د. باسم خفاجي1
حول حريات التعبير
أعلنت الصحيفة السويدية التي نشرت رسماً مسيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقدس حرية الرأي، وذكرت في ردها الذي نشر مؤخراً أن "حرية التعبير عن الرأي تمثل دماء الحياة الديمقراطية". وأعتقد أن الصحيفة محقة في تقدير أهمية التعبير عن الرأي، ولكن هل حصولك على الحرية يعني ضرورة وحتمية استخدام كل ما تتيحه لك هذه الحرية من إمكانات؟ في الغرب هناك قوانين منظمة للحريات سواء في الملبس أو المأكل أو ما يقال وما لا يقال. ولا ينافي ذلك أن الغرب يؤمن بأن الحريات أساسية لحياة الإنسان، ولكنها يجب أن تنظم كي لا تستغل الحرية الشخصية في التعدي على حريات الآخرين. ومع ذلك يحاول البعض في الغرب ـ ومنهم هذه الصحيفة السويدية – خداع الآخرين من خلال تجاهل وجود أنظمة وقوانين منظمة لكل مجالات الحرية في الغرب، وحتى في مجال حرية التعبير عن الرأي، ولكنهم لا يريدون لنا استخدام هذا المنطق عندما يتطرق الحديث إلى حرية الإساءة إلى الإسلام ورموزه.
فلنفترض جدلاً أن كل إنسان في الغرب يملك حق إهانة الآخرين والإساءة إلى رموزهم .. هل يعني امتلاك هذا الحق أن يقوم الإنسان باستخدامه؟ هل يقوم الغربيون بإهانة بعضهم البعض لأنهم فقط يمتلكون حق الإهانة؟ إنهم لا يفعلون ذلك لأن امتلاك الحق لا يعني ضرورة استخدامه لإهانة الغير. لقد استقر الغرب اجتماعياً أيضاً أن الإصرار على استخدام أي حرية بشكل يثبت أنها ضارة بالغير، أو مدمرة للنسيج الاجتماعي يؤدي دائماً إلى تقييد تلك الحرية بأنظمة وقواعد تمنع من الإضرار بالغير أو بالمجتمع. فلم لا توضع قواعد تنظم حرية الرأي المتعلقة بإهانة الأنبياء كما وضعت قواعد من قبل تنظم حرية الرأي في العديد من القضايا الأخرى؟ إن البعض في الغرب لا يريدوننا أن ننتبه لذلك، ويريدون خداعنا حتى لا ندافع عن نبينا وإسلامنا وأمتنا.
إن أحد الخدع التي تمارس هنا هي خدعة "تحجيم الخيارات"، وهي خدعة إعلامية وفكرية تحدثت عنها سابقاً، وتمارس بحرفية عالية في مواجهة غضب الأمة الإسلامية من إهانة رموزها. يقال لنا إما أن نسمح بالإهانات ونتقبلها، وإما أن نحجم حرية الرأي ونقمعها، وهو ما لا يمكن أن يحدث في الغرب. وكأن هذه الخيارات هي الخيارات الممكنة فقط: أن يهان النبي صلى الله عليه وسلم من قبل كل من يريد إهانته، أو أن تقمع حرية الرأي في الغرب. هذه هي الخدعة.. والحقيقة أنه يوجد خيارات أخرى كثيرة. من هذه الخيارات أن يكون لديك حق التعبير عن الرأي بحرية كاملة، ولكن أن تلزم نفسك بميثاق شرف أخلاقي يؤكد احترام الآخر دون وجود قانون يلزم بذلك، فلماذا لا يقدم هذا الخيار ضمن المناقشة حول الإهانات المتكررة. ومن الخيارات أيضاً أن تضع النقابات الصحفية والجمعيات المدنية الإعلامية قواعد تنفيذية منظمة لحرية الرأي بحيث لا تتنافى مع الأخلاق العامة للمجتمع، ولا تسيء إلى أي من الأنبياء.
ومن الخيارات أيضاً أن تقوم الدول بسن بعض القوانين التي تقيد حريات الرأي في حدود ضيقة عندما تمثل هذه الحريات في الرأي خطراً على المجتمع أو على حقوق الغير. أليس الغرب هو من يفرض بحكم القضاء منع النشر في القضايا التي تمس سمعة بعض الشخصيات العامة حتى يتم تبين الحقيقة فيها، وفي هذا تحجيم لحريات الرأي؟ أليس الغرب هو من يمنع نشر الأخبار التي تمس بالأمن القومي للدول رغم أنها تندرج تحت حريات الرأي والتعبير؟ أليس الغرب هو من يجرم إنكار المحرقة النازية لليهود رغم إن هذا الإنكار لا يعدو أن يكون رأياً يجب أن يسمح لصاحبه بالتعبير عنه؟ أليس الغرب هو أيضاً من يحظر الدعوة إلى إنشاء حزب نازي أو شيوعي رغم أن بعض الغربيين يرون ذلك حقاً لهم؟ لماذا إذا تحجم الخيارات في النقاش العام حول الإساءة إلى رموز الإسلام، ويصر الغربيون أن وجود أي نوع من التقييد للصحف والرأي العام هو أمر لا يمكن السماح به. الواقع يقطع بخلاف ذلك في الغرب نفسه.
الخداع الآخر الذي يمارس في حق الأمة هو تجريم غضبتها، وتحجيمها، ومحاولة وصفها بالتنطع والتطرف والحماقة. وقد بدأ بعض الإسلاميين في المناداة بذلك علناً، وكأننا نخالف العرف الدولي عندما نغضب للإساءة إلى نبينا. لقد قامت بعض قيادات الجالية السويدية مؤخراً بالوساطة لمنع إقامة تظاهرة من المسلمين للتعبير عن غضبهم، وأعلنوا أنه لا ضرورة لذلك رغم أن الصحيفة والدولة رفضتا الاعتذار عما حدث. نحن نقمع أنفسنا بأيدينا إرضاء للغرب على حساب خير خلق الله، ونعتبر أن ذلك فعلاً حضارياً.
أقول لبعض إخواننا في السويد .. سامحكم الله .. أخطأتم عندما طلبتم من العالم الإسلامي ألا يتدخل لنصرة النبي في السويد، وكأن نبي الله في السويد هو غير نبي الله في باقي الأمة. أخطأتم عندما تنازلتم حتى عن حقكم في الغضب الجماهيري لمجرد أن استقبلكم رئيس وزراء السويد، رغم أنه أصر على عدم الاعتذار. أخطأتم كذلك عندما قبلتم ألا تعتذر الصحيفة صراحة عما فعلت. أنا لا أشكك في نوايا الأخوة الأفاضل من قيادات الجالية في السويد، ولكنني لا أوافقهم الرأي فيما ذهبوا إليه، وأعترض بشدة على رغبتهم في كبت الغضب المسلم هناك. يجب أن يسمح للغضب المسلم أن يعبر عن نفسه ضمن الأطر الشرعية البعيدة عن الغلو، ولكن كبت الغضب ليس في مصلحة أحد، وسيفرز ما هو أخطر من الغضب، ونحن لسنا بدعاً بين الأمم عندما نغضب لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
ألم يغضب المسيحيون في الكثير من أنحاء العالم بسبب فيلم "آلام المسيح"، وتظاهروا في أكثر من دولة من دول العالم الغربي، وطالبوا بمنع عرض الفيلم، وتحقق لهم ما أرادوا في الكثير من دول العالم المسيحي. لماذا لم يتهمهم أحد بالغلو والتطرف والتنطع حينها؟ إننا نغضب لكل إساءة أو إهانة لأي نبي من أنبياء الله تعالى، ونطالب في المحافل الدولية أن تسن القوانين التي تمنع الإساءة إلى كل الأنبياء، وعلى رأسهم نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الإعلام الغربي ومن ورائه الإعلام المسيس في العالم العربي لا يركز إلا على حالات الغضب المغالي، ويبرزها، وكأنها هي السمة الغالبة لغضب الأمة، ونصدق نحن أيضاً ذلك، ونبدأ في محاكمة غضبنا ومحاولة كبته أو كتمانه أو التخلص منه لإرضاء الغرب.
إنهم يخدعوننا عندما يطالبوننا ألا نستخدم سلاح المقاطعة الشعبية عندما يهان رمز من رموز الأمة، أو عندما ترفض دولة ما الاعتذار عما فعله سفيه ينتمي لها، ومع ذلك فإن الغرب هو أكبر كيان في العالم ممارسة للمقاطعات الاقتصادية سواء على المستوى الحكومي أو على المستوى الشعبي أيضاً. أتذكر عندما بدأت الحرب الأمريكية على العراق، وترددت فرنسا في المشاركة فيها أن حملة شعبية كبرى قامت في الولايات المتحدة الأمريكية لمقاطعة المنتجات الفرنسية بل إن أحد أعضاء الكونجرس السفهاء قد عقد مؤتمراً صحفياً يطالب بتغيير اسم البطاطس المقلية من "فرنش فرايز" French Fries، إلى "فريدم فرايز" أو Freedom Fries للتخلص من وصف البطاطس بأنها فرنسية، ونقلت معظم وكالات الأنباء الأمريكية الخبر في صدر صفحاتها ومقدمة أنبائها في ذلك اليوم.
فهل المقاطعة حلال للغرب، ولكنها همجية ومخالفة للأعراف الدولية عندما تقوم بها شعوب الأمة الإسلامية غضباً للاستهانة برموزها. ثم إنني دائماً أتعجب: إن كانت المقاطعة غير مجدية أو غير مؤثرة، لماذا إذن تبذل الدول كل جهودها لكي ترفع المقاطعة عنها؟ ألا يدل ذلك أن المقاطعة مؤثرة. إنهم يخدعوننا عندما يهونون من شأن المقاطعة الاقتصادية أيضاً. لماذا تبذل الشركات كل الجهود الممكنة قانونياً وإعلامياً واجتماعياً لرفع المقاطعة إن كانت هذه المقاطعة لا تؤثر سلباً على تلك الشركات؟
إن المقاطعة هي أحد وسائل الضغط الشعبي المباح والمشروع والواجب في كثير من الأحيان، فلا تحرموها على أمتنا رحمكم الله، ولا تقبلوا أن نخدع بهذه البساطة من أجل وهم حريات التعبير العالمية. إنني أفضل أن أحارب من أجل رغبتي في أن يحترم ديني ونبيي وأمتي على أن أحارب لكي ينعم الآخر بحرية الإساءة لرموز الأمة ومقدساتها، وأن ينعم كذلك بمتعة مشاهدة أمتي تكبت غضبها وتكتم مشاعرها إرضاء لمن يسبون ويهزأون بخير من طلعت عليه شمس هذا الكون. لا تختاروا الدفاع عن حريات الغرب، فلها من يدافع عنها .. ولكن اجتمعوا وتوحدوا ولا تملوا من الدفاع عن نبي الأمة، ولا تتوقفوا عن الغضب لإهانته، رحمكم الله.
__________________
د. باسم خفاجي- الدكتور باسم خفاجي هو مدير المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب، وهو باحث مهتم بشؤون الغرب وعلاقته بالعالم العربي والإسلامي. يمكن التواصل مع الكاتب عبر عنوان البريد الإليكتروني articles@khafagi.net