د. جمال الحسيني أبوفرحة
يقول بولس الرسول: "أيها الأخوة لم آتكم لأبلغكم سر الله بسحر البيان أو الحكمة ...... ولم يعتمد كلامي وتبشيري على أسلوب الإقناع بالحكمة بل على أدلة الروح والقوة" 1كورنثوس1:2-4 وانظر 17-23 وكلام بولس هنا يتعارض مع نصوص كثيرة أخرى له سيأتي ذكرها في مقالتنا هذه.
ويقول قديسهم توما الإكويني: "إن أية محاولة لتفهم العقائد المسيحية واقعة في التناقض لا محالة؛ إن لم تكن مستحيلة على الإطلاق".
ويقول الأب متى المسكين في كتابه "كيف تقرأ الكتاب المقدس؟": إن "الاستذكار العقلي ... لا يتناسب مع الكتاب المقدس، فالكتاب المقدس يفهم ولا يفحص".
ويقول ادوار ج يونج- في كتابه "أصالة الكتاب المقدس": "إنه مما لا شك فيه أننا نواجه في عقيدتنا عن الوحي كثيرًا من الصعاب المربكة والحقيقية؛ ومن الحق أن نعترف بذلك". ويقول:"ما أكثر الصعاب الكتابية التي يلزم أن نواجهها .... وما أكثر الصعاب التي لا نستطيع أن نجد لها تفسيرًا .... وفي الواقع إنه أكرم كثيرا أن نعترف بهذا العجز دون المحاولات أو المداورات التي قد تتم على حساب الأمانة أو النزاهة العلمية".
ويعلل ذلك بأنه ليس هناك – من وجهة نظره- قياس مستقل يمكن أن يقيس به الإنسان معقولية الإعلان الإلهي؛ ويستشهد على ذلك بما ورد على لسان أيوب عليه السلام في قوله عن الله تعالى كما يحكي سفر أيوب: "ليس هو أنسانا مثلي فأجاوبه فنأتي جميعا إلى المحاكمة، ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا" الأصحاح 9: 32-33
ويعلل ما ذهب إليه كذلك "بأن الذين ينبذون العقيدة الكتابية الصحيحة عن الوحي (يقصد عقيدته المسيحية) يخلفون وراءهم صعابا أقسى وأشد؛ من الواجب أو الأمانة أن يتأملوها ويدركوها".
وأقول:
حقًا، نحن لا نشك في أن الذين ينبذون العقيدة الصحيحة عن الوحي يخلفون وراءهم صعابا؛ ولكن هل هذه العقيدة الصحيحة هي ما يعلمنا الكتاب المقدس في وضعه الحالي؟!
ومن أين لنا أن هذه العقيدة الكتابية صحيحة؛ وهي غير مفهومة لنا كما يصرح بذلك هو نفسه؟!
وهل نحن مجبرين على الاختيار بين المسيحية وما هو أسوأ فقط؟!
وأليس هناك أية ديانة أخرى لا تتأدى بنا إلى مثل هذه الصعاب والمتناقضات مع الذات، ومع العقل، ومع العلم، ومع الأخلاق؟!
وكيف يعجز الله أن يعلن رسالته إلى العالم محررة من كل خطأ واضحة بلا غموض؟!
وما فائدة الرسالة الغامضة غير المفهومة؟!
وهل يمكن أن تنبني عليها عقيدة أو عمل؟!
ثم إنه إذا كان الله تعالى هو خالق قوانين الطبيعة، وقوانين العقل؛ فيستحيل أن يوحي إلى البشر بكتاب يناقض تلك القوانين، بل الأحرى أن يكشف كتابه عن أستارها؛ ليعلم أنه من عند خالقها "الذي يعلم السر في السموات والأرض" (الفرقان"6).
ولو لم يكن العقل هو أساس قبول الدين لما كان هناك ما يمنع أن يكون المجنون مكلفا، والصغير مكلفا، وفاقد الوعي مكلفا، ولتساوي الإنسان مع الحيوان الذي لا عقل له، والجماد الذي لا روح فيه، ولما كان هناك ميزان يفصل بين الحق والباطل، ومن ثم يبطل البعث والجزاء.
وهذا المنهج - منهج الهروب من العقل- هو آخر معقل لجأت إليه المسيحية واليهودية وخاصة في عصور العقل والعلم، بعد ما فشلت كل مواجهاتهما مع الذات ومع العلم ومع العقل؛ فناقضتا من ثمة أصلهما وجوهرهما السماوي الذي يحث على العقل واتباعه والذي يلح عليه الكتاب المقدس في كثير من المواضع:
- مرة على لسان المسيح عليه السلام في قوله: "فتشوا الكتب". يوحنا:39:5
- ومرة على لسان بولس الرسول – مناقضا ما أوردناه على لسانه في مقدمة مقالتنا هذه- في قوله: "لا تحتقروا النبوات امتحنوا كل شيء تمسكوا بالحسن" 1تسالونيكي 5: 20-21 وهذا الامتحان بالطبع لا يكون إلا بميزان العقل الذي يدعونا بولس الرسول نفسه إلى التيقن منه في قوله: "فليتيقن كل واحد في عقله" رومية24: 5 . . وهذا العقل أيضا كما يقول بولس في رسالته إلى أهل تيطس 2: 1-2 هو ما لا يليق بالتعليم الصحيح الذي يؤدي إلى البر أن يكون إلا به.
- لأنه هو الذي يحفظنا من الوقوع في طريق الشر والكذب؛ وهو ما يرويه الكتاب المقدس على لسان سليمان عليه السلام: "فالعقل يحفظك، والفهم ينصرك، لإنقاذك من طريق الشرير، ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب". أمثال2: 11-12
- ومن ثم يوصينا بولس أن نكون مثل هؤلاء الذين "قبلوا الكلمة بكل نشاط فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الأمور هكذا، فآمن منهم كثيرون". أعمال الرسل17: 11-12
- وهو ما يطالب به أيضا بطرس الرسول المؤمنين قائلا: كونوا "مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم" 1بطرس: 3: 15
- فهذا العقل لا بد منه قبل أن نتكلم؛ وإلا حسبنا كالبهيمة؛ وهو ما يرويه الكتاب المقدس على لسان أيوب عليه السلام: "تعقلوا ومن بعد نتكلم، لماذا حسبنا كالبهيمة وتنجسنا في عيونكم؟!" أيوب: 18: 2-3
- أما هؤلاء الذين رفضوا العقل فيروي عنهم الكتاب المقدس على لسان إشعياء عليه السلام: أنهم "لا يعرفون ولا يفهمون؛ لأنه قد طمست عيونهم عن الإبصار وقلوبهم عن التعقل". إشعياء 44: 18.
- ومن ثمة كانت إدانة مجمع لاتران الكنسي في عهد البابا ليو العاشر (1475: 1521) الانفصال بين الفلسفة واللاهوت.
والله أسأل الهداية للناس أجمعين
--------------------------------------------------------------------------------------
د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
gamalabufarha@yahoo.com
عنوان المراسلات: المملكة العربية السعودية - المدينة المنورة – جامعة طيبة – كلية الآداب – ص.ب: (344) ت: 0508628894