غزة والجماهير وقضايا على الطريق

-

(1) دعاءٌ في أثناء عَمَلٍ ذكرتُ في موضعٍ آخر(1 )

 قيمة الدعاء كسلاح ينتصر به المسلم في معاركه ضد أعداء المسلمين، وضد ما يحل به من بلاء، وما يقع عليه من كربات، فهذه وتلك يدفعها الدعاء؛ إذْ هو في حرب دائمة مع البلاء الذي يقع على المسلم، ولا يزال الدعاء في حربه مع البلاء حتى يصرعه، ويدفعه عن المسلم، هكذا شأن الدعاء والبلاء بشتى أنواعه.

 لكنني أعود هنا فأؤكد على جانب آخر من جوانب «فقه الدعاء»، وهو أنه ليس تكأة للكسالى، كما يتصوره بعضهم، يتّكِئ على الدعاء فيجلس يرفع يديه صباح مساء، لا يفعل في دنياه سوى الدعاء؛ لأن الأسباب على نوعين:

 أحدهما: أسباب سماوية أو شرعية أو دينية، ومنها الإيمان والعبادات والدعاء.

 والثاني: أسباب دنيوية، ومنها السعي على المعاش والإعداد لكل أمرٍ بما يناسبه مِن عُدَّةٍ.

 والمسلم مطالبٌ بالأخذ بهذين النوعين من الأسباب جميعًا، لا يفرط في هذا ولا ذاك، لكنه في أخذه بالأسباب عليه أن يقدم الأسباب الشرعية الدينية، على الأسباب الدنيوية، فهو إنما يستجلب النصر بإيمانه وثقته بربه، وإنما يأخذ بأسباب الدنيا وأمورها استجابة وإذعانًا لأوامر الشرع الذي حثَّه وطالبه بالأخذ بسائر الأسباب المباحة والمتاحة، فهو يأخذ بها إيمانًا وطاعة، لكنه لا يعتقد فيها فرجًا ولا نصرًا؛ لأنَّ الآثار قد تتخلف عن أسبابها، فقد تقع الأسباب دون آثارها، كما حصل في واقعة خليل الرحمن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عندما ألقى به قومه في النار، فتخلَّفَتْ آثار النار، وكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، استجابة وإذعانًا لأمر صاحب الأسباب ومسببها تبارك وتعالى حين أمرها الله -عز وجل- بذلك،

 كما قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ). [الأنبياء:69].

 فلا تلازم إذن بين السبب وبين الآثار الناتجة عن هذا السبب، فقد يقع السبب ويتخلَّف أثره، فلا يصاحبه، وقد يقع الأثر دون السبب، كما انتصر المسلمون في معارك كثيرة خاضوها ضد أعدائهم بغير أسباب ولا عُدَّة دنيوية، وإنما نصرهم الله عز وجل، وأمدهم بمددٍ من عنده، وأرسل لهم ملائكة تحارب معهم وتنصرهم على عدوِّهم، وقد ورد ذلك في العديد من الأحاديث المشهورة، ومنها الحديث الذي رواه البخاريُّ ومسلم عن أُمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها «أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلَاحَ، وَاغْتَسَلَ؛ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ فَوَ اللهِ مَا وَضَعْتُهُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ؟ قال: هَا هُنَا؛ وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. قالتْ: فَخَرَجَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم». وقد يمد الله -عز وجل- عباده بجنود أخرى تقف إلى جانبهم، ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ  ).

 [المدَّثر:31]. وهذه الوقائع وغيرها تؤكد للمسلم ضرورة أن يلجأ إلى الله -عز وجل- الذي سبب الأسباب الدنيوية وصيَّرها في خدمة المسلم، وأن عليه أن يلتفت إلى مسبب الأسباب، فيراقب نفسه معه، ويرصد حاله تجاه ربّه، كيف هي؟ ومدى قُرْبه وبُعْده عن طاعة ربّه عز وجل؟ لأن الله -عز وجل- هو المالك والمتصرف في هذه الأسباب جميعًا، فإذا ما أردنا أن تقع الأسباب والآثار كما نحب فعلينا أن نعود لصاحب الأسباب ومسببها، نرجوه ونتضرع إليه أن يوقع لنا الأسباب وآثارها حسبما يحبه الله ويرضاه لنا، وأن يجريها في صالحنا، وألاّ يفرّق بين السبب ونتيجته وأثره، وأن يوقعه لنا ولا يوقعه علينا، فنجمع بهذا التوجّه بين الدعاء والعمل.

 لكن في الوقت نفسه لا ننكر أن تقع النتائج والآثار بغير أسبابها، كرامة وشرفًا للمؤمنين، أو إجابة لدعاء مظلوم مكلوم، أو إجابة لدعاء أشعثَ أَغْبَرَ أخلص نفسه لله عز وجل، فأضحى لو أقسم على الله لأَبَرَّه الله -عز وجل- أو لغير ذلك من الوقائع والأحوال التي قد يوقع عز وجل النتائج والآثار في غير وجود أسبابها، فهذا فضلٌ من الله عز وجل، يؤتيه من يشاء من عباده، والله ذو فضلٍ عظيم، ولا حَجْر على رحمة الله، نسأل الله -عز وجل- أن يغمرنا برحمته الواسعة في الدنيا والآخرة.

 والمقصود هنا أن المسلم مطالبٌ ببذل وسعه وجهده في الأخذ بالأسباب، لكنه في الوقت نفسه مطالب بألاّ يركن للأسباب، وألاّ يغفل عن مسبب الأسباب ومُحَرِّكها والمتصرّف فيها، والذي لو شاء -سبحانه وتعالى- أن يفصل بين السبب والنتيجة لفعل، ولو شاء لأتى بالنتيجة بغير سببٍ، فالكون كونه، وهو سبحانه المتصرّف فيه، حسبما يشاء ويختار ويعلم، وهو العليم الحكيم الخبير، لا يَعْزُب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها تبارك وتعالى. فعلى المسلم أن يبذل وسعه في جهتين:

 الأولى: في رضا الله وطاعته والتعلق به سبحانه.

 والثانية: في الأخذ بالأسباب تذلّلاً وطاعة لله سبحانه، لا ركونًا إليها أو ثقة بها،

 فلا فرق عند المسلم بين أن يرفع يده داعيًا إلى الله عز وجل، وبين أن يسعى على معاشه، أو يتجهز لغزو، أو يقيم مصنعًا، أو يعمل عملاً ينفع الإسلام والمسلمين، فهذه أو تلك من الأعمال تقوم على إخلاص العبودية لله عز وجل، والمسلم أينما دار وسار فهو في عبادة، لا يفرّق بين صلاةٍ وصيام وذبح وسعي على معاش وغزوٍ وجهاد من حيثُ القصد في ذلك كله لله، والإخلاص له سبحانه وتعالى، والسير على منهاجه الذي شرعه لعباده في هذه الأعمال وغيرها.

 وبهذا المنهج الشمولي نعلم أن الدعاء وحده غير كافٍ في بناء المنظومة الإيمانية، كما أن العمل والأخذ بالأسباب وحده غير كافٍ في البناء، وإنما لابد من الجمع بين الإيمان والطاعة والعمل والسعي والإعداد والدعاء، وغير ذلك من أركان المنظومة الإيمانية الكبرى، حتى يكتمل البناء الإيماني للمسلم، وأي نقص في هذه الأعمال يُعَدُّ نقصًا في الهيكل الإيماني للمسلم، القائم على العديد من الأسس، فهو كالبيت الكبير، يجتهد الإنسان في بنائه، ولا يمكنه بناء السقف على غير أعمدة، كما أن بناء الأعمدة وحدها غير كافٍ في بناء البيت، فلابد من الأعمدة والسقف وسائر ما يلزم البيت ليكتمل البناء، ويأخذ حُلَّتَه، لكن في الوقت نفسه لا أحد يستطيع أن يُقَلِّل من قيمة إحدى الوحدات المطلوبة في اكتمال البناء.

 فالدعاء سلاحٌ نافذٌ وفعَّال في حياة المسلم كلها، سواء في حياته العادية، أو في انتصاراته وغزواته وعداء الآخرين له، غير أن الدعاء بمفرده غير كافٍ في بناء المنظومة الإيمانية الشاملة للمسلم، بحيث يكون المسلم قد أدّى ما عليه؛ فهناك المزيد والمزيد من أركان الإيمان وأسس الإسلام التي لابد منها، كما أن هناك المزيد والمزيد مما لابد، وأن يُضاف بجوار الدعاء، كالأخذ بالأسباب في كل المجالات.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بأسباب النصر، ويُعِدّ العُدَّة الإيمانية والدنيوية على السواء، فهو صلى الله عليه وسلم يجهز الجيوش، ويضع لها خطتها في حربها، ويأمرها بما يجب عليها أثناء الحرب، وفي الوقت نفسه يتضرع إلى الله -عز وجل- بأن يمدّه بالعون والمدد، وينصره على أعدائه، فهو دعاءٌ وعملٌ لا يفترق أحدهما عن الآخر، ولا تجد أحدهما إلاّ مع صاحبه.

 وحاصل ذلك: ضرورة الأخذ بسائر الأسباب الدينية، وما يُباح من الأسباب الدنيوية، لنصل إلى البناء الإيماني الشامل للمسلم، فمن نقص بعد ذلك شيئًا فلن يصل إلى بناءٍ شامل، وسيظل في بنائه نقصًا ظاهرًا للعيان، حتى يستكمله ببناء الجزء الناقص في منظومته الإيمانية الشاملة.

 فالدعاء لغزة على هذه المقدمة يعني أن نعمل عملاً آخر بجوار الدعاء، ليكتمل بناء النصرة والمساعدة الحقيقية لأهل غزة، وأما الاقتصار على الدعاء المجرد فهو كالذي أراد أن يبني بيتًا فوضع قواعده ولم يضع سقفه أو العكس، فهو بيتٌ ناقص، لكنه -بلا شك- خطوة على طريق البناء لا غنى عنها.

 وبناء عليه نستطيع أن نفهم الطريق الصحيح في نصرة إخواننا المسلمين، سواء في غزة أو في أي مكان يحتاج فيه مسلمٌ إلى النصرة والمساندة والوقوف بجانبه؛ فالطريق إلى تحقيق النصرة يحتاج لبناء متكامل، إحدى خطواته الدعاء واليقين والثقة بالله عز وجل، كما أن الأخذ بأسباب النصرة والمساندة وتحقيق أصول الولاء الديني يُعدّ خطوة أخرى في طريق تحقيق النصرة والمساندة للمسلمين في غزة وغيرها؛ فهو طريق طويل يحتاج لكثير من الخطوات للوصول إلى نهايته، وما لم تتحقق الخطوات جميعها فلن يصل السائر، كما أنه ما لم يبدأ السائر بالخطوة الأولى فلن يصنع شيئًا، وسيظل في مكانه يشجب ويستنكر، ثم يشجب ويستنكر حتى يفوته القطار، ثم لا ينفعه الندم بَعْدُ! على أن من الخطوات ما لابد أن يأتي أولاً قبل غيره، فليست جميعها على درجة واحدة من الأهمية، وليست الخطوة الأولى كالأخيرة، ولا الأولى والأخيرة كالوسطى، وإنما لكل خطوة درجتها وقيمتها وملابساتها، وما ينبغي أن تُحاط به من أمور وأسس، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه فقه الخطوة الآنِيَّة، وهذا كله يحتاج إلى فقه وعِلْم، وتلك مسألة أخرى لم نقصد لبيانها هنا، وإنما قصدنا الإشارة إلى الارتباط الوثيق بين أجزاء البناء الإيماني الكامل والشامل للمسلم، وأن الدعاء على الرغم من أهميته القصوى في هذا البناء غير أنه بحاجة للمزيد والمزيد من الأجزاء الإيمانية حتى يكتمل البناء، وأن الجماهير التي قامت تهتف لغزة وتتوجه بالدعاء إلى الله -عز وجل- تطلب نصره وتوفيقه، عليها في الوقت نفسه أن تأتي بباقي أجزاء البناء الإيماني الواجب عليها؛ فالدعاء جزءٌ من النصرة، لكنه ليس كل ما يمكن تقديمه.

 (2) شمولية البناء الإيماني ودلالته

 غير أن ما يميز هذا البناء الإيماني أنه لا يقبل أن يدخل بين أجزائه ما ليس منها؛ فهو بناء خاص وشامل، يقوم على أجزاء واضحة ومعينة بدقة ونظام، لا يمكن لغيرها أن يحل محلها، فإذا ما حاول البعض أن يستبدل فرعًا بشيء شاذٍّ خارجٍ عن البناء فإنه يعود بالفساد على أصل بنائه؛ إذْ لا مجال لاستبدال بعض الأجزاء الإيمانية بغيرها، فلا يمكن والحالة هذه أن نسأل الله -عز وجل- النصر لغزة من جهة، ثم نستجدي أعداء أمتنا الحلول من جهة أخرى؛ لأن البناء الإيماني لا يقبل بهذا أبدًا، فهو يأمر بالدخول في الإسلام كافة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). [البقرة:208].

 فالإسلام لا يقبل بين أجزائه شركاء آخرين، بل لابد من صفاء البناء الإسلامي ووحدته وشموله حسب المنهج الرباني الأصيل.

 وبناء عليه لا يمكن أبدًا أن نحصل على النصرة لغزة أو لغيرها بالجمع بين الدعاء الإيماني من جهة، والاستجداء الوضعي من جهة أخرى؛ لأنه لا يمكن الجمع بين النقيضين، بين ما هو إيماني شرعي، وبين ما هو وضعي مخترع أحدثه الناس لخدمة مصالح أعداء الله -عز وجل- وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم. وبعبارة أخرى لا يمكن بحال أن نحصّل النصرة لغزة أو لغيرها من بلاد المسلمين ونحن نجمع بين الدعاء الإيماني من جهة، ونستجدي النصر والمعونة من جهة أخرى من الأمم التي ولغت في دماء المسلمين، وأعلنت بسبّ الله -عز وجل- وسبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، ونشرت صحفها صوراً تسبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسبّ المسلمين.

 فلا يمكن بحال من الأحوال أن نطلب النصرة من العدوِّ نفسه، ولو تَصَوَّر هذا العدوّ بصورة العادل وتغزّل في جميل صفاتنا؛ لأنه لو كان عادلاً أو محبًّا لنا ما سبّ نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا ولغ في دماء أبنائنا وأهلنا، ولا سمح لنفسه أو لإخوته وأولاد عمومته بهدم مساجدنا وديارنا واحتلال مقدساتنا.

 وهل جاء أعداء أمتنا أصلاً إلاّ من هذه البلاد التي يستجديها بعضُهم المعونة اليوم في وقف العدوان على غزة؟ فهل جاء الذين يهدمون غزة إلاّ من هذه البلاد التي يستنجد بها البعض اليوم، ويطلب منها المعونة؟ فكيف يطلب البعض المعونة من العدو نفسه؟! ونحن لا ننكر أبدًا أن يكون في غير المسلمين من تحمله نفسه ونخوته على بعض الأخلاق الفاضلة، كما رأينا في التاريخ كرمًا من حاتم الطائي في جزيرة العرب قبل الإسلام، ورأينا موقف ابنَ الدَّغِنَةِ، وموقفه الجميل عندما أجار أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- وأعاده إلى مكة ثانية، وتكلم في شأنه -رضي الله عنه- مع قريش، حتى قبلت قريش بجوار ابنِ الدَّغِنَةِ لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وظل أبو بكر -رضي الله عنه- في جوار هذا الرجل الكافر بعض الوقت، وقد نبَّه القرآن الكريم على هذه المسألة بقوله تبارك وتعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ). [المائدة:82]

، فلا نُنكر أن يوجد الآن من هم أقرب مودة للمؤمنين، ومن يناصرهم في قضاياهم، وعلى الرغم من اعترافنا بهذا، لكننا في الوقت نفسه نؤكد على أن هؤلاء المتعاطفين والمتضامنين مع قضايا الشعوب العربية والإسلامية لا يملكون الآن صوتاً مسموعًا في دوائر القرار الغربية، فمهما قام هؤلاء المتضامنون بمظاهرات واستنكارات فستظل أفعالهم هذه مجرد مواقف فردية أو لحظية لا تغير شيئًا من الواقع الغربي بالدرجة التي تدفعه إلى الوقوف مع قضايا المسلمين بعدلٍ وإنصافٍ. وأعجب من هذا كله أن يُعَلِّق البعض آمالًا على حكومات لا تزال أيديها ملوثة باستنزاف أرواح المسلمين وثرواتهم، فنصبح ونرى صاحب العدوان بالأمس ينصح ويعظ ويتألم لأجل أطفال المسلمين اليوم، وهو هو الملطخ بقتل آباء هؤلاء الأطفال أو أجدادهم، في مذابح لا تقل وحشية عما يجري الآن، ثم الأعجب والأعجب أن يصدقه البعض، ويعلّق عليه بعضَ آمالٍ هزيلةٍ، لا تسمن ولا تغني من جوع.

 والإسلام يرفض أن يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ».

 كما يرفض الإسلام بشموله وتكامله أن يُؤخذ ببعضه ويُتجاوز عن بعضه، فيُستبدل به شيءٌ آخر من قوانين الأرض ومناهجها ومفاهيمها، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

 [البقرة:85]

، فالذين يريدون نصرة غزة وغيرها من قضايا المسلمين عليهم أن يأخذوا بالإسلام كله، وأن يسألوه وحده عن الحل الملائم للقضايا التي تواجههم ومنها نصرة غزة.

والمقصود الإشارة إلى رفض الإسلام أن يدخل بين أجزاء أبنائه ما ليس منها، فمن يقوم بالدعاء ويتجه إلى الله -عز وجل- يجب عليه أن يكمل بنيانه الإيماني ويأخذ بأسباب النصرة ويجرد قصده وحياته لله -عز وجل- لا لسواه، ويثق في نصر الله عز وجل، ويسلك ما أمره به الإسلام، ولا يتخذ بطانة من غير المسلمين، ويأخذ نفسه وغيره بمبادئ الولاء والمحبة لأهل الإيمان والبراءة من أعدائهم؛ فلا يوالي أعداء الله -عز وجل- وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة وقد بدت البغضاء من أفواههم وصُحُفهم وأفعالهم وما تخفي صدورهم أكبر

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). [آل عمران:118]،

 بل ما نزلت الآيات إلاّ لتستبين سبيل المجرمين ونحذر منها، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ). [الأنعام:55]،

 (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ). [الأعراف:40].

 (3) فانصروا الله ينصركم

 وبناء على هذا التكامل الإسلامي والشمول المنهجي الذي لا يقبل في بنائه شاذًّا أو دخيلًا؛ فإننا نهيب بالجماهير المسلمة التي تحب الله -عز وجل- وتحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتتحرَّق شوقًا إلى انتصار الإسلام.

 نهيب بهذه الجماهير أن تنصر الله -عز وجل- في تصرُّفاتها وأفعالها إنْ هي أرادت النصر لإخوانها، وكما قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). [محمد:7].

 فعلى جماهير المسلمين الأخذ بأسباب النصرة الشرعية التي أباحتها لهم الشريعة الإسلامية؛ لأن الله -عز وجل- قد علَّق النصر على الإيمان والعبادات (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ). [الحج:41]،

 والله -عز وجل- طيبٌ لا يقبل إلا طَيِّبًا، وعليه: فلا تجوز النصرة للمسلمين بإقامة الحفلات الغنائية، أو بغيرها من أشكال وألوان المحرمات والذنوب؛ لأنَّ كل ما فيه معصية لله -عز وجل- لا يمكن أن يكون سببًا للنصرة به، ولهذا فرَّق العلماء بين سفر الطاعة وسفر المعصية، فأجازوا قصر الصلاة في سفر الطاعة فقط، بخلاف سفر المعصية؛ لأن الرخص الشرعية منوطة بالطاعات، ويُتَوَصَّل إليها بالطاعة لا المعصية.

 ونلمس هذا المعنى أيضًا في قول دار الإفتاء المصرية في إحدى فتاواها القديمة عندما قالت:

«والتعامل بالربا أخذًا وعطاء من كبائر المحرمات في الإسلام، فلا يحل أخذ فائدة من البنك على أموال جماعة الحج المودعة لديه بحجة صرفها في وجوه الخير؛ لأن الغاية لا تُبرر الوسيلة المحرمة، والله طيب لا يقبل إلاّ طيبًا كما ورد في الحديث الشريف،

والله سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). [البقرة:267].

 والله سبحانه وتعالى أعلم»أهـ(2 ).

 والمقصود من هذا كله الإشارة إلى أنَّ نُبْل الغاية لا يُبرر الوسيلة في ديننا، فنهيب بالجماهير التي تنصر غزة وتتألم لها أن تنصرها بالطاعة والمباح من الأمور، ولا تخذلها بالمعصية والحرام؛ فالنصر تجلبه الطاعة، ومن رغب إلى الله -عز وجل- يرجوه النصر فليقُم بما يحبه الله -عز وجل- ويرضاه، أما أن يرفع أحدهم يمينه للدعاء ثم يمد شماله للمعصية فهذا من التناقض والخذلان للأمة في وقت هي أحوج ما تكون للصدق مع ربها تبارك وتعالى. وحسبنا الله ونعم الوكيل.


المصدر: الاسلام اليوم  - صلاح بن فتحي هَلَل

([1] ) في مقال لي منشور بموقع «الإسلام اليوم» بعنوان: «غزة جثة نائمة ودعاء يحتاج ليقين»:

http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-106253.htm 


([2] ) «الفتاوى الإسلامية» (8/2902-2903) المفتي: فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله، س105 م38، 12محرم1402هـ ـ 9نوفمبر 1981م.

1
5112
تعليقات (0)