محمد رسول الله – خلاصة سيرته ومقالات نادرة

الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد

 أنقر هنا للكشف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الحديث عن السيرة النبوية حديث تنشرح له الصدور، وتنطلق له الأسارير، وتخفق له الأفئدة.

كيف لا وهو حديث عن أكرمِ البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيمٍ لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم _ فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدَّث به عن هذا الرسول العظيم.

وغير خفي على مَنْ يَقْدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب _ ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها _ تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة.

وإن من يبتغي عظمةَ رجلٍ بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.

ولقد كان محمد " راجحَ العقل، غزيرَ العلم، عظيم الخلق، شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.

أما رجحان عقله فمن دلائله بعد اختصاص الله له بالرسالة أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد " قليل أو كثير؛ فانبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.

وأما علمه فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى والسعادة الباقية في الأخرى.

ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب _ يلف رأسه حياءاً من أن ينفي عن المصطفى " عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.

وقد خرج من بين يدي محمد " رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.

وأما خُلقه فهذه السيرة المستفيضة في القرآن وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه قد بلغ الذروة في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، بل أسفار.

وأما إخلاصه فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة وقطب مدارها.

وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة؛ فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.

وأما صدق عزيمته فقد قام " يدعو إلى العدل ودين الحق ويلقى من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله وَعَلتْ حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.

وأما عمله فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تُبْتَغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر غير هذه السيرة؟

وهل يستطيع أحد أن يدلنا على رجل كان ناسكاً مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى _ عليه الصلاة والسلام _؟

وأما حسن بيانه فقد أحرز _ عليه الصلاة والسلام _ من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه، وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.

عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المزايا العالية؛ فبلغت حد الإعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد _ عليه الصلاة والسلام _ معجزة([1]).

هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمارك والنرويج تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتان؛ ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.

وفي تعب من يحسد الشمس نورها -- ويجهد أن يأتي لها بضريب

[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] (التوبة:32).

ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم _عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم_.

وإذا أراد الله نشر فضيلة -- طويت أتاح لها لسان حسود

وفضيلة النبي " لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْد الضحى.

ولعل من أعظم أسرار سيرة نبينا محمد أنها تمتاز عن سير سائر العظماء بأنها لا تُسْتَنْفَد مهما كتب فيها من كتب؛ فسير العظماء _ على الجملة _ يقوم بأمرها، ويغني في شأنها أن تكتب مرة أو مرات، ثم تستنفد معانيها، ويصير الحديث فيها معاداً مكروراً تغني فيه أعمال الأسلاف عن محاولات الأخلاف.

ولقد عُني المؤرخون والرواة بالسيرة النبوية منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وصدر فيها كثير من الكتب في عدة لغات، ومع ذلك لم تخْلَق جِدَّتُها، بل إنها لتزداد على كثرة ما يكتب فيها جدَّة وَرُوَاءَاً.

وليس ذلك على خَطره بدعاً من طبيعة الأشياء؛ فمحمد هو رسول الله وخاتم النبيين، وقد أنزل الله إليه الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والناس المعنيُّون بهذا هم كلُّ الناس منذ بُعث حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وهؤلاء _بسنة الله في الكون_ في تجدد دائم، وتطور متصل، تَجِدُّ لهم دائماً أحوال، وتحدث لهم أحداث يكون لها آثارها في معاشهم وعلومهم وتفكيرهم.

فليس عجباً أن يلتمس المؤمنون في الكتاب المنزل وفي التفسير الحيّ لهذا الكتاب الذي عاشه خاتم النبيين بسيرته _ هدياً لهم فيما يستقبلون كل يوم من شأن، وليس عجباً أن يلتمس غيرُ المؤمنين في هذا الكتاب المنزَّل وفي تفسيره الحي من سيرة الرسول ما عسى أن يقعوا فيه على مسافة خُلف بين الدين والتطوُّر، أو بين الكتاب والسنة أو السيرة.

وكذلك عُنِيَ المؤمنون وغير المؤمنين بالسيرة عناية تختلف من حيث الحقيقة والخرافة، ومن حيث الإنصاف والجور.

والسيرة الشريفة _مع هذه العناية المتصلة_ جديدةٌ خصبة، ملهمة موحية، لأنها الترجمة الحية العملية لمبادئ الإسلام العليا.

وما أكثر ما تَجنَّى خصوم الإسلام على سيرة نبيه جهلاً أو جحوداً بالحق، فلم ينالوا منها نيلاً، بل ربما دفع تجنِّيهم بعضَ الباحثين إلى العناية بها؛ تَلَمُّساً للإنصاف، وطلباً للمعرفة؛ فهدوا بذلك على الخير، أو شيء منه.

ونحسب أن من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناس هذه العناية بسيرته سواء منهم من أقرَّ به، أو من أنكر نبوته؛ لأنه " نور، ومن عرف النور فقد شهد لنفسه بالاستبصار، ومن أنكره فقد شهد على نفسه بالعمى، والنور على الحالين نور.

وقد رفع الله ذكر محمد، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلوات، ووصفه في أكثر من موضع من القرآن بصفات تجعله في المرتبة التي لا تُنال.

[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف:157).

وليس مصدرُ العناية بالسيرة إرضاءَ حاجةِ العلم والدرس فحسب؛ فحاجات المؤمنين إلى هذا الينبوع من الحب والهدى أشد من حاجات العلماء إلى البحث والدرس، وكلُّ من في قلبه نفخة إيمان يجد نفسه مهما فرّط في الدِّين مشدوداً إلى محمد، راغباً في أن تزداد هذه العلاقة وثاقة.

وحب رسول الله من حب الله، فليس محمد _على شانه الأجل_ إلا بشراً رسولاً([2]).

ورغبة في الإسهام في هذا الواجب العظيم، وأداءاً لأقل القليل في حق هذا النبي الكريم _ رأيت أن أقدم جهد المقل في هذا الشأن، وذلك من خلال إلقاء الضوء على بعثة النبي " وخلاصة سيرته، وإيراد بعض المقالات النادرة في السيرة النبوية تلك المقالات التي كُتِبت بأيدي ثلة من أكابر كتاب العربية وعلمائها في العصر الحديث، وناقشت عدداً من القضايا، وردَّت كثيراً من الشبه التي يتكرر إيرادها، وأبرزت جوانب مشرقة من السيرة، وألقت الضوء على موضوعات ربما لم تطرق من ذي قبل، كل ذلك بأسلوب محكم أخَّاذ، جزل، بليغ.

ثم إن كثيراً من هذه المقالات قد انطوى، ودرس، ويُخشى أن تطاله يد النسيان، وتعدو عليه عوادي الضياع،فيحرم الناس من خير عظيم.

وهي _أيضا_ قد كتبت في وقت تسلط فيه الملاحدة على نبي الإسلام _ عليه الصلاة والسلام _ فكأن التاريخ يعيد نفسه.

وهذه المقالات التي يحتويها هذا المجموع معزوة إلى مراجعها، ومشارٌ إلى تواريخ كتابتها إن كانت موجودة.

وقد نُشر بعضها متفرقاً في الأجزاء الثلاثة من كتابي (مقالات لكبار كتاب العربية في العصر الحديث).

ولأجل أن تكون في مجموع واحد، ولتقريبها للقارئ _ وُضِعت ههنا، وزِيد عليها عددٌ من المقالات التي لم تكن في الأجزاء المذكورة.

والمقالات التي تضمنها هذا المجموع هي:

1_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته  للعلامة الشيخ محب الدين الخطيب.

2_ مولد الإنسانية للعلامة محب الدين الخطيب.

3_ قدوتنا الأعظم للعلامة محب الدين الخطيب.

4_ من إلهامات الهجرة للعلامة محب الدين الخطيب.

5_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي للشيخ العلامة محمد رشيد رضا.

6_ عبرة الهجرة للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي.

7_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي.

8_ محمد "للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار.

9_ أمهات المؤمنين للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار.

10_ المدينة الفاضلة للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

11_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة للعلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.

12_ مجلس رسول الله " للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

13_ الدعوة الشاملة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

14_ نظرة في دلائل النبوة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

15_ عظمة رسول الله " للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

16_ شجاعته _ عليه الصلاة والسلام _ للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

17_ منقذ العالم من الظلمات للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

18_ رجاحة عقله " وحكمة رأيه للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

19_ قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

20_ البلاغة النبوية للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

21_ من آداب خطب النبي " للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.

22_ نبي الملحمة للأستاذ عبدالصبور مرزوق.

فإلى محتويات الكتاب، والله المستعان وعليه التكلان.

محمَّد بن إبراهيم الحمد
23/ 12/ 1426هـ
الزلفي  ص. ب 460
www.toislam.net
Alhamad@toislam.net


([1]) انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين5_7، 204_206.

([2]) انظر إلى مقدمة الأستاذ محمد فتحي عبدالمنعم لكتاب محمد رسول الله للعلامة أحمد تيمور باشا ص14_16.

1
4034
تعليقات (0)