ماذا بعد المحرقة ..؟

-

وقف إطلاق النار في غزة لا يعني نهاية الحرب ولا بداية السلام ..

فإسرائيل مصرة على المضي في حربها على المقاومة بوسائل جديدة في القمع و الحصار ..

فهي ترى أن سرّ قوة المقاومة في صمودها، وهذا الصمود في نظر صناع القرار في الدولة العبرية ناتج عن ما تملكه المقاومة من سلاح هُرب إليها عبر الحدود ..

 إذًا: لابد من ضرب الطوق حول الجميع برا وجو وبحرا ، وهذا ما تضمنته الاتفاقية الأمنية بين إسرائيل وأمريكا ، ونتج عنها وقف إطلاق النار من جانب واحد .

 ولكن المراقب المنصف لما سوف يحدث بعد هذه المحرقة ( الهولوكوست) التي ارتكبتها إسرائيل في القطاع يفهم أن لهذه الحرب دلالات وتبعات وآثار على الصعيد الداخلي و الإقليمي و العالمي .

 لقد خرجت المقاومة الباسلة في غزة بتجارب ميدانية كبيرة ، وبخبرة قتالية لا يستهان بها ، وكيف كانت ستكتسبها لولا هذه المحنة ؟ ، كما خرجت المقاومة بتأييد شعبي منقطع النظير ، من قبل جماهير العرب و المسلمين ، وهو تأييد لا يقدر بثمن ، مما سوف يغير منطق التعامل مع القضية الفلسطينية إن على المستوى الرسمي أو الشعبي .

 لقد أثبتت محنة غزة أن الأنظمة العربية الرسمية فشلت في إحتواء الأزمة ، واتخاذ القرارات اللازمة في اللحظة الحاسمة ،  فلم تستطع هذه الأنظمة حتى التلويح بالتهديد بقطع العلاقات مع إسرائيل أو سحب المبادرات العربية ، أو المطالبة بالنظر في عضوية هذا الكيان الإرهابي المتغطرس في الأمم المتحدة ، أو التهديد بالانسحاب من الأمم المتحدة إن لم تستجب لنداءاتها بوقف العدوان ، إن هذا لم يحدث على الإطلاق ...

وتصدر جبهة التصدي الانتفاضة العلمائية وعلى رأسها ( الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ) بقيادة العلامة المجاهد يوسف القرضاوي ـ أطال الله عمره ـ بالدور الرائد في تعبئة الأمة بثقافة النُصرة ، مما أعطى للصراع بعده الحقيقي وهو البعد العقدي الذي ظلت تنكره وتتجاهله أطراف كثيرة متخاذلة ومهزومة ، ولا تريد أن تعترف أن المعركة عقيدة في مواجهة عقيدة ، بل عقيدة في مواجهو حوار و مفاوضات ، ولجان ومؤتمرات ، وهو ما يستخف به العدو نفسه من طرف خفي !!.

 لقد شكلت محرقة غزة بصائر للناس حول النفاق الغربي ن وازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا العرب و المسلمين ، فقد أقام هذا الغرب الدنيا ولم يقعدها بما حدث في دارفور ، وتنادى عشاق الحرية وحقوق الإنسان من كل مكان ليرفعوا عقيرتهم للتنديد بجرائم النظام السوداني في الإقليم ، وبذلوا كل جهد لإدانة هذا النظام وتقديم رئيسه إلى المحكمة الجنائية الدولية ...ولكنهم غضوا الطرف ، وأداروا الظهر ، وثنوا أعطافهم دون جرائم الصهيونية المروعة ، وأعطوها من صمتهم ما يكفي الوقت لتحقيق أكبر قدر من الدمار و الوحشية و الهمجية !!.

 بعد محرقة غزة سوف يضرب الجميع ألف حساب للحركات الإسلامية في طول البلاد الإسلامية و عرضها ، والتي ظلت تتعامل معها الأنظمة المتخاذلة على أنها حركات تتخذ من الدين مطية للوصول إلى السلطة، و التربع على كرسي الحكم ، ونصب المشانق ، وقطع الأيدي و الرؤوس ...

وتقديم كل معارض للحكم قربانا لبسط سلطان الله في الأرض ..!!، لقد أثبتت هذه المحنة أن هذه العصبة المؤمنة تجعل من نفسها وقودا لمعركة الشرف و الكرامة ، ويصطف شبابها المؤمن على خطوط النار ، ليحمي الذمار ، ويصون الديار ، ويذود عن المقدسات و الأوطان.

 لأنهم فهموا لغة العدو ، ومنطقه في الصراع ، أما المشاريع الكذوب التي ظلت الأمة تلهث وراءها منذ سقوط الخلافة الإسلامية في الربع الأول من القرن الماضي فإنها سياسات لم تقد الأمة إلا إلى الذل و الهوان ، لأنها ببساطة أبعدت الإسلام عن المعركة ، ورفعت شعارات أخرى لا تمت لثقافة الأمة ، ولا لدينها بسبب أو نسب !.

 بعد المحرقة سوف يواجه العرب و المسلمون رئيسا لأمريكا يدخل اليوم إلى البيت الأبيض ، بعد أن خرج منه أسوأ حاكم في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ، لما اتسمت به سياسته من طيش ونزق وسادية مفرطة ..تعشق الدمار و الدماء ..و السؤال المطروح ..

هل التغيير في السياسة الأمريكية قادم ؟

 أم أن التغيير لن يكون إلا في لون بشرة ساكن البيت الأبيض ، ويبقى أوباما على خطى بوش الذي خرج من الحكم بخفي منتظر .!!. بعد المحرقة ، هل سيكون للدور الإيراني و التركي تأثير في صياغة المشهد الإقليمي الجديد الذي يقلب موازين القوى في المنطقة ، فيقدم دولا ، ويؤخر أخرى ؟!. قد يعيد التاريخ نفسه في بعض الأحيان...فجميع الانتكاسات التي حدثت في تاريخ الأمة سببها في الأغلب حكام عرب صنعوا الهزيمة بجارة ، إما عن ارتزاق ، وإما عن جبن وخور ... ثم يأتي غير العرب فيصنعون المجد ، ويحققون النصر ، ويقدمونه على طبق من ذهب لأولئك الحكام المترعة رؤوسهم حتى الثمالة، لطول ما شربوا من خمر الفخار بأرومة وعروبة عبس وذبيان ..!!.

 بعد المحرقة هل تستمر أنظمة عربية تلهث وراء سراب السلام ، وتظل تؤمن أن فتح باب الحوار مع إسرائيل يجدي ؟

أم أن الدولة العبرية الموغلة في التوحش و الهمجية أثبتت أنها تصنع السلام كما تريده ، وفي الوقت الذي تحدده ، ومع الطرف الذي تبغيه؟!. و الأنظمة المتخلفة عن الركب لابد أن تفهم ـ من اليوم ـ

 أن الشعوب العربية لم تعد تحتمل أن ترى فنزويلا تطرد السفير الإسرائيلي ، وبوليفيا تقطع علاقاتها بالكيان الصهيوني ، وتركيا تعلق اتصالاتها مع إسرائيل ، ومهاتير محمد يدعو إلى مقاطعة البضائع الأمريكية ، فيما يسود صمت المقابر في الجبهة العربية !.

 لقد هدمت إسرائيل كل جسور الأوهام التي ظلت تبنيها منذ ثلاثين سنة مع العرب ، وتروج لهذه الأوهام عبر عرّابيها وهم كُثر ! ،

 تداولو على مسرح السياسة العربية من دول الطوق ومن خارجه ..بل ومن داخل فلسطين حيث السلطة المحرومة من أي أفق سياسي يمكن أن تستقطب من خلاله الشعب الفلسطيني المحروب في الضفة و القطاع على حد سواء .

 وبعد هذا وذاك أقول :إن الهدوء في غزة لن ين يكون مدعاة للسكون ، و الغفلة ، و الرضا بالواقع ، و البكاء على الأطلال ..فالمعركة انتهت في القطاع عسكريا ،ولكنها تستمر سياسيا وإعلاميا وقانونيا ... و الرجوع إلى ما قبل المعركة لن يغير من الأمر شيئا ، بل هي فرصة إسرائيل لالتقاط أنفاسها وترتيب أوضاعها ، ثم العودة متى أرادت إلى جنونها وإجرامها ونقض عهودها ، وهي عادة بني إسرائيل على مدار التاريخ .


بقلم الدكتور : نجيب بن خيرة- الشهاب . نت

1
5121
تعليقات (0)