حول الاعتداءات المتكررة على القرآن الكريم

الشريف حاتم بن عارف العوني

لقد انزل الله - تعالى - كلامه في القرآن الكريم على خاتم الانبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - ليقوم الناس بالحق والعدل، وليهدي الناس للتي هي أقوم، وليعم العدل والاحسان بين البشر، كما قال - تعالى -: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي).

هذه بعض تعاليم القرآن الكريم، التي جاء ليعم بها العالم كله، وليسود في العالم كله الايمان والسلام والسعادة.

وليس كلام الله - تعالى -في حاجة لمن يدافع عن حكمة أحكامه وصدق أخباره وانفراده بتحقيق الأصلح لجميع بني البشر؛ فهو كلام الخالق الذي لا اله الا هو؛ فلا يستجيز أحد ممن عرف القرآن الكريم ان يحله محل التشكيك أو المساومة أو قبول أي نقد فيه؛ وان كان من الجائز طلب تفهمه والبحث عن معانيه، ولكن هو عند كل من عرفه محل ايمان وتسليم مطلق؛ لانه كلام الله، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

فليس الاعتداء على القرآن الكريم بالدعوة لاحراقه، ولا بما يقع من حين وآخر من اساءات له مما سيغير شيئا في تلك الحقيقة الثابتة، وهي ان القرآن الكريم كلام الله الخالق العزيز - سبحانه -. فلن يستفيد حارقوه وممزقوه شيئا الا مزيدا من سخط الله - تعالى -عليهم.

وأما مكانة القرآن عند المؤمنين به فانها ستزداد تعظيما بهذه الأفعال المشينة تجاه كلام الله العظيم، وسيزداد شعورهم بتقصيرهم في الدعوة للاسلام وفي التعريف بتعاليم القرآن؛ لانهم لا يشكون في ان الاساءة للقرآن الكريم لا تقع من عاقل أبدا، الا من أحد شخصين: اما من جاهل به لا يعرفه، وهذا الصنف هم الأعم الأغلب فيمن يسيئون للقرآن الكريم، وهذا هو الأصل في المسيئين للقرآن الكريم. واما ان تقع الاساءة من شخص قد عرف الحق وأصر على الباطل استكبارا وعنادا أو طمعا في شيء من متاع الدنيا كرئاسة دينية أو شهرة اعلامية رخيصة ومشينة، أو غير ذلك من متع الدنيا. وهو بذلك قد تشبه بالشيطان، الذي عرف ربه وكفر به!.

ومع هذه الاعتداءات المتكررة على القرآن الكريم فلن يستجيز أحد من علماء المسلمين مقابلة تلك الاساءات باساءة مماثلة للكتب المقدسة عند أصحابها، كالتوراة والانجيل، مع قدرة المسلمين على حرقها وتمزيقها والاساءة اليها، فليس هناك ما يمنع المسلمين من ان يفعلوا بالتوراة والانجيل ما فعله المخالفون لهم بالقرآن الكريم! لن يستجيز علماء المسلمين ذلك، مع ان المقابلة بالمثل عدل في العادة؛ لكن لما كان ذلك الفعل مما نهى القرآن عن مثله، في قوله - تعالى -عن سب الأوثان والأصنام التي أشرك الكفار بها مع الله - تعالى -: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم). فان علماء المسلمين لا يستجيزون مقابلة تلك الاعتداءات على كلام الله - تعالى -بشيء من الاعتداء على الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى. وهذه المفارقة وحدها بين المسلمين وغيرهم دليل واضح يبين حقيقة دعوة القرآن القائمة على العدل والاحسان كليهما، وبذلك يتبين أيضا لماذا تجاوز القرآن الكريم في دعوته الاقتصار على العدل، حتى قرن بالعدل الاحسان، كما في الآية المذكورة آنفا!.

ان جميع المسلمين يؤمنون بان الله - تعالى - قد انزل التوراة والانجيل وغيرهما من الكتب المقدسة على انبيائه - عليهم السلام -، وهذا أحد أركان الايمان الستة وقواعده الكبرى عندهم.

وهم يؤمنون مع ذلك بان القرآن الكريم ناسخ لتعاليم الكتب السابقة؛ لانه التعليم الرباني الخاتم؛ ولان الكتب السابقة قد نالتها الأيدي الآثمة بالتحريف في لفظها وفي تأويلها وفي ترجماتها.

وهذا سبب آخر يمنع المسلمين من الاساءة للتوراة والانجيل؛ لان كل ما لم يخالف الاسلام من تعاليم وأخبار التوراة والانجيل يمكن ان يكون من بقايا كلام الرب - تعالى - الذي لم تنله يد التحريف الآثمة.

ولذلك يصون المسلمون هذه البقية الباقية من كلام الرب (احتمالا، والمغمورة ضمن المحرف) في التوراة والانجيل من ان ينالها أحد بالاعتداء! حتى ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أمته عن أول درجات الاساءة للكتب المقدسة عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهو التكذيب، فقال - صلى الله عليه وسلم - عن أخبار أهل الكتاب التي لا نجد في القرآن والسنة ما يصدقها ولا ما يكذبها: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله - تعالى -: (قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).

وبهذه المفارقة الواضحة يعرف كل عاقل ما هو الدين العالمي حقا، والذي لديه القدرة على ايجاد أرضية مشتركة بينه وبين بقية الأديان، هل هو الاسلام الذي يؤمن بكل كتب الانبياء - عليهم السلام -، ويمنع علماؤه من ان يتعرض أحد لها بشيء من الاساءة، أم هو الدين الذي يكفر بالقرآن، ويدعو بعض رجال الدين فيه للاعتداء على القرآن الكريم؟ وكم من مرة اعتدي فيها على القرآن الكريم في مناطق عديدة من العالم، وخلال السنوات القليلة الماضية فقط، من بعض اليهود والنصارى: في اسرائيل وأمريكا واستراليا وغيرها من دول العالم، وتناقلت ذلك وسائل الاعلام العالمية؟! وفي المقابل: متى اعتدى المسلمون بنحو ذلك على التوراة والانجيل؟!

وبهذه المفارقة الواضحة يعرف كل عاقل (من المسلمين ومن مخالفيهم) أي الفريقين منهم هو الأولى بأوصاف العدوانية على المشاعر الانسانية بالاساءة الى المقدسات الدينية لدى الآخرين.

وبهذه المفارقة الواضحة يعرف كل عاقل ما هي تعاليم القرآن الذي ينسب اليه أعداؤه ما يقومون هم به؛ فالقرآن الذي يعتدون عليه بالحرق والتمزيق والاساءة هو نفسه (وبتعاليمه) يحرم حرق وتمزيق الكتب المقدسة عند الآخرين، ولا يجيز أي وجه من وجوه الاساءة والتحقير للتوراة والانجيل، فلا يجيز القرآن الكريم لأتباعه شيئا من ذلك تجاه الكتب المقدسة عند أصحابها!.

وهذه المفارقة الواضحة والفاضحة أيضا لأعداء القرآن الكريم هي في النهاية نصر جديد للقرآن الكريم؛ لانها تكذب من نسب الى القرآن الكريم ما يقوم به أعداؤه والمفترون عليه من اشاعة روح الكراهية بين البشر واشعال نار العنصرية المقيتة والمفسدة تجاه الآخرين، فاذا الذي ينسب ذلك للقرآن الكريم افتراء هو نفسه من يشيع روح الكراهية بين البشر، وهو من يشعل نار العنصرية تجاه الآخرين. وبذلك كانت هذه المفارقة نصرا جديدا للقرآن، وما كان يمكن المسلمين ان يصلوا الى هذا النصر لولا تلك الاعتداءات الآثمة.

وأخيرا: بهذه المفارقة الواضحة تظهر آية بينة على ان القرآن الكريم وحده هو الذي يدل البشرية على التعاليم الربانية حقا وصدقا، وهو وحده الذي يضمن للبشرية حكما عادلا، وحكمة صادقة، واحسانا لا يضيق عن كل مخلوق على وجه الأرض، فضلا عن شموله باحسانه لجميع البشر من جميع الأديان والأعراق.

(لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم).

نقلاً عن «المختار الإسلامي»

1
8338
تعليقات (0)