د. باسم خفاجي
جمعيتان تتنسبان إلى الإسلام في السويد لا تمانعان من نشر رسوم كاريكاتورية جديدة ضد خير البشر
أدانت منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تضم 57 دولة إسلامية، نشر إحدى الصحف السويدية، وهي صحيفة نريكس اليهاندا في يوم 19 أغسطس 2007م رسما كارتونيا للنبي محمد، الذي قصد به إظهار النبي صلوات الله وسلامه عليه في صورة رأس إنسان وجسد كلب! وفي المقابل دعا رئيس المنظمة أكمل الدين إحسان أوغلو المسلمين إلى "التزام الهدوء" وضبط النفس. هكذا نشر هذا الخبر في وسائل الإعلام الدولية .. دول إسلامية قليلة تدين الرسم (باكستان وإيران فقط حتى الآن) وأغلب الدول الإسلامية الأخرى تلتزم الصمت، ورئيس منظمة المؤتمر الإسلامي يطلب من الأمة "التزام الهدوء"! والأعجب .. ولا أدري كيف يصدق هذا .. أن جمعيتين تتصفان أنهما جمعيتان إسلاميتان قد باركتا الفكرة، وساعدتا على نشرها بعد أن رفضت المتاحف السويدية نشر هذه الرسوم!
كالعادة أعلنت الحكومة السويدية إنها تأسف عن أي أذى تسبب فيه هذا الرسم، لكنها في المقابل لا تستطيع الاعتذار لأنها ليست المسئولة عن الرسم، ولا تستطيع وقف نشره. وعندما نقلت صحف باكستانية أن أحد الدبلوماسيين السويديين قد أبدى استياءه من الرسم وتعاطفه مع غضب المسلمين في باكستان، أكدت الخارجية السويدية أن هذا التصريح غير دقيق! وتحدث فريدريك راينفيلد، رئيس وزراء السويد، صباح يوم 31 أغسطس 2007م أن بلاده لابد أن ترعى وتحافظ على حريات التعبير. وقال الرسام لارس فلكس، صاحب الرسم المسيء في تصريحات لوكالة أسوشيتد برس للأنباء إنه يعتبر هذا الرسم نوعا من الفن، لكنه ليس ضد الإسلام.
الصورة المنشورة كانت لتمثال كلب نحت رأسه ليأخذ شكل وجه، وقصد به أن يكون وجه النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم، ونشرت الصورة مصاحبة لمقال يناقش حرية التعبير، بحسب الصحيفة. والرسم هو جزء من سلسلة رسومات لنفس الرسام رفضت المتاحف الفنية في السويد عرضها. أي أن المتاحف السويدية لها حق رفض عرض هذه الرسومات، ولكننا نحن ليس لنا حق الاعتراض عليها، ويطلب منا "التزام الهدوء" أمام هذه الإهانة لخير من سار على هذه البسيطة.
إن هدف هذا المقال ليس فقط الاعتراض على الرسم المسيء الذي نشرته الصحيفة السويدية، فهذا مما لا شك فيه، ولكن الاعتراض الحقيقي في هذا المقال هو على موقف المنظمات الإسلامية أو المنتسبة إلى العمل الإسلامي. هل يعقل أن توافق جمعيتين تدعيان أنهما تتنسبان إلى الإسلام على نشر مثل هذا الرسم، ثم لماذا يراد إسكات سلاح الغضب الإسلامي رغم أنه سلاح مؤثر وناجح في كل الأزمات السابقة. ليس هناك شك من الحاجة إلى ضبط النفس .. أما الدعوة إلى "التزام الهدوء" في مثل هذه الأمور، فهم ـ كما نحسب ـ موقف يعبر عن التخلي عن نصرة نبي الإسلام، وخاب من لا ينصر خير خلق الله.
أليس من العجيب أن تدعي منظمة العلمانيين المسلمين في السويد (SEMUS)، ومجلة تسمى مجلة "المنارة" تصدر في السويد، أن هذه الرسوم تصنف ضمن حريات التعبير التي لا يعترض المسلمون عليها! بل إن المتحدث باسم منظمة العلمانيين المسلمين، ويدعى هومان أنفاري ذكر أنه رغم عدم ارتياحه للرسم، فإنه لا يمانع من انتشاره، بل أنه زاد على ذلك أن منظمته تنوي عرض الرسوم أيضاً في "مركز ثقافي موسيقي ذو مكانة في استكوهولم، وأن المفاوضات جارية لذلك، وأعتقد أن الفكرة ستكون جاهزة للتنفيذ في الأسبوع المقبل"، كما قال المتحدث الرسمي للمنظمة.
أذكر القراء أنه في عام 1997م، إي منذ 10 أعوام قامت إمرأة يهودية تدعى تاتيانا توسكين بإهانة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن رسمته على شكل خنزير، ووضعت الرسم في ميدان في مدينة الخليل الفلسطينية، وفي ذلك الحين انتفض العالم الإسلامي، ولم يهدأ إلى أن قبض على المرأة وحولت إلى المحكمة وحوكمت، وحكم عليها بالسجن بسبب هذه الإهانة. ولننظر ما حدث خلال السنوات العشر الماضية. تكررت الاعتداءات .. وخفت صوت المعارضة الإسلامية .. ثم ظهر من أبناء الأمة من يدعو إلى عدم تصعيد هذه الأحداث والتغاضي عنها، وأخيراً نرى ـ ولأول مرة ـ من المسلمين من يتبنى نشر تلك الرسوم ويدعو إلى عرضها. كيف حدث هذا التغير وكيف يطلب منا "التزام الهدوء" أمام هذه الظاهرة. إن معدل التنازل في ازدياد، ومعدل تقبل الإهانات في ازدياد أيضاً، ولذلك فلا غرابة أن معدل الإهانات يزداد أيضاً. العجيب أن معدل الصمت و"التزام الهدوء" من طرف الأمة ومؤسساتها وأبنائها يزداد أيضاً، وهو أشد الأمور إيلاماً وحسرة.
إن من يسب أباه أو أمه في محفل عام لا يطلب منه "التزام الهدوء"! بل إن التزام الهدوء يعد في هذه الأحوال نقيصة وأمر مخجل لا يليق بالرجال.. ومن تسب قبيلته أو عشيرته ولا يغار ويغضب لذلك، بل يلتزم الهدوء ـ كما يدعوننا ـ تحتقره المجتمعات .. فكيف عندما يهان نبي الأمة، وخير خلق الله صلى الله عليه وسلم .. هل يعقل الدعوة إلى "التزام الهدوء". وهل يعقل ما يحدث فعلياً اليوم من "التزام الهدوء". من هان عليه أغلى من يحب .. هان على الناس، وأتساءل: كيف لمن لا يدافع عن نبي الأمة أي يتوقع دفاع الله تعالى عنه أو نصرته له.
ما هي الرسالة التي نقدمها إلى شعب السويد، وغيره من شعوب أوربا والعالم عندما نصمت عن إهانة نبينا صلوات الله وسلامه عليه. علينا أن نتذكر أنه من عام واحد فقط .. قدمت وزيرة الخارجية السويدية 'ليلى فريفالدس' استقالتها بعد الاتّهامات التي وجهت إليها بأنها تصرّفت بشكل غير دستوري عندما قررت إغلاق موقع يميني متطرف على الإنترنت أصر على نشر الرسوم المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. حينها قالت وزيرة الخارجية السويدية المستقيلة في مؤتمر صحفي: 'في الظروف الحالية أجد أنه من المستحيل الوفاء بمهام عملي وأختار الاستقالة'. إن "التزام الهدوء" لن يقنع أحداً بمساندتنا، وعلينا أن نتفهم ذلك جيداً، فليس هكذا يدار عالم اليوم. في العام الماضي حاولت وزيرة الخارجية السويدية أن تخفف من غضب الشارع الإسلامي في بلدها، ومنعت موقعاً يمينياً من نشر الرسوم المسيئة، وساهمت بذلك بشكل ما في تقليل الإساءة، ودفعت ثمن ذلك وظيفتها .. أما هذا العام فإن "التزام الصمت" لن يسبب أي استقالة .. والأهم أنه لن يمنع نشر أوانتشار تلك الرسوم.
هل لي أن أتساءل أيضاً: أين أنتم يا علماء الأمة ودعاتها ووعاظها ومفكريها ومثقفيها! هل هان عليكم نبينا الكريم إلى هذه الدرجة؟ هل ستستجيبون إلى الدعوة بـ "التزام الهدوء"! بالطبع أنا لا أدعوكم إلى التهور أو مجاوزة الحد في الرد على هذه الإهانات، ولكنني أدعو أن نستخدم كل ما أوتينا من قوة ومن وسائل شرعية وفكرية وغيرها مما لا يحرمه الشرع، ومما لا يخالف دعوات الحكمة والفطنة، لكي ندافع عن خير الخلق، فهل هذا كثير؟ وهل هذا مما لا نطيق؟ وهل هو مما يخالف القوانين والأعراف الدولية في شيء؟ إن أسلحتنا كثيرة ولكن همتنا قد فترت .. أو أريد لها أن تفتر .. وآن لنا أن نعي ذلك ونقاومه، ولن أمّـل من تكرار هذه الفكرة.
أكرر ما كتبته سابقاً، وقد يكون من المهم التأكيد عليه، فدلائله تزداد وضوحاً وخطورة: "إن هذه الموجة من الهجوم على الإسلام تمثل حلقة في سلسلة من الإهانات التي لا تكاد تتوقف، وكأن المقصود هو تعويد هذه الأمة على تحمل الإهانات، أو تحويل أبناء الإسلام دائماً عن العمل والإنتاج إلى ردود الأفعال. لابد من الغضب لحرمات الله التي اُنتهكت، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغضب لحرمات الله حتى لا يقوم لغضبه شيء، ولكن علينا أن نتذكر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُحَوِّل طاقة الغضب تلك إلى قوة بناءٍ وإنتاجٍ ودعوةٍ ورحمة، ولا يكتفي بمظاهر الغضب العقيم. لنا كل الحق بالتأكيد أن نغضب، وأن نمتلئ غيظاً لتكرار هذه السفاهات ممن لا يُعذَرون بالجهل، ولكن لابد أن نُذكِّر أنفسنا وأبناء أمتنا أن الغضب يجب أن يتحول إلى المزيد من الجهد للتعريف بنبينا أولاً، ثم أيضاً التصدي بالحجة والبرهان والدليل الدامغ لانحرافات من يتهجمون على خير الخلق، وقد وعدَنا الله تعالى أن يكفي نبيه صلى الله عليه وسلم ألسنة شر الخلق، "إنا كفيناك المستهزئين".
د. باسم خفاجي - 1 رئيس المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب، وباحث متخصص في شؤون الغرب والعلاقة مع العالم الإسلامي. يمكن التواصل مع الكاتب من خلال البريد الإلكتروني articles@khafagi.net