أساس الإسلام

-

من أروع ما في الإسلام وصفه لله تعالى ، فالله هو رب العالمين ، عالم الجماد ، وعالم النبات ، وعالم الحيوان ، وعالم الإنسان ، وعالم المجموعة الشمسية ، وعالم غير المجموعة الشمسية مما نعلم وما لا نعلم ، وهو واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . هو الذي خلق الخلق أولاً ، ثم هو الذي يمده بالحياة دائماً ، وهو الذي يدبر نظامه ويسيره إلى غايته ، فعلاقته بمخلوقاته لا تنقطع ، ولو انقطعت لحظة لفسدت السماوات والأرض ومن فيهما ، وهذا هو الذي يميز العقيدة الإسلامية عما يعتقده الأوربيون وغيرهم ، فهم يعتقدون أن الله خلق الخلق وتركه يدبر نفسه كما شاء ويدبرونه هم في دنياهم كما يشاءون ، فهم الذين يقررون الفضائل والرذائل ، وهم الذين يسنون قوانينهم وشرائعهم حسبما يتراءى لهم ، فإذا ذكروا الله في أوقات الشدة _ كأوقات الأزمات الحرجة في الحرب _ فكل أمة تدعي أنه معها وتستنجده في النصرة على عدوها ، كأن الله تعالى خادمها لا المسيطر على العالم كله يصرفه ويقضي فيه حسب سنته التي رسمها .

فميزة العقيدة الإسلامية أنها تصفه بالخالق ، وتصفه بأنه يرعى العالم دائماً ويهديه سبيله دائماً ، وتطلب من الإنسان أن يوثق علاقته بربه ، فيرعى أوامره ونواهيه في كل تصرفاته ، ويطلب منه الهداية ، ويؤسس نظرته إلى الأخلاق على ما أمر الله به أو نهى عنه ، ويشكل حياته الفردية والاجتماعية حسب تعاليمه ، ويجدّ في اكتشاف إرادة الله فيتبعها ، ويدقق في فهم إشاراته فيعمل على وقفها ؛ ويجعل صلته بالله أقوى صلة ، وحبة لله أقوى حب ، والخوف منه أكبر خوف ، يؤمن ألا شئ في الوجود يستطيع أن يبقى لحظة من غير إمداده ، وهو أول الخلق وآخره ، بمعنى أنه السبب الحقيقي في خلقه ، والغاية التي ينتهي إليها وجوده ، وهو الذي وضع للناس القواعد الأخلاقية الأساسية لسيرهم ، وربط الأمر والنهي بما ينفعهم ويضرهم ، فأمر بما ينفع ونهى عما يضر ، وهو الذي يحاسبهم على تصرفاتهم في دنياهم يوم يلقون ربهم ( فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) يقرب إليه المطيعين ، ويبعد عنه العاصين ، يريد من الإنسان أن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته ، وأن يسعى ويجد في الحياة مراعياً أوامره ونواهيه ، ولا يترهب ، ولكن يسعى ويعمل ، ولا يغمض عينه عن الدنيا التي يعيش فيها ، كما لا يغمض عينه عن الأخرى التي يرى فيها ربه . وقد كتب الله على نفسه أن يمد بالمعونة من استعانة في شئونه ورعاه في حياته ، وأن يخذل من صد عنه ، وعـصى أمره ، بيده الملك وهو على كل شئ قدير .

هذه العقيدة ، عقيدة وحدانية الله وعظمته وقدرته على هذا النحو ، من شأنها أن ترفع نفس معتنقها ، فمن الذي يؤمن بإله هذه أوصافه ، ثم يذل لمخلوق أو يتنزل إلى سفساف الأمور ؟ ومن الذي يؤمن بإله هذه صفاته ، ثم لا يتحرى الفضيلة في حياته ويتجنب الرذيلة في سلوكه . إن عقيدة الوحدانية تجعل الإنسان على أحسن صلة بالناس وبالحيوان وبكل الخلق ، لأنه وإياهم نتاج صانع واحد ، ومدبر واحد ، فاتصاله بهم وبكل موجودات العالم اتصال أخوة . تجعله لا يذل للغني ولا للحاكم ، ولا لذي السلطان ، لأنه لا سلطان إلا لله ، والفروق بين الإنسان والإنسان فروق في العرض لا في الجوهر ، وفي الأوصاف الزائلة للأشياء لا في الخالدة فيها ، والله لا يقوِّم الناس بغناهم وجاههم ، ولكن بقلوبهم وأعمالهم .

إن عقيدة الوحدانية تجعل الإنسان لا يحتقر الفقير ولا الضعيف ولا المرءوس لأنه أخوه أيضاً وشريكه في الحياة ، وشريكه في العبودية لله ، فهو عزيز النفس في غير كبر ، أبىّ في غير عتو ، متواضع من غير ضعة ، ناظر إلى كل شئ نظرة عطف ورحمة . لا يرضى بالهوان لأنه ينتسب إلى الله العظيم ، ولا يرضى أن يظلم أو يُظلم ، لأنه ينتمي إلى الله العادل ، يعمل ويكد في الحياة ويبتغي أن يكون أعلى مقام . يفضل عقيدته في الله التي هي أحسن العقائد ، ويجب أن تكون أمته خير امة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . يطيع الله فيما أمره به ، وينتهي عما نهى عنه ، ويعمل عقله حيث لا أمر ولا نهي ، لأن العقل منحة الله ، والله أمر باستخدامه والاستهداء به .

إن كان هذا فما الذي جعل المسلمين في أنحاء العالم في الذيل لا في الصدر ، وفي المؤخرة لا في المقدمة ، وكان مقتضى العقل أن تجعلهم هذه العقيدة في طليعة أهل العالم ، وحاملي لوائهم وهداتهم ، والسابقين إلى الخيرات ، والآمرين لا المؤتمرين ، والقائدين الأعزة لا المُقادين الأذلة ؟

سؤال صعب : والجواب الصحيح أن العقيدة الصحيحة تقوَّم بذاتها لا بمعتنقها ، فقد ينحرف أهلها عنها ، أو يحتفظون بشكلها لا بجوهرها ، ولو آمن بها أتباعها حق الإيمان لصح أن يكونوا مقياساً كما كان معتنقوها الأولون ، ولكن مع الأسف فقد المسلمون روح العقيدة وحرارتها وحياتها ، وتمسكوا بظاهرها ، والظواهر لا عبرة بها ولا قيمة لها ، والحق أن العالم الإسلامي اليوم يعيش من غير عقيدة صحيحة ، أو من غير توفيق بين العمل والعقيدة ، أو بعبارة أخرى هم يعملون من غير أن يكون الباعث على عملهم العقيدة ، ومن غير أن ينظروا في أعمالهم هل هي مطابقة لعقيدتهم أولا ًفالعالم صنفان : صنف من الأمم يعيش من غير دين ، أو بدين يؤمن بإله ، ولكن يجعل إلهه طُرفه من الطرف في مكان مغلق يُستمتع بالنظر إليه من حين إلى حين ولكنه لا يُدخله في حياته ولا في تصرفاته ، وصنف يعتنق الدين بصفاته الصحيحة التي ذكرنا ، ولكنه يعتنقه نظريا لا عملياً ، فالنظم الاجتماعية عند الجميع في العالم والنظم السياسة ، قائمة على نظرات آلية ميكانيكية ليس مبعثها الاعتقاد بالله وإتباع أوامره ، بدليل أن السياسي المتدين والسياسي الملحد يتفاهمان كل الفهم على التصرف في الأمور ، والاجتماعي المتدين والاجتماعي الملحد سواء في النظر إلى الأمور على وفق المصالح من غير نظر إلى روح الدين .

وقد فقد الدين والعقيدة في الله ساحة الحياة العملية ، وأصبح المتدينون على اختلاف أديانهم لهم دين ميتافيزيقي ( غيبي ) يعيشون فيه أحياناً بتفكيرهم أو خيالهم ، ولهم حياة عملية منفصلة عن الدين بتاتاً تسيّر الأغراض والمادة ، ويخدم كل ذلك العقل ، ولا يلاحظ فيها ملاحظة خالق الخلق ، وأوامره ، وإشاراته ، ولا ينبض فيها القلب بأي معنى من معاني العطف والرحمة والطاعة ، لذلك سيبقى العالم مضطرباً حائراً فاسداً حتى يجد روحه وقلبه .

لقد تفوق العالم المسيحي على العالم الإسلامي اليوم لأنه كان أعرف بوسائل الأعمال ووسائل الحياة ، وأكثر أكتشافاً لقوانين المادة ، وقوانين القوة المادية ، لا لأنه أرقى ديناً وأعظم روحا ، فالعالم كله اليوم مخطئ إذا نحن نظرنا إليه نظرة روحية ، وهو شقي بتقدمه المادي ، وتقدمه العقلي من غير أن تُساندهما قوة الروح ، وليس ينقص المسلمين إصلاح في عقيدتهم ، ولا روحانية في دينهم ، ولكن ينقصهم أمران : الأول : أن يكون الدين روحاً لا شكلاً ، وقلباً لا جوارح ، وحرارة لا مظهراً ، ونبضاً لا جموداً ، وأن تكون ( لا إله إلا الله ) و ( الحمد لله رب العالمين ) معنى لا لفظاً ، وصادرة من أعماق القلب لا من طرف اللسان ، وأن يكون معنى ( لا إله إلا الله ) أن ليس غرض من أغراض الدنيا إلهاً ، فالمال والجاه والسلطان ليست آلهة تعبد ، ولا قوة يخضع لها ، وإنما الخضوع للحق وحده لأن الله هو الحق ، ومعنى أن الله رب العالمين : أن ليس في العالم رب يطاع وتسمع أوامره ونواهيه إلا هو جل شأنه ، والثاني : ارتباط عملهم بعقيدتهم ، وإيجاد العلاقة الوثيقة بين ما يعملون وما يعتقدون ، فليس للعقيدة من قيمة إذا حفظت في خزانة لا تفتح ، أو قدست أو أهـملت ، أو لفّت في ثياب من حرير ثم تركت ، فكما أن لا قيمة للمال إلا ما انتفع به ولا لأي عرض من أعراض الحياة إلا إذ استغل للمصلحة ؛ فأهم من ذلك كله العقيدة : إذا لم يبن عليها العمل كانت نجماً جميلاً في السماء ، أو لوحة جميلة في المعرض ، أو خيالاً بديعاً في أخيلة الشعراء ، أو صورة فنية من صور الأدباء . إنما العقيدة المُصلحة هي العقيدة التي يتبعها العمل ، وتبعث النور في طريق الحياة , وتهدي إلى الصراط المستقيم .

1
783
تعليقات (0)