من الخسائر، ولذلك لم يُعتبر هذا الفعل من خالدٍ هزيمة، بل اعتُبرَ خطةً عسكرية من نوع الكرّ والفرّ في ساح القتال.

وفي هذا العام، وبعد معركة مؤتة نقضت قريشٌ عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كانت قد أبرمته في الحديبية، حيث أعانت أحلافاً لها على أحلافٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، الذين قُتِل منهم عشرون رجلاً.

لقد كان هذا الحَدَثُ خَرْقاً واضحاً من قريش لعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، ولم تُحاول المبادرة إلى الاعتذار وإلى تجديد العهد؛ إلا مؤخّراً، بعد أن بلغتها أخبار استعداد المسلمين لمواجهةٍ ما معهم.

أمّا النبي صلى الله عليه وسلم فقد استنفر المسلمين، وأخْفَى مَقْصَده، حتى اجتمع عددٌ ضَخْمٌ لم يعرفه المسلمون في جيوشهم السابقة، وهو عشرة آلاف مقاتل. ومثل هذا العدد يُظهر مقدار انتشار الإسلام بعد صُلْح الحديبيّة، الذي كان فرصة دعوية كبرى للمسلمين.

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين من المدينة قاصداً مكّة، في 10 رمضان من سنة ثمان، الموافق 1 يناير من سنة 630م.

ولمّا علم كفار مكّة بالخبر، حاولوا - بعد فوات الأوان - تجديد العهد، وجاء بعضُهم يعلنون دخولهم في الإسلام.

وأمّا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لمّا أقبل على مكّة أرسل إلى أهلها، أنه لن يُقاتل إلا من واجهه بالقتال، وأنّ من دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو أمن، ومن دخل دار أبي سفيان (وهو سيّد قريش حينها بمكة) فهو آمن.

ولقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكّة في 19 رمضان في سنة ثمان، الموافق 9 يناير من سنة 630م. ولم يُواجَهْ جيشُ المسلمين إلا بمقاومةٍ يسيرة، من بعض جهات مكّة.

لقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكّة ودخلها لا دخول الجبابرة المتكبرين، بعد هذا الانتصار العظيم على أعداء دين الله تعالى. بل دخلها خاشعاً، خافضاً رأسه خَفْضَّا شديداً وهو على ناقته، قارئاً سورة الفتح.

وما إن جاء عَصْرُ ذلك اليوم، حتى أعلن النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقْفَ كل أعمال القتال. ووقف عند الكعبة المشرّفة، وقريشٌ (أعداؤه لأكثر من عشرين عاماً) حَوْلَه مجتمعين، يخشون انتقامه العادلَ الذي سيكون في غاية الشدّة منهم. فقال صلى الله عليه وسلم منادياً فيهم: "ما تظنّون أني فاعلٌ بكم؟" فقالوا -في انكسارٍ ووجل: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم - وبكل سهولة - : "لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم".

هذه هي حروب الأنبياء، وهذه هي أخلاق حروبهم!!! إن الغرضَ منها ترقيق القلوب لقبول دعوة الحق، لا تمزيقُ القلوب للاستعباد والانتقام والاستحواذ على مزيد من الشهوات والملذّات.

هذا مع أن المعاقبةَ بالمثل عَدْلٌ ولا شك، ولذلك فقد خَيّرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بين المعاقبة والعفو، في قوله تعالى { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. فاختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصبر قائلاً: "نصبر ولا نعاقب". إنه خُلُقُ خاتم الأنبياء، الذي ما عرف الانتقام لنفسه يوماً من الأيام، إنما يغضب وينتقم إذا انتُهكت محارِمُ الله، فغضبُه وانتقامُه لله وحده.

وكان أوّل عملٍ يعمله النبي صلى الله عليه وسلم عند دخوله مكّة، وعند دخوله المسجد الحرام، هو العمل الذي من أَجْلِهِ بُعِث، ومن أَجْله قُوتل، ومن أجله قاتل، ومن أجله فتح مكّة: إنه إقامة دين الله تعالى بتوحيده، والقضاء على الشرك ورموزه. ولذلك فقد دخل المسجد الحرام ليُسقط الأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى، ويَدْفعُها بقوسه، وهو يقرأ قول الله تعالى { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].

لقد طُهِّر المسجد الحرام من كل أدناس الجاهليَة وأزُيح عنه ظلامُ الشِّرك؛ ليكون قِبلة التوحيد على وَجْهِ الأرض، ورمزاً لوحدة المسلمين جميعهم في أي بُقْعةٍ منها.

وبعد فَتْح مكّة بخمسة عشر يوماً فقط، خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه الذي أصبح قوامه اثني عشر ألفاً، للقاء إحدى أكبر القبائل بجوار مكّة، وهي قبيلة هوازن، التي أحبّت أن تتولَّى زعامة الباطل، بعد أن انتهت زعامة قريش له، فأخذت في الاستعداد لقتال المسلمين.

ولذلك، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم للقاء هوازن، وليتمّ هذا اللقاء في منطقة حُنَين (التي تبعد عن مكّة نحو عشرين كيلاً فقط)، وذلك في العاشر من شوال من سنة ثمان، الموافق فبراير من سنة 630م.

لقد تمّ اللقاء، لكنْ (وَلأوّل مرة) والمسلمون مُعْجَبون بكثرتهم، فكان تأديب الله تعالى لهم سريعاً، حيث وَلَّوْا مدبرين، إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونفراً قليلاً حوله. ثم فاء المؤمنون إلى إيمانهم، وإلى عدم الاعتماد إلا على نصر الله وتأييده. فنزل النصر من الله تعالى للمسلمين، وأنزل الهزيمة على الكافرين.

كما قال تعالى { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {27} ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{27} [التوبة:25-27].

لقد فرّت قبيلة هوازن متفرّقةً في البوادي، وفرَّ قائدهم وبعضُ من كان معه إلى قبيلة ثقيف في مدينة الطائف، التي تبعد عن حُنين نحو (100 كيل). فتعقّبه النبي صلى الله عليه وسلم، ليحاصر ثقيفاً في حصنها بالطائف، نحواً من خمسة عشر يوماً. ليعود ولم يفتحها، لكن ليُظهر قوّة المسلمين، لكي لا يطمع الكفارُ في أن يَتَوَلَّوْا زعامةً للباطل أمام المسلمين بعد ذلك.

وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشارف مكّة، ليجد هوازن قد جاءت تعلن إسلامها؛ فأعادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم ما سباه منهم من النساء والذُّريّة. وأعلن فيهم أنه سيُعيد إلى قائدهم سَبْيَه إذا جاءه مُسْلِماً، ففعل القائد ذلك، فأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأعاد عليه سَبْيَه.

وبذلك توطَدتْ دولةُ الإسلام في مقاطعة الحجاز من شبه جزيرة العرب، ليتوجَّهَ النبي صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك - إلى المدينة، لكن بعد أدائه العمرة من (جعرانة) التي أعاد عندها سبي هوازن إليهم.

ووصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في 24 من ذي القعدة سنة ثمان، الموافق مارس من سنة 630م.

ويفتتح المسلمون عام تسعة من الهجرة في 20 إبريل من سنة 630م، الذي سُمِّي بعام الوفود؛ لقدوم وُفُود العرب من أقطار شبه جزيرة العرب مُسْلِمين طائعين لله تعالى، مُعْلِنين دخولَهم في دين الله سبحانه.

وفي منتصف هذا العام كانت غزوة تبوك، أي في رجب من سنة تسع، أي الموافق أكتوبر من سنة 630م. وتبوك مدينة تبعد نحو (700 كيل) شمال المدينة، على مشارف بلاد الشام.

حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم في أكبر جيش نبويّ، بلغ عدد الجيش نحواً من ثلاثين ألفاً. فبلغ تبوكاً، ومكث بها عشرين يوماً، ولم يَلْقَ قتالاً. إلا أن سريّةً للمسلمين توجهّت إلى دومة الجندل، لتأسر أميرها، الذي صالح المسلمين على دَفْع الجزية، كما صُولح ملك أيلة (العقبة) على الجزية أيضاً.

وهذا أوّل تشريع للجزية في الإسلام، والجزية هي مالٌ يدفعه الكفار إذا لم يدخلوا في الإسلام، يُقدِّره الحاكم المسلم عليهم، بغير ظلم ولا إضرار، إعلاناً لدخولهم تحت حُكْم الإسلام. وهي تجب في السنة مَرّة، ولا تؤخذ من الأطفال ولا النساء، ولا الفقراء، ولا تؤخذ من كبار السن، ولا المرضى الذين لا يُرجى شفاؤهم، ولا العُمْي ولا العاجزون ولو كانوا أغنياء، ولا تؤخذ من الرهبان المنقطعين للعبادة، ولا تؤخذ من الفلاحين الذين لا يُقاتلون. وهي (أي الجزية) العَرْض الثاني الذي يُعْرَضُ على غير المسلمين في حكم الله تعالى، فالأول: هو الدخول في دين الله تعالى، والثاني: دفع الجزية إقراراً بالرضوخ لحكم الله تعالى، وأنه لا دولةَ للباطل في أرض الله تعالى، مع مَنْ بقي على دينه الباطل، فيُقَرُّ عليه، لكن بغير دولة (وهذا هو الصَّغار الذي يستحقُّه من أصرًّ على الباطل)، والثالث: القتال، وهو خاصٌّ بمن قاتل، أمّا من لم يرفع السلاح ولا أعان عليه فلا يُقاتل، ولذلك عُصِمت دماءُ شعوب الدول المفتوحة مع عدم دخولهم في الإسلام. فالجزية في حقيقتها رمزُ لقيام دين الله ودولته، ولسقوط الأديان الباطلة ودولتها.

ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد إلى المدينة، ليكمل تبليغ دعوته إلى دين الله تعالى، وليعلّم الناس ويزكيهم. وتسارَع الناس إلى الدخول في الإسلام، وتعاظمَ الإسلام، حتى شمل جزيرة العرب.

وفي عام عشرة من الهجرة، الموافق 632م، خرج النبي صلى الله عليه وسلم لأداء فريضة الحج، وهي المسمّاة بحجّة الوداع؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطَب المسلمين فيها خُطبةً جليلة، أشار فيها إلى دنوّ أجله، وقد تضمّنت خطبته هذه الوصيّة بأمور عظيمة، منها بيان حرمة الدماء والأعراض والأموال، وحثّ فيها على الإحسان إلى النساء والزوجات وإعطائهن حقوقهن كاملةً غير منقوصة، وأن يُعاملن مع ما يليق بطبيعتهن من الرقّة وحُسْن العشرة.

وفي يوم عرفة من هذه الحجّة نزل قول الله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].

ولمّا رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد حَجّه بثلاثة أشهر، بدأ مرضُ وفاته صلى الله عليه وسلم. وذلك في 27 صفر من عام (11هـ)، الموافق لمايو من سنة (632م)، ودام مرضُه عشرة أيام.

فكان من آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته : الحثّ على إقامة الصلاة، وعلى الإحسان إلى الرقيق والرفق بهم.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم توفي في يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، من سنة إحدى عشرة، الموافق 9 يونيو سنة 632م ، ودُفن صلى الله عليه وسلم ببيته الذي بجوار مسجد مدينته طَيْبة الطيّبة.

وبذلك يكون صلى الله عليه وسلم قد عاش ثلاثاً وستين سنة، ثلاثةٌ وعشرون عاماً منها هي سنوات بعثتِه وتبليغِ دعوته إلى دين الله تعالى.

ولقد كانت سنوات بعثته الثلاثةُ والعشرون هذه منهجاً للبشرية لا مثيل له، في كل شؤون حياته صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].

فهو صلى الله عليه وسلم: سيد ولد آدم، وإمام الأنبياء، وخاتم الرسل. أُرسل إلى الثقلين من الجن والإنس كافّة، يدعوهم إلى توحيد الله تعالى، وأن لا يعبدوا إلا الله تعالى، وأن لا يدّعوا لله الأبناء والشركاء والشفعاء، وأن يُقيموا دين الله ونظامه الذي يُصْلِحُ أمورَ الدنيا كلّها وأمور الآخرة كلّها؛ لأن الإسلام يَجعل من حياة المسلم كلّها عبادة، إذا حُكّمَ فيها دينُ الله، الذي شملت أحكامُه كلَّ الحياة، كما قال تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{163} [الأنعام:162-163].

^

من دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم

وأيد الله تعالى خاتم الرسل محمداً صلى الله عليه وسلم - كما أيَّدَ الأنبياء من قبله - بالآيات الدالّة على نبوّته، ومنها خوارقُ رآها الناسُ في زمنه.

وخصّه الله تعالى بخلود معجزته الكبرى، وهو القرآن الكريم؛ لأنه سبحانه أراد له أن يكون حجّته على العالمين إلى قيام الساعة، إذ هو كتابُ خاتم الرسل وآخر الأديان.

إن القرآن الكريم هو كلام الخالق سبحانه، تعهّد الله تعالى بحفظه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصّلت:42]. وتحدَّى الله به العرب أن يأتوا بمثله، بل تحدّى به الثقلين جميعاً، فقال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، بل لقد تحدى الله تعالى أن يؤتى بسورة واحدة من مثله، كما قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23-24]. فهو معجزة الإسلام الباقية إلى اليوم، وإلى قيام الساعة، الدالّة على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه خاتم الرسل لآخر الأديان.

وللقرآن في دلالته على صِدْقِ نُبوّةِ محمد صلى الله عليه وسلم وفي إعجازه أوجهٌ متعدّدة، منها: بلاغته، وجلالةُ نَظْمه، وعظمةُ أسلوبه، وروعةُ خطابه، التي تأسر القلوب، وتُخْضِعُ النفوس، وتُحيّر العقول، وتسلب الأسماع، وتُسْجِدُ الجباهَ لله رب العالمين.

لقد تُحدِّىَ به العرب، وهم أفصح الناس لساناً، وأبلغهم بياناً، فعجزوا أن يأتوا بسورة واحدةٍ من مثله، وعجز مَنْ جاء بعدهم، وعجز الناس كلهم إلى هذا اليوم، بل لقد عجز الثقلان، وسيعجزون (ولو أعان بعضهم بعضاً)، إلى قيام الساعة!!!

وها نحن اليوم (وبعد اليوم) نُنادي في البشرية، بل في الثقلين، مُبَلِّغين لهم تحدي إلههم وخالقهم لكل مَنْ على وَجْه الأرض بأن يأتوا بمثل هذا القرآن.

إن هذا التحدِّي الصارخ، والذي له أكثر من ألف وأربع مئة سنة، وما زال باقياً=دلالتُه ونتيجتُه قاطعةٌ، يلزم العاجز معه التراجع عمّا هو عليه، وأن يعترف بدلالة ذلك التحدِّي، وهو أن القرآن الكريم كلامُ الخالقِ المنزَّلُ على خاتمِ رُسُله محمد صلى الله عليه وسلم.

أمّا الإعراضُ عن هذا التحدِّي، أو التظاهر بالإعراض عنه، أو ادّعاؤه، ممّن لا يؤمن بالقرآن الكريم وبدلالته على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم=فإنه لا يُجْديِ شيئاً، وهو في حقيقته اعترافٌ بالعجز أمام هذا التحدِّي، وَلْيَعْرِفْ هذا المتظاهر بالإعراض أنه بتصرّفه هذا قد انهزَم أمام الناس وأمام نفسه، وأنه قد أصرَّ واستكبر على باطل، سيخسر معه دنياه وآخرته، حيث إن جميع العقلاء يعلمون أنه لو كان بإمكان أعداء الإسلام قديماً وحديثاً أن يكسبوا هذا الرّهان، وأن يقوموا بهذا التحدّي، لَبَادُرُوا إليه من حين إعلانه، لأنه أسهل ممّا بذلوه ويبذلونه إلى اليوم في حَرْبهم للإسلام: من مخاطرتهم بالأرواح والمُهجَ، ودَفْعِهم للأحبّة من الآباء والأولاد والأزواج إلى ساحات المعارك، ومن إنفاقهم للأموال الكثيرة، وصَرْفِهم الأوقات والطاقات=وكل ذلك في حرب الإسلام، وكم قد خسروا من ذلك، وكم سيخسرون. أوَ لم يكن أسهل عليهم أن يتعاونوا جميعاً (وما أكثر أعداء الإسلام) على أن يقضوا سنواتٍ في إعدادِ كتابٍ يُضاهي القرآنَ الكريم، لينتهي كل شيء؟!! فما بالهم لم يفعلوا ذلك، وقد مضى على إنزال القرآن أكثر من أربعة عشر قرناً؟!!! هذا هو العجز بعينه، وهذا هو الإعجاز الأكبر، وهذه هي الحُجّة الكبرى على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ونحن إذ نعلن هذا التحدِّي ونكرِّرُ إعلانَه، لقد برئت ذِمَمُنا أمام ربِّنا بهذا البلاغ. إذ واجبُ من بلغه أن يسعى لسماع القرآن كله، من أوّله إلى آخره، وأن لا يرضى بأن يسمعه من الكافرين به، الذين هم بكفرهم به أعداءٌ له ولا شك، مهما تظاهر لك هذا المكذِّبُ به بالإنصاف، ومهما كنتَ حَسَنَ الظنِّ فيه؛ لأن عداوته له تُشكِّكُ في إنصافه (على أقل تقدير).

كما أنه لا يصحّ لك أن ترضى من نفسك أن تحكم على شيء، ستكون عاقبةُ حُكْمِك عليه مُحدِّدةً لمصيرك الأبدي، ثم لا تستكمل جميع مامن شأنه أن يجعل حُكمك صائباً، ومن ذلك أن تتدبّره من أوّله إلى آخره بعلمٍ وإنصاف.

ومن وجوه إعجازه: إعجازهُ التشريعي، الذي أذعن به كل من عرفه حقّ معرفته، وأنصف. فشموله لجميع مناحي الحياة: للفرد، والأسرة، والمجتمع، والدولة، وشموله للعبادات، والمعاملات، سواء أكانت اقتصاديّة، أو أحوالاً شخصيّة، أو سياسيّة، أو عسكرية، أو قضائيّة، أو آداباً، وتنظيمُه لذلك جميعه أبدع تنظيم وأحسنه، بكل دقّة وحِكْمة، ومعالجته للأخطاء البشريّة في ذلك كُلّه على أتمّ وَجْهٍ=هذا أمرٌ معجز، بل هو الأمر المعجز حقّاً!!. ويبلغ الإعجاز غايته بثبات تلك الأحكام والتنظيمات الدقيقة، وأنها لا تحتاج إلى تبديل أو تغيير في كل زمان ومكان، وأنه لا يَصْلُحُ أَمْرُ البشريّة إلا بها قديماً وحديثاً في أي بقعة من بقاع الأرض، وعلى اختلاف الأعصار والأقطار والعادات والتقاليد والحضارات. إن مثل هذا الثبات وذاك الشمول لمعجزةٌ لا يملك معها من كان عنده قَدْرٌ من الإنصاف إلا بأن يعترف بكونِ القرآن الكريم كلامَ الله!!!

ومن وجوه إعجازه: إخباره بمغيّبات لم تكن قد وقعت، ثم وقعت كما في خبره، وبعضها ما زلنا ننتظر وقوعه مما أخبر أنه سيقع في آخر الزمان. فقد أخبر بأن الروم سينتصرون عقب هزيمتهم أمام الفرس، وكانت هزيمتهم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يتحقق نَصْرهم إلاّ في عام الحديبية وهو العام السادس من الهجرة. وأخبر بمصير أُناس وأنهم من أهل النار، كأبي لهب وزوجه وغيرهما، وكانوا أحياءً عند نزول القرآن بذلك، وعاشوا بعد ذلك زماناً وقد علموا بخبر القرآن عنهم، فما دخلوا في الإسلام، ولا ادّعوا ذلك في الظاهر للتشكيك في خبره!!!

ومن وجوه إعجازه: إعجازه العلمي، وهو أنه قد ورد في القرآن الكريم ذِكْرُ كثيرٍ من الحقائق الكونيّة المختلفة الفنون: في علم الطّب والنبات والحيوان والفلك وغيرها من المعارف الإنسانية. وهي حقائق كثيرةٌ، وكثيرٌ منها دقيق جداً، لم يُكتشف إلا مؤخّراً، عن طريق الأجهزة الحديثة، ومن خلال التِّقْنِيّة المتطوِّرة، ولولا ذلك ما عرفها العلماءُ المتخصّصون المعاصرون. ومع ذلك فقد سبق القرآن إلى ذكرها، قبل أربعة عشر قرناً، يوم أن كانت هذه المعارف مجهولةً تماماً لدى الإنسانيّة جمعاء!!!

لقد أدهشت هذه الحقيقةُ وهذا السبقُ العلميُّ المعجزُ كثيراً من علماء الغرب والشرق، ممّن اطّلعَ عليه، بعد اعتقاده أن ما توصَّل إليه العلمُ الحديث لم يكن معلوماً للبشريّة من قبل. فآمن بعضُ هؤلاء العلماء المتخصصين ودخلوا في الإسلام، وأعلن آخرون دَهْشتهم الكبرى وعظيمَ حيرتهم تجاه ذلك، وتركوا الإجابة عن السؤال المُلِحِّ القائل: هل يُمكن ألا يكون هذا السبقُ إلا دليلاً على صِدْقِ نبوّةِ محمد صلى الله عليه وسلم ؟!!!

ولا يقتصرُ إعجازُ القرآن العلمي على سَبْقِه العلمي، بل يضمُّ إليه أيضاً: أنه على كثرة حديث القرآن الكريم عن أمورٍ كونيّة، وفي شتّى العلوم، ممّا لم يكن معروفاً لدى أحدٍ في زمن نزوله، أو كان معروفاً لقلةٍ من علماء الحضارات القديمة، أو معروفاً لأكثر الناس.. كل ذلك يُخبر به رجلٌ أُمِّي (لايقرأ ولا يكتب) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أيضاً من أمةٍ (هم العرب) كانوا أبعدَ الناس عن الحضارة والعلم القديم الذي كان قبل أربعة عشر قرناً=ثمّ لا يُوجد في جميع ما تعرّض له من أمور الكون جميعه ما يُخالفُ الحقائق العلمية اليقينية الثبوت في العصر الحديث!!! هل تحقّق مثلُ ذلك في كتابٍ من كُتُب أكبر علماء ذلك العصر من علماء الحضارات الشهيرة حينها: أن يكون كلُّ ماأخبر به في شتى العلوم صواباً موافقاً لحقائق العلم الحديث؟ فكيف تحقّق ذلك للأُمّي العربي محمد بن عبد الله؟!!! هل كان ذلك إلا لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!! أم وقع ذلك كله مصادفة، مع كثرة تلك الحقائق وتنوّعها؟!!!

وهنا.. نعود إلى إعلان تَحَدٍّ جديدٍ للبشريّة : هذا القرآنُ بين أيديكم، وقد تعرّضَ للكثير جداً من حقائق الكون، أخرجوا لنا منه شيئاً (ممّا دَقّ أو جَلّ) يُخالفُ حقيقةً علميّةً لاشكّ في ثبوتها. إنّنا لَنُعْلِنُ هنا أيضاً: أنهم لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا؛ لأن القرآنَ الكريم كلامُ الخالق لهذا الكون!!!

ومن هذه الوجوه لإعجاز القرآن الكريم، ننتقل إلى بقيّة دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

فمن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم، وهو يُشبهُ في وَجْهِ دَلالتهِ ما سبق من القرآن الكريم: أخباره صلى الله عليه وسلم في سُنَته وأقواله الثابتة: بالمغيّبات، وبالحقائق الكونية التي سَبَقَ فيها العِلْمَ الحديث، والتي مع كثرتها لم تُناقضْ ما أَثْبَتهُ العلمُ الحديثُ أيضاً.

ومن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم: قُوّةُ الدين الذي بُعثِ به، وحِفظُه من التغيير والتبديل، أو الزيادة والنقصان، والعلومُ التي نشأت وتطوّرت لخدمته، ومراحل تلك التطوّرات، ومواجهةُ ماأحدق به من الأخطار بكل صرامةٍ وحزمٍ، على مختلف الأحوال التي مَرّت بأمّة الإسلام: من القوّة إلى الضعف، ومن العزّة إلى سيطرة الأعداء عليها.

ومن دلائل نبّوته: بشارةُ الأنبياء به في كتبهم، وإخبارهم لأقوامهم بصفته واسمه وصفة أمته ومكان بعثته ونسبه، وغير ذلك. كما قال تعالى { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6]، وكما قال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].

ومع تحريف كثيرٍ من أحبار اليهود ورهبان النصارى لتلك البشارات، وإخفائهم لبعضها، وتفسيرهم لبعضها الآخر بغير تفسيرها الصحيح؛ إلا أنه قد بقي ما يكفي منها لإقامة الحُجّة عليهم، وعلى كل من أنصف وبحث في الحقيقة.

وسنحيل هنا إلى بعض تلك البشارات في الكتاب الذي هم يؤمنون به.

فانظروا يا أهل الأرض في هذه الإحالات : سفر التثنية من التوراة (33/1) (18/15-19)، وسفر أشعياء (42/1-5)، وسفر حبقّوق (3/3)، وسفر المزامير (72/1-19)، وإنجيل يوحنا (14/16 ، 26) (15/26) (16/7-15) ورسالة يوحنا الأول (2/1). [الرقم الأول يشير إلى الإصحاح والذي بعد الخط المائل إلى رقم المقطع].

ومن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم: تاريخُ دعوته، وسَيْرُ حوادثها، وفُتوحُ أتباع ملّته من بعده، وتهاوي الدُّول في وَجْهِ أصحابه الفاتحين، وسرعة انتشار الإسلام في أمم الأرض.

ومن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم: حياتُه وسيرته، وشمائله وأخلاقه وصفاته، وكل ما يتعلّق بذاته وشخصّيته وسلوكه.

فهو صلى الله عليه وسلم في صفاته الخَلْقِية والخُلُقيّة يُمَثِّلُ الكمال البشريّ، الذي لم تعرف ولن تعرف البشريّةُ له شبيهاً، مما يقطع بنبوّته، بل أنه إمام الأنبياء وخاتم المرسلين.

فقد كان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس، وأحسنهم صورة، أنيقاً في ملبسه، يحبّ التطيب، ويلبس البياض، ويأمر بالنظافة والطهارة، وسئل مرة عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فقال: "إن الله جميل يحب الجمال". وكان ذا ذوقٍ رفيع في مأكله ومشربه، بغير شره ولا إسراف، بل يقول صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدميٌ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أُكيلاتٍ يُقِمْن صُلْبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلثٌ لنفسه". وكان لبقاً في حديثه وتعامله، كثيرَ الابتسام، ظاهرَ البِشر، تحبُّه العيونُ والقلوب من حين تلقاه، لا يُمَلَّ حديثهُ ومجلسُه، بل ينسى جليسُه الدنيا بأسرها إذا حظي بالجلوس عنده، مع المهابة والجلالة، لا من السطوة والجبروت (كالملوك والسلاطين)، بل هي هيبةُ النبّوة والرسالة، وجلالةُ كمالِ العبوديّة لله عز وجل والخضوع له وحده سبحانه وتعالى.

ومن أعظم صفاته صلى الله عليه وسلم الرحمةَ، حتى قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]، وقال تعالى { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: (( إنما أنا رحمةٌ مُهْداة)).

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم: حبه للمساكين، ومحبّتُه لمؤاكلتهم ومجالستهم، وعَطْفُه على المرضى في عقولهم وقضاؤه لحوائجهم، حتى ربما جاءته المرأة المريضة في عقلها، أو الطفلة الصغيرة، تطلب منه الحاجة التي تستلزمُ جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، فلا يتركها، بل يسعى معها في تحقيق رغبتها حتى تنقضي، أو ترضى بغيرها، ولا ينصرف عنها حتى تكون هي التي تنصرف عنه.

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم: إكرامُه لليتامى، وإيصاؤه الشديدُ بهم، وحثُّه البالغُ بأن يُعْطفَ عليهم. وتودُّده إلى الأطفال، فكان يحملهم، ويقّبلُهم، ويمازحهم، ويُعلّم أمتّهَ كيف أنه للأطفال حقٌ في اللعب واللهو.

لقد تجاوزت رحمتُه بني آدم إلى غيرهم من المخلوقات على وجه الأرض، فكان يأمر بالرفق بالحيوانات، وينهى عن تعذيبها، حتى ما يؤكل منها: أمر بأن يُحْسن ذَبْحُها، وألا نُطيل عذابها قبل أن تموت. وعلمَ مَرّةً: أن أحدهم كان يكلّفُ جَمَله بعمل شاقّ، ولا يطعمه الطعام الكافي، فزجره عن ذلك، وذكر مَرّةً: أن أمرأةً دخلت النار بسبب هِرَّة، لأنها حبستها، لم تطعمها، حتى ماتت. وذكر مَرّةً: أن امرأةً بغيّاً سقت كلباً ظامئاً، فغفر الله لها، لرحمتها بالكلب. وقصَّ عن نبيٍّ من الأنبياء أن الله تعالى عاتبه لأنه أحرق بيتَ النمل بما فيه من النمل الكثير، لأن نملةً واحدةً منهن قرصته. حتى لقد سأله أصحابُه يوماً: وإن لنا في البهائم أجراً؟! فقال صلى الله عليه وسلم ((في كل كبدٍ رطبة أجر))، أي في الإحسان إلى كل حيّ من المخلوقات أجر.

وكان صلى الله عليه وسلم مع هذه الرحمة أشجع الناس، لكن شجاعته لا كشجاعة الجبابرة، بل هي شجاعةُ الواثق بوعد الله تعالى، القائمِ بدين الله تعالى، الذي لا يفرّق بين الموت والحياة، بل يقِّدمُ الموت إذا كان فيه رضى ربِّه عز وجل. ولذلك كان في ساحات المعارك، وإذا اشتد القتال=أقربَ الناس إلى أعدائه، يثبتُ حين يفرُّ الشجعان، ويلوذ به الأبطال وهو كأنه ليس في ساح القتال.

ومن شجاعته صلى الله عليه وسلم صَدْعُه بالحق في وَجْه أعدائه، وإعلانُه بالدعوة إلى دين الله تعالى في مقابل خصومه، الذين كانوا هم عمومَ أهل الأرض في أوّل دعوته. فلم يَخَفْ، ولم يتردّد، ولم يُداهن، ولم يتنازل عن شيءٍ من مبادئه بل واجه الدنيا بأسرها، ووقف يأَمر بالمعروف وينهى عن المنكر أمام جميع أهل الأرض.

وكان صلى الله عليه وسلم مع شجاعته عفوّاً عمّن أساء إليه، لا يعرف الحقد ولا الغضبَ للنفس ولا الانتقام لها أبداً. فكم من مَرّة عفا عمّن أساء إليه أعظمَ إساءة، بل أحسنَ إليه عند القدرة الكاملة على الانتقام منه. يقبل الاعتذار وهو يعلم أن المعتذرَ غيرُ صادقٍ في عُذْره، بل يتلمّسُ هو الأعذار لمن أخطأ عليه، ويتأوّلُ إساءته إحساناً، ويحمل خطأه على أحسن المحامل.

وكان صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، يُنفق إنفاقَ من لا يخشى الفقر، حتى أنه ما سُئل شيئاً قط فقال: لا. يُنفق ماله كلَّه للفقراء والمحتاجين، بل كان يستدين ليتصدَّق، ويؤثر على نفسه وعلى أهل بيته ضيوفَه والفقراءَ والسائلين، حتى إنه ربّما جاع أهلُه ليُطعمَ من هو أحوج للطعام منهم، ولذلك كان غالب طعامه وطعام أهله التمر والماء، ولربما مكثوا الأشهر المتوالية لا يوقد في بيتهم نارٌ على طعام لذلك.

ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم هو الزوج المثالي: في تودّده لأزواجه، وعَطْفه عليهن، وتحمُّله لأخطائهن البشريّة. ما ضرب واحدةً منهن قط، ولا شتم، ولا رفع صوته صارخاً. بل يعفو ويَحْلُم، ويمازح ويُلاعب، ويوافقهن فيما يُحْبِبْنَهُ ما لم يكن إثماً. ويعاونهنّ في أعمال البيت، ويخدمُ نَفْسَه بنفسه، فيخيط ثَوْبَه إذا انفتق، ويُصلح نَعْلَه بنفسه إذا انقطع. ويُوصي بالنساء كثيراً، وينهى عن ضربهن أو إهانتهن، ويقول ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))، وأوصى بالنساء وصيةً جامعة في خُطبته العظمى، في حجّة الوداع (كما سبق).

وكان صلى الله عليه وسلم حسن المعشر حتى مع من يخدمه، فكان صلى الله عليه وسلم يأمر بعدم تكليفهم بالأعمال الشاقّة عليهم، وأن يُطعَمُوا من طعام أهل البيت، وأن يُلْبَسُوا من لباسهم. بل يقول خادمُهُ صلى الله عليه وسلم، وهو أنس بن مالك رضي الله عنه: ما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لي عن شيءٍ صنعتُه لم صنعتَ هذا هكذا؟! ولا قال لي عن شيءٍ لم أصنعه: ألا صنعتَ هذا هكذا؟! ولما رأى رجلاً يضربُ خادمه المملوكَ له قال صلى الله عليه وسلم: ((اعْلَمْ يا فلان: لَلَّهُ أَقْدَرُ عليك منك عليه))، فقال الرجل لمّا سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو حُرٌّ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم له: ((أما إنّك لو لم تفعل لمستك النار)).

وكان صلى الله عليه وسلم شديدَ الحياء أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها. لا يُحبُّ فُحْشَ القول، ولا يجري على لسانه لفظٌ بذيءٌ قطّ، ولا يتفوّه بعبارة تجرح الحياء والعفافَ. حتى كان يقول: ((الحياءُ خيرٌ كلَُه))، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)).

وكان صلى الله عليه وسلم أعظمَ الناس تواضعاً، وهو القائل: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من كِبْر)). فكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ولا يُقَام له إذا دخل على أصحابه؛ لأنه كان ينهاهم عن ذلك، مع شدّة محبتهم وتعظيمهم له، ولقد قامت له قلوبُهم لئن لم تَقُمْ له أجسادهم. وإذا مشى لايُصْرَفُ الناسُ عن طريقه، حتى عند شدّة الزحام، كما وقع في حَجّته صلى الله عليه وسلم، وربما اجتمعَ الناسُ عليه يسألونه حتى يبلغ به الإجهادُ مَبْلَغَهُ. ولم يكن يُمِّيزُ نَفْسَه عن أصحابه في مجلسه أو ملبسه أو مركبه، بل إنه يجلسُ حيث ينتهي به المجلس.

هذه بعضُ كوامل صفاته، وبعض عوالي أخلاقه؛ فهي لا تُدرك بكلام مختصر ولا مطوَّل. أثنى الله عز وجل على أخلاقه، فقال تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4].

وضمَّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك كُلّه كمالَ العبودية لله تعالى، وكمال الخضوع والتضرُّع له عز وجل. فهو صلى الله عليه وسلم أعبدُ الناس، وأخشعُ الناس، وأورع الناس، وأزهد الناس.. صلى الله عليه وسلم.

فهو ذاكرٌ لله تعالى في كل أحيانه، لا يفتر لسانه عن التسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل وقراءة القرآن، كثير الاستغفار، غزير الاستعبار، يبكي من الخشوع لربّه حتى يبلّ لحيته، وحتى يُسمع لصدره صوتٌ من النشيج كصوت غليان القِدْر. يصومُ حتى يقال لايُفطر من كثرة الصوم، وقام الليلَ للصلاة حتى تفطّرت قدماه، فقيل له: لم تفعل ذلك وقد غُفِر لك ما تقدّم من ذنبك وماتأخّر؟!! فقال صلى الله عليه وسلم : ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).

بل هو صلى الله عليه وسلم أعبد العابدين، وأذكر الذاكرين، وأحمد الحامدين، وإمام الأنبياء والمرسلين.

وهو صلى الله عليه وسلم في جمعه للكمال البشري في شؤون دنياه مع الكمال البشري في شؤون أُخراه=معجزةٌ خارقةٌ للعادات، وإنّها – تالله – لَشَمائلُ وصفاتُ نبيّ، بل هي أخلاقُ وسيرةُ خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

^

الخاتمة

هذه السيرةُ الشديدةُ الاختصار لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم هي التي أردنا أن نخاطب بها العالمين، وأن تُبَلّغَ للناس أجمعين. إذ في هذه السيرة، وفي الإيمان بصاحبها رسولاً ونبيّاً، وفي الاقتداء به في جميع أقواله وأفعاله=خيرُهم وسعادتُهم في الدنيا والآخرة، وبذلك تحصل نجاتهُم من عذاب الله تعالى.

وقد يستغرب بعضُ من يقرأ هذا الخطاب من أنّه لم يعرف هذه المعلومات عن سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم إلا من قراءاته له، وهذا قد يكون من تقصيرنا – نحن يا من عرفناه حق معرفته – في البلاغ والدعوة، ولكن السبب الأعظم لذلك هو حَجْبُ الباطل وأعوانه لهذه الحقائق عن الناس، وسَعْيُهم بكل وسيلةٍ إلى صَدِّ الناس عن سماعها، حتى لا ندري - نحن الآن أيضاً - هل سيصل هذا الخطاب إلى كل الآذان، أم سيمنع (كالعادة) عن كثير من الناس!!!

ولا ننسى أن نُذكِّرَ البشريّةَ بأن تقديس التقاليد والعادات، والعصبيّةَ للآباء والأجداد، وصعوبة الاعتراف بالخطأ الكبير=كل ذلك قد يحول دون الاستفادة من هذا الخطاب الفائدةَ التي لن يصلَ إليها إلا من استطاعَ تجاوزَ هذا كُلَّه، وحاكمَ تقاليدَه وموروثَه وآباءه وأجداده ونفسَه بكل إنصاف وتعقُّل.

كما لا ننسى أن اللهو واللعب، والشهوات والملذّات، والانشغال بتحصيل ذلك كُلّه، قد يصرف الإنسان عن هذا الخطاب. لكن ليذكر هذا المنهمك في ملذّاته أن الخالق (الذي لا يشك عاقلٌ في وجوده) لم يخلقه عبثاً، وأنه لن يدرك سعادته الحقيقية إلا من خلال الدين الأخير الصالح لكل زمان ومكان إلى نهاية الدنيا، وهو الإسلام، الذي جاء به خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم من الخالق سبحانه.

وأخيراً لا ننسى عدوّ البشريّة الأوّل، وهو الشيطان وأعوانه من شياطين الجن والإنس، الذين سيُزَيّنونَ لبني آدم الإعراضَ عن هذا الخطاب، وسيحاولون صَرْفَهم عن الحقائق الواردة فيه بأنواعٍ شتّى من الحيل النفسيّة والأباطيل والشُّبَه.

فعلى من أراد السعادة الحقّة، والنجاة من التعاسة الحقّة: أن يأخذَ على نفسه العهد، وأن يُصمِّمَ التصميم الصادق، بألا يُهمل هذا الخطاب حتى يدرسَه حق دراسته، ويبحث ويقرأ ويسأل عمّا تضمَنه من معلومات، إلى أن يصل إلى الحق.

وليعلم أنه سَيُلاقي عقباتٍ كثيرةً، سبق ذكر بعضها آنفاً؛ لكن عليه أن يتجاوزها، مجتهداً في ذلك كل الاجتهاد؛ لأنّ ما يبحثُ فيه هو أجلّ شيءٍ - على الإطلاق - يبحثُ فيه المخلوق، إنه يبحث عن علاقته بربّه عزوجل، وعمّا يُكْسِبُه رضي خالقه عنه، ليحظى بتوفيقه وعنايته وحفظه وتأييده وطمأنينته في الدنيا، وبجنّةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم الأبدي.

إننا على ثقةٍ تامة أنه مَنْ أَوْلى هذا الخطاب ما يستحقّه من الدراسة، متجاوزاً كل العقبات الحائلة بينه وبين دراسته له، مستعيناً بالخالق الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، على أن يدلَّه على الحقّ ويرزقه قبوله والخضوع له، مهما كان=أنه سيصل إلى مطلوبه الأعظم، وستنكشف له الحقيقة الكبرى!!!

وعندها سيكون هذا المسلم الجديد من أي بلدٍ كان، ومن أيّ عرق، ومن أي لون، وفي أي زمان=أحدَ من وَجّهوا هذا الخطاب أيضاً لغيره من البشريّة، ممن لم يسمعوا هذا الخطاب، أو سمعوه لكنهم خسروا أنفسهم وظلموها بعدم التصميم الصادق في اتّخاذ القرار الحكيم بشأنه.

{ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } [إبراهيم:52].

1
108
تعليقات (0)