موسى يبشر بالمنتظر

د. جمال الحسيني أبوفرحة *

قراءة في سفر التثنية

يقول سفر التثنية على لسان موسى عليه السلام في الأصحاح الثامن عشر الفقرات 15 :18 "يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون ...... أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به".

وعلى أساس هذا النص انتظر اليهود نبيهم الآتي انتظارهم لموسى آخر، وظنه بعضهم "يشوع" عليه السلام، وظنه آخرون "شموئيل" عليه السلام، وما زال معظمهم ينتظره إلى الآن.

ولا تنطبق هذه النبوءة لا على يشوع ولا على شموئيل وإنما تنطبق على النبي العربي محمد(ص).

وذلك أن يشوع وشموئيل عليهما السلام كانا من القوم أنفسهم وليسا من أخوتهم، ولم يؤديا عن الله تعالى إلى بني إسرائيل شيئا سوى ما أداه موسى عليه السلام؛ ومن ثمة فليست هناك حاجة إلى الوصاية بالإيمان بهما؛ لأنه من المتوقع والحال هكذا أن يؤمن بهما بنو إسرائيل كما آمنوا ببقية أنبيائهم دون وصاية؛ وإنما تكون الوصاية حيث يخاف التكذيب لكون النبي المنتظر من وسط أخوتهم وليس منهم؛ ولأنه يأتي بشرع ناسخ لشرعهم.

بل يصرح سفر التثنية نفسه في الأصحاح الرابع والثلاثين بأن يشوع لم يكن قط مثل موسى، يقول سفر التثنية: "ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو إسرائيل، وعملوا كما أوصى الرب موسى، ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى".

وحاول بطرس واسطفانس في سفر أعمال الرسل من العهد الجديد أن يريا في المسيح عليه السلام هذا النبي مثيل موسى عليه السلام، فلما أعجزتهم الحقائق ولم تتحقق هذه المثلية المزعومة بينهما عليهما السلام؛ فقد كان موسى عليه السلام -على خلاف عيسى عليه السلام- إلى جانب عمله النبوي زعيما سياسيا، وقائدا وحربيا، وصاحب تشريع جديد؛ زعم بطرس أنه سيكون مثيله في مجيئه الثاني آخر الزمان؛ مغفلا حاجة البشرية إلى مثيل موسى ليس وقد قارب الزمان على الانتهاء؛ فلا فائدة كبرى ترجى منه حينذاك، وإنما تكون حاجتها إليه في وقت تكون فيه شريعة موسى قد أدت دورها في قيادة الحياة، وانمحت معالمها بفعل عوادي الزمان، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن المسيح عليه السلام كان من بني إسرائيل ولم يكن من أخوتهم كما تنص البشارة.

ولا شك أن الأسباط الاثنى عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده، فلو كان المقصود كون النبي المبشَر به منهم لقال (منهم) لا (من بين أخوتهم).

ثم إن من قال مرة إن المسيح هو خالق غير مخلوق ثم زعم أن المسيح مثل موسى فقد تناقض.

والعهد الجديد الذي يدعي هذه المثلية هو هو الذي يعود فينفيها مرة أخرى عندما يقول في سفر العبرانيين في الأصحاح الثالث: "إن المجد الذي كان –المسيح- أهلا له يفوق مجد موسى بمقدار ما لباني البيت من فضل على البيت".

أضف إلى ذلك أن التوراة السامرية تمنع أن يقوم نبي في بني إسرائيل كموسى؛ ففي سفر التثنية في الأصحاح الرابع والثلاثين: "ولا يقوم أيضا نبي في إسرائيل كموسى".

أما بالنسبة للنبي العربي محمد ﷺ فلم يقم نبي من أخوة بني إسرائيل وكان مثل موسى سواه ﷺ ومظاهر المثلية عديدة منها: أن كلا منهما كان صاحب تشريع جديد، وقائدا عسكريا، وزعيما سياسيا، وولد من أبوين، وتزوج النساء، وأنجب، ومات، وقبر ..........الخ، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: "إنا أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا" المزمل:15.

أما وصفه ﷺ بأنه من أخوة بني إسرائيل، فبحسب اصطلاح العهد القديم أخوة بني إسرائيل هم أولاد عمومتهم، أو أقرباؤهم الذين يشاركونهم نسب الآباء؛ فلغة العهد القديم تجعل ذرية الأحفاد إخوة لذرية الأحفاد الذين يشتركون معهم في الجد الأكبر؛ ففي سفر التثنية: "أنتم مارون بتخم أخوتكم بني عيسو........." ؛ وفي سفر العدد: "وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت المشقة التي أصابتنا........"؛ فالمقصود بـ "إسرائيل هنا كل الشعب الإسرائيلي الذي كان يقوده موسى، وهؤلاء كانوا أحفاد أحفاد إسرائيل، وكذلك كان ملك أدوم وشعبه أحفاد أحفاد عيسو أخي إسرائيل.

ويلاحظ هنا أن الأدوميين الموصوفين بأنهم أخوة لبني إسرائيل هم أيضا كالعرب من ذرية إسماعيل عليه السلام؛ فقد تزوج عيسو محلة بنت إسماعيل عليه السلام كما ورد في سفر التكوين في الأصحاح الثامن والعشرين.

وزعم النصارى أن عبارة: "من وسطك" في قوله: "يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك"؛ تجعلنا نفهم أن المبشَر به نبيا من بني إسرائيل؛ وقوله: "من إخوتك" أي من سبط آخر غير سبط لاوي الذي ينتمي إليه موسى عليه السلام.

وكلامهم غير مسلم به؛ وذلك أن موسى عليه السلام لما أعاد هذا الوعد في الفقرة الثامنة عشرة من نفس الأصحاح لم يذكر عبارة: "من وسطك"، وكذلك بطرس واستفانوس لما نقلوا هذه البشارة في سفر أعمال الرسل من العهد الجديد لم يذكراها أيضا، وكذلك الحال في التوراة السامرية: "من جملة إخوتك........من جملة إخوتهم"، وفي سفر تستمونيا من مخطوطات قمران: "سأقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك"؛ فرجح ذلك أن هذه العبارة: "من وسطك" بدل من قوله: "من إخوتك" ولا تضيف جديدا ومن ثمة أمكن إسقاطها؛ فمن كان من إخوتهم ينطبق عليه الوصف بأنه من وسطهم.

وعلى كل فليس هناك ما يمنع من أن يكون المقصود بالوسطية هنا: "الجهة المكانية" ويكون في ذلك إشارة إلى نبي الإسلام ﷺ الذي هاجر إلى المدينة وعاش وسط اليهود من أهل خيبر، وبني قينقاع، وبني النضير، وغيرهم، وبدأ في بناء الدولة الإسلامية في المدينة بينهم.

وليس أدل على وضوح البشارة بأن الآتي ليس من بني إسرائيل من تعمد تحريف هذه البشارة في بعض التراجم الحديثة كترجمة الكتاب المقدس كتاب الحياة عندما أسقطت هذه العبارة: "من وسطك من إخوتك" ووضعت بدلا منها: "من بني إسرائيل" صراحة.

وكذلك الترجمة الإنجليزية Today’s English Version: عندما أسقطت الإشارة إلى الأخوة نهائيا وجعلت البشارة: "من وسط شعبك ...... من وسط شعبهم".

“From among your own people……..From among their own people”

وهو ما يخالف كل ما وقع تحت أيدينا من ترجمات للكتاب المقدس عربية وعبرية وإنجليزية:

• ففي ترجمة جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى: "من وسطك من إخوتك ..... من وسط إخوتهم".

• وفي ترجمة دار المشرق ببيروت: "من وسطك من إخوتك .....من وسط إخوتهم".

• وهي نفس ترجمة النسخة العبرية.

• وقد سبق ذكر نص التوراة السامرية، وكذا نص سفر تستمونيا من مخطوطات قمران.

• وفي ترجمة الملك جيمسKing James Version

“From the midst of thee of thy brethren …From among their brethren”

• وفي الترجمة العالمية الجديدة New International Version

From among your own people……From among their brothers

فلما كل هذا الاختلاف في نص بمثل هذه الأهمية إن كان كتابهم المقدس مقدسا حقا لديهم لا يغيرونه ولا يشترون به ثمنا قليلا؟!!!

والله تعالى أسأل الهداية للناس أجمعين

* أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة- gamalabufarha@yahoo.com

1
4885
تعليقات (0)