-
جُبل الله الإنسان على حب هذه الدنيا، وحب ما فيها من شهوات ولذات، فتراه يركض خلفها، ويلهث خلف سرابها، ويفتش عن أسرار السعادة فيها، حتى تشغله شواغلها عن حقيقتها التي بينها الله تعالى في كتابه فقال: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [الحديد:20].
غير أن من عباد الله من طلّق هذه الدنيا ثلاثًا، فانتبه لخدعها، وتيقّظ لمكرها، وعشق الآخرة، وعمل لها، فلم تعد الدنيا عنده تزن شيئًا إلاّ ذكر الله وما والاه، علم أن هذه الدنيا قصيرة وإن طالت، وفانية مهما بقيت، وأن نهايتها الموت ولا بد أننا إليه صائرون، فاختار لنفسه خيارًا صعب المرام إلاّ على النفوس الأبية، وركب مطية الأخطار، وحمل نفسه على كفيه، ليعقد بيعًا كان هو فيه البائع، ونفسه المبيعة، والله هو المشتري، إنه المجاهد في سبيل الله، الذي يرخص نفسه من أجل الله، ويهون عليه دمه من أجل الدين، ويعرض بدنه ليمزقه، ودمه لينثره؛ ليحمي به ديار الإسلام ومقدساته وأهله.
قلّت خياراته ولكنها عظمت، إما النصر وإما الشهادة، لا ثالث لهما في قاموسه أبدًا.
لم تثنه بيارق الدنيا المرفرفة حوله، ولم تخذله نداءات الزوجة والأولاد أن يذود عن حمى بلاد الإسلام، بل لبى بكل قطعة من بدنه نداء الجهاد، ونداء الدفاع عن حرمات المسلمين، ضجت في سمعه آهات المستضعفين، ومزّقت فؤاده دمعات الأطفال والمساكين، وتملكت قلبه رايات النصر على اليهود وأعداء الدين الغاصبين، فرأى يقين ربه بالنصر والتمكين، طهر قلبه من كره إخوانه المسلمين، وملأ قلبه همًّا بإخوانه المنكوبين، وماذا عساه أن يقدِّم.. ماله، مستقبله، راحته، رفاهيته، دمه، روحه.. يا للكرم والسخاء..!! ويا للإيمان والتقوى..!!
أي نفس هذه التي تلفُّ نفسها بالموت، أي نفس هذه التي ترى الأقصى مرسومًا في فؤداها، وترى مروج الجنة بين عينيها، أي نفس هذه التي لا تجد في صدرها صدى للدنيا أو بريقًا لها، يا لروعة الصفاء.. ويا لجمال الروح..!! الروح التي تنام على أمل بذلها لله صباحًا، وتستيقظ على أمل أن تفيض لباريها مساءً، وتغدو وتروح وكأنها تسير بين أنهار الجنة ومروجها:
يا نجمًا في أفقِ العليا تتمنى الأفلاكُ مكانَهْ
يا روحًا في الأمةِ تسري لتعيدَ لها كلَّ مكانِهْ
يا حلمًا داعبَ أجفانًا سيمتْ من خسفٍ ومهانَةْ
رفرفَ كالغيمةِ إذْ تهمي كجناحِ الرحمةِ هتّانه
وقلوبُ الناسِ بها ظمأٌ وقلالُك خيرًا ريانةْ 1
أحرقتنا مناظر الشهداء على أرض غزة الأبية، شيوخًا وشبابًا وأطفالاً، وذلك حينما استخدم العدو اليهودي كل أسلحة الدمار الفتاكة والمحرمة دوليًا في إبادة إخواننا، وحزن يلفنا حينما نفقد الأبطال من ساحات النزال، وأسى يعترينا حينما نواريهم التراب، لكننا إن عشنا هذا الحزن لفراقهم فإن هؤلاء الأفذاذ يعيشون فرحًا لفراق الدنيا؛ لأنهم فارقوها بعزة نادرة، وشجاعة وبسالة، فإنهم والله فرحون.. فرحون بكل قطرة من دمائهم، فرحون بكل لحظة بذلوها بين أصوات الرصاص ودوي القنابل، فرحون حينما قاتلوا هذا العدو الغاشم الذي قتاله عبادة، بل هي ذروة سنام الإسلام.
فما حال هؤلاء الشهداء بعد اسشهادهم، قال الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171)الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ). [آل عمران:169-171]
يا له من طعم للموت لا يناله إلاّ الأبطال!! إنه حياة، ورزق، وفرحة، وفضل، ونعمة، وإحسان وتقوى، واستبشار، بلا خوف أو حزن.
أوَ يلام طالب الشهادة في قتال أهل الكفر بعد هذا كله..أو يُلام إذا نادى فقال:
سأحملُ روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردّى
فإما حياةٌ تسرُّ الصديقَ وإما مماتٌ يغيظُ العدا
وكيف يلام الشهيد إذا ألقى بنفسه في أحضان الشهادة لتفيض روحه طهرًا ونوراً، وهو يوم القيامة يصحب من..؟! وفي رفقة من..؟! الأنبياء والصديقين والصالحين ومن أطاع الله ورسوله: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).
ويوم القيامة حينما يقف الناس للحساب يشرف الله الشهداء بأن يكونوا أول من يقضى بينهم مع النبيين: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). [الزمر:69].
ولا هزيمة في عُرف الشهيد، ولا خسارة في ذهاب روحه من بين أمشاجه، فإن ِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) رواه البخاري.
إن الشهادة أمنية تمناها النبي صلى الله عليه وسلم، بل تمنى تكرارها لما يعلم من لذتها في قلبه، فإنه قال: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ). رواه البخاري.
وما هذه الأمنية الرفيعة إلاّ مما يجده الشهيد من خير الشهادة ورفيع منزلتها بعد استشهاده، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول:
(مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى). رواه البخاري.
بل إن لذة الشهادة عند الشهيد ونعيمها على جسده لا توازي لذائذ الدنيا التي يعشقها أربابها، تأمل قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقْبِضُهَا رَبُّهَا تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا غَيْرُ الشَّهِيدِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي عَمِيرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَأَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ). رواه النسائي.
وإنه حينما يعتصر قلبنا ألمًا لبشاعة مقتل الشهيد، التي تبدو حينما تناله قذائف الدبابات، أو صواريخ الطائرات، أو نيران الرشاشات، ما هي والله على بدنه إلاّ كمسّ القرصة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ) رواه الترمذي
وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ويُوقّى الشهيد من فتنة شديدة الكرب، عظيمة البلاء، ألا وهي فتنة القبر أعاذنا الله منها، ولكن ما السبب أن يُعفى منها ويستريح من بلائها؟!
لنتفكر في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين لرجل سأله فقال: مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ، قَالَ كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً). رواه النسائي.
ويبق دم الشهيد في قبره كما هو لا يجف شهادة له في الدنيا قبل الآخرة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (ذُكِرَ الشَّهِيدُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَا تَجِفُّ الْأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَظَلَّتَا أَوْ أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنَ الْأَرْضِ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا). رواه أحمد.
ويكرم الشهيد غاية الإكرام حينما يكون من أول من يدخل جنة النعيم، النعيم الدائم الذي لا يزول، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوَّلَ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَفَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ) رواه أحمد.
ولتسمع أيها المحزون على الشهداء ماذا أعد الله لهم من جوائز، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-
عنها: (يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتَّ خِصَالٍ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ). رواه أحمد.
فهنيئًا للأمة بشهدائها الأبطال في غزة، فقد رفعوا رأسها، وأثبتوا للأعداء أن قناة الإسلام لن تلين لهم، وأن المحتل لن يذوق طعم الراحة والاستقرار ما دام نفس مؤمن يشكو إلى الله ظلمه أو سجنه أو إبعاده عن أرضه. وهنيئًا لشهدائنا هذا البيع الرابح فإنه الفوز العظيم :
(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). [التوبة:111].
اللهم اقبل شهداء دينك ودعوتك وجهادك، وانصر إخوانهم على أعدائك، أعداء الدين، فإنك جواد كريم.
د. فيصل بن سعود الحليبي - الإسلام اليوم