-
د. رياض نعسان أغا تبدو الحقيقة الأولى التي ينبغي أن يستفيدها العرب من العدوان الهمجي على غزة هي أن السلام مع إسرائيل وهم لا يمكن تحقيقه، وأن الطمأنينة إلى أهداف إسرائيل ونواياها سذاجة أو هرب من مواجهة الحقيقة، فقد برز بوضوح حجم ما يكنه شعب إسرائيل من حقد وكراهية للفلسطينيين وبالطبع للعرب والمسلمين جميعاً، فالغالبية العظمى من شعب إسرائيل كانت مؤيدة بقوة لمزيد من القتل والسفك والتدمير، مما جعل قادة إسرائيل المتنافسين في ميدان الانتخابات يتقربون إلى شعبهم ويتبارون عبر مزيد من الجرائم والإبادة الجماعية لسكان غزة، دون أن نسمع من داخل إسرائيل صوتاً ذا دوي إلا ما ندر يستنكر هذه الوحشية التي تترفع عنها الوحوش ذاتها.
وأما الحقيقة الثانية فهي، حق الشعوب في الدفاع عن نفسها حين تتعرض لغزو أو عدوان، راسخ لا يمكن اقتلاعه حتى لو سمي هذا الدفاع إرهاباً أو تعرض لإدانات أو حصار وقمع، فهو مرتبط بالطبيعة والسنن الكونية، فحتى الحيوانات تدفع عن نفسها أي شر أو أذى أو ضرر يحيط بها بردة فعل عفوية، وكل من يحلم أن بوسعه تغيير سنن الطبيعة وحرمان الشعوب من حق الدفاع عن نفسها هو واهم، ولن يحصد من تجربته غير ارتكاب الجرائم ضد البشرية.
وأما الحقيقة الثالثة فهي كون ضمير العالم ما يزال حياً على رغم أننا عتبنا عليه صمته في أحداث جسام سابقة، فقد امتلأت كل مناحي الأرض بالمحتجين الغاضبين وهم يصرخون في الشوارع والساحات (أوقفوا العدوان) معلنين تضامنهم مع شعب فلسطين وغزة بخاصة، ومؤيدين حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، بل إن ضمير العالم يؤسس تحالفاً قانونياً دولياً لمقاضاة مجرمي إسرائيل الكبار أمام المحاكم الدولية.
والحقيقة الرابعة التي كشف عنها مجمل الموقف الدولي الرسمي ولاسيما الغربي الأوروبي، هي أن نفوذ الصهيونية العالمية الضخم يمتد إلى حد أن البعض باتوا يرون الحق واضحاً فلا يجرؤون على الوقوف معه، ويرون الجرائم مريعة فظيعة فلا يجرؤون على استنكارها، وهذا ما كشف عن وجود شرخ كبير بين شعوب الأرض وبين بعض قادتها، وقد كان مثيراً أن تمتلئ شوارع واشنطن ذاتها بالمحتجين على طغيان إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه قيادتها تطلب مزيداً من الإبادة لشعب فلسطين.
وسنبقى نقدر لشعوب العالم تاريخياً تضامنها مع الحق العربي، واستنكارها للجريمة وتحديها للتطرف العنصري الذي يعبر عنه من يكرهون العرب والمسلمين وهم ما يزالون يستلهمون الحروب الصليبية، من أمثال بوش وفريقه الذي كان كارثة كبرى على البشرية، وهؤلاء يستهينون بشعوبهم، ويزجون بها في حروب قذرة، ولا يحققون من أهدافهم سوى القتل والتدمير والزهو بالنصر على الضعفاء.
والحقيقة الخامسة أن شعار الحرب على الإرهاب صار مجرد ستار لقمع حقوق الشعوب، وقد بدت شعوب العالم غير معنية بتوصيف إسرائيل للإرهاب، فتزييفها للحقائق مفضوح، فمن ذا سيقتنع بأن عدوانها على غزة كان مكافحة للإرهاب عبر قتلها الأطفال والنساء والشيوخ واستخدامها أسلحة محرمة دولياً، فضلاً عن هدمها البيوت والمساجد والمدارس بما فيها مدارس الأمم المتحدة؟ ولقد فشلت إسرائيل في تصوير القضية أمام الرأي العام الدولي على أنها قضية تهريب أسلحة للإرهابيين، فقد رأى العالم جرائمها واستعادت قضية فلسطين وهجها أمام شعوب الأرض التي لم تعد بحاجة إلى إقناع بأن قادة إسرائيل هم الإرهابيون الكبار الذين يجب أن يحاكموا.
ولقد صنعت إسرائيل عبر جرائمها في غزة أجيالاً من المستضعفين من الأيتام والثكالى والأرامل والمشردين الذين سيدفعهم ما ذاقوا من الظلم والفواجع إلى الثأر والانتقام مستقبلاً غير معنيين بما سيطلقه عليهم أعداؤهم من ألقاب.
وأما الحقيقة السادسة التي بدأ كثير من المثقفين الإسرائيليين بتأملها بأناة فهي أن (القوة لا تصنع نصراً) ومن يقرأ الصحافة الإسرائيلية يجد فيها كل يوم وفرة من المقالات التحليلية منذ انتهاء الحرب تسأل قادة إسرائيل (عن أي نصر تتحدثون؟ إنكم لم تجلبوا لإسرائيل سوى كراهية شعوب الأرض لكم) وبوسع القارئ العربي أن يتأمل مقالات من مثل ما كتب جدعون ليفي تحت عنوان
"فشل وثكل"، يقول: "لم نفد شيئاً من هذه الحرب، سوى مئات القبور، وفيها الصغار، وآلاف المعوقين، والدمار الكثير، وضعضعة صورة إسرائيل".
ويقول ميرون بنبنستي "يستطيع الإسرائيليون الافتخار بانتصارهم وهم عميٌ عن إثارة الإنسانية، إنهم يخرجون أنفسهم من جماعة الشعوب الحضارية التي يتبجحون بالانتماء إليها"،
وفي "يديعوت أحرونوت" يكتب افيعاد كلاينبرغ تحت عنوان "ألف سنة حرب" يقول: "الآن التقطوا نفساً تاريخياً طويلًا واسألوا أنفسكم: هل أنتم مستعدون لنحو ألف سنة إرهاب؟ إذا كان نعم، فيمكن المواصلة بالطريق الذي نسير عليه الآن؟ أتستمتعون بالحرب في غزة؟ سيكون لنا المزيد والكثير منها، التجربة تدل على أن اليأس لا ينبت المساومة بل العناد والتزمت الديني".
والحقيقة السابعة هي أن أكبر قوة تعتمد عليها إسرائيل ليست السلاح المتطور والمحرم دولياً، ولا قوى الإبادة التي تمتلكها، وإنما هي الانقسام والتمزق العربي الذي يترك الأمة ضعيفة مستباحة، ونحمد الله أن الأمة بدأت خطوة على الطريق الصحيح في قمة الكويت، ولكننا نطمح أن يتم حوار عربي داخلي يوحد رؤية الأمة للأحداث الكبرى، ويؤسس لمستقبلها الذي تهدده إسرائيل بإصرارها على استخدام القوة واستمرار الاحتلال والعدوان ورفض كل الأسس والمرجعيات التي نهضت عليها المبادرة العربية للسلام، ولعلنا نستبشر خيراً عبر إعلان كل الدول العربية التزامها بدعم حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في الدفاع عن نفسه وتقرير مصيره.
أخيراً نأمل من الإدارة الأميركية الجديدة أن تفي بوعدها بإعادة النظر في موقف الولايات المتحدة من العالمين العربي والإسلامي، وأن ينتهي عصر الحروب ليبدأ عصر الحوار والتفاهم والتعاون بين الشعوب، فقد جربت الولايات المتحدة في عهد بوش سياسة القوة والحروب الاستباقية فلم تحقق سوى القتل والتدمير، وحولت العالم إلى بؤر صراعات وحروب دامية، وفوق ذلك أنهت الإدارة الأميركية عهدها بتدمير اقتصاد العالم كله، ولئن كنا نشارك شعب الولايات المتحدة تفاؤله بشعار التغيير الذي أطلقه الرئيس أوباما، فإن تفاؤلنا حذر، لأننا ندرك حجم الصعوبات التي تواجه الرئيس الجديد، ولاسيما أنه ليس وحده من يقرر سياسات الولايات المتحدة.
* نقلا عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية
د. رياض نعسان أغا - العربية . نت