د. جمال الحسيني أبوفرحة
لقد كانت هذه الآية الكريمة محلا لسوء فهم عميق لدى جماعات كبيرة من المسلمين عبر التاريخ وحتى يومنا هذا، في مشارق الأرض ومغاربها؛ وذلك أنهم أخذوا بظاهر هذه الآية، ولم ينظروا إلى ما سواها من نصوص قرآنية ونبوية؛ فما فهموا معنى الغيب! ولا عرفوا أنواعه وأقسامه؛ فظنوا أن الغيب كله لا يعلمه إلا الله.
والغيب هو كل ما غاب عن إدراك حواس الإنسان.
فيطلق ويراد به أحيانًا الله سبحانه وتعالى؛ كما فهم بعض المفسرين من قوله تعالى: "الذين يؤمنون بالغيب" البقرة: 3، ويراد به أحيانًا أخرى القضاء والقدر، وقال آخرون هو ما أخبر به الله ورسوله من غيوب؛ كما في قوله تعالى: "غلبت الروم" الروم: 2، وكالحديث عن عذاب القبر، وأشراط الساعة، والحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار...الخ.
والحق أن هذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
ومن تأملنا للواقع المشاهد، وللنصوص الإسلامية الواردة في هذا الشأن يتبين لنا ما يلي:
• إن من الغيب ما جعل الله له أسبابًا في تحصيله: كبعض غيب الماضي، فهذا قد تتناقله الأمم، وقد يحصله من طلب علمه بوسيلة أو بأخرى؛ وكذلك بعض غيب الحاضر، فهو غيب مكاني يمكن معرفته بطريقة أو بأخرى، كتسخير الجانّ مثلا، أو عن طريق وسائل الاتصالات الحديثة؛ وحتى بعض غيب المستقبل فيمكن معرفته بدلالة العادة، كمعرفتنا أن هذه النار محرقة قبل ملامستها.
• ومن الغيب ما يختص الله تعالى بعلمه كما يتضح من الآية محل حديثنا.
• ومنه ما يشاركه في علمه به بعض ملائكته، وبعض رسله؛ يقول تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول" الجن:26-27؛ أو بعض خلقه ممن ليسوا بأنبياء سواء كان ذلك عن طريق الكرامة؛ التي قال عنها النبي – صلى الله عليه وسلم-: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد ؛ والتي ثبتت في حق كثير من صحابة رسول الله– صلى الله عليه وسلم- وخاصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يروى أنه وهو في المدينة يخطب من على منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رأى سارية بن حصن وجيشه في آسيا الصغرى، وصاح مناديًا عليه محذرًا: "يا سارية، الجبل الجبل"، وسمعه سارية وجيشه، واستجاب لتحذيره؛ وهذا غيب مكاني علمه عمر بإعلام الله تعالى له؛ أو كان هذا الإعلام بالغيب عن طريق الرؤيا الصادقة التي قال عنها الرسول – صلى الله عليه وسلم- "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" رواه البخاري ؛ والتي ذكرها القرآن في مواطن كثيرة مثبتًا إياها مشيرًا إلى أن من الغيب ما يمكن معرفته عن طريقها لغير الأنبياء؛ بل ولغير الصالحين؛ مثال ذلك: ما رآه الملك في قصة يوسف عليه السلام في نومه، وما رآه رفيقا يوسف في السجن، وما رآه يوسف نفسه من قبل وقصه على أبيه؛ والرؤيا الصادقة ليس في وسع إنسان إنكارها، ومن لم يجربها بنفسه فلا بد وأن تتواتر لديه ممن خبره عنده كالمشاهدة.
ومن ثم فإنا نفهم أن المراد بقوله تعالى على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم- "ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي" الأنعام:50 ، وكذلك قوله تعالى: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله" النمل: 65 أن المراد من نفي العلم بالغيب هنا هو:
- إما الغيب الذي اختص الله تعالى بعلمه دون سائر خلقه.
- أو أن المقصود بيان أن أحدًا من الخلق لا يعلم الغيب من لدن نفسه، ولا يعلمه إلا بإعلام الله تعالى له؛ لقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول" الجن: 26-27، وكذلك قوله: "أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علىّ حكيم" الشورى:51، وقوله على لسان عيسى عليه السلام: "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" آل عمران:49.
والله أعلم
د. جمال الحسينى أبوفرحة - أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
gamalabufarha@yahoo.com
عنوان المراسلات:المملكة العربية السعودية - المدينة المنورة – جامعة طيبة – كلية المجتمع – ص.ب: (2898) ت: 0508628894