الشريف حاتم بن عارف العوني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة :
الحمد لله الذي وسع كل شيء برحمته , والصلاة والسلام على إمام المرسلين وعلى أزواجه وذريته .
أما بعد : فإن من سنة الله تعالى في الأرض أن يتدافع الحق والباطل , وهذا من أسباب بقاء الحق واستمرار وجوده ظاهراً قويّا ً} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُوفَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{ [البقرة/251] } الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{ [الحج/40]
كما أن هذا الصراع مآلُهُ مَحْسومٌ , لا يَشُكُّ فيه أحدٌ , وهو أنّ الغَلَبَةَ للحقّ سبحانه ؛ وما دام الله تعالى هو الحق فلن يُكْتَبَ لغير الحقِّ بقاءٌ وخلود } بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ{ [الأنبياء/18] } وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً{[الإسراء/81]
ولذلك كان غياب الحقّ في بلد أو بين أُمة هو سبب قيام دولة الباطل فيهم , ومجرّدُ مجيء الحقّ هو زُهُوقُ الباطل , ولا يتطلب دَحْرُ الباطل إلا هذا المجيء !
وهذه السنة الرّبانّية التي تبدأ بالصراع بين الحق والباطل , والتي تنتهي بأن مجرد حضور الحق الكامل بحججه وبراهينه هو زُهُوقُ الباطل واندحاره واختفاؤه = سنةٌ جعلها الله تعالى دليلا على الحق وعلامة ًله , لمن خَفِيَ عليه برهانُ الحقّ ودليله , وأراد أنّ يعرف الحق من الباطل بمآلات الأمور.
وهذا هو ما نشاهده اليوم بأم أعيننا , أنّ انتشار الإسلام هو بقدر عَرْضه و الدعوة إليه . وأنه ما حَضَرتْ صورةُ الإسلام بصفائها إلا استطاعت أن تملك القلوب وتملأ العيون , فلا يستطيع من شاهدها إلا بأن يقف أمامها مبهوراً مشدوهاً بذلك الجمال والكمال والعظمة ؛ فإما أن تَتّقد الفطرةُ فيه فيدخل في دين الله تعالى , أو أن تغلبه الأهواء فينكص على عقبيه , ليزداد قلبه ظلاما بهذا العناد , وتنقبض نفسه ضيقاً على ضيق ,وتضل نداءات فطرته في مهالك ظُلْمِهِ لنفسه , لتكون ألماً على ألم وحسرةً على حسرة } وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ [الأنعام/110] .
ولذلك كان هذا الانتصار لدين الإسلام , وهو انتصارُ انتشارِهِ بمجرّد حضوره والدعوة إليه = دليلاً من أدلة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنّ علامة الحقّ الظاهرةَ قد تحقّقت في دين الإسلام الذي بُعث به نبينا صلى الله عليه وسلم!! فكان هذا دليلاً على أن إلهنا حق ونبينا حق وديننا حق } وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ { [الحج/7] .
لكن ظهور تلك العلامات وبروزَ ذلك الدليل على النبوّة يستوجب القيام بواجب الحقّ الذي تحمّلناه , وهو الدعوة إليه , والدفاع عنه أمام من يحاول صدّ الناس عنه بتشويهه , أو يحاول تدنيسه لكي يستدل على بطلانه بذُلِّ أتباعه و انخذال حملته .
ويتضح من ذلك أن التطاول على المقدّسات له غرضان كبيران , هما من أهم المقاصد عند المتطاولين :
الأول : تحريف حقائق الحق , لتكون باطلاً في نظر الجاهلين به , فلا يجد الجاهلون فيه مُرادهم ومقصودهم الذي يسعون إليه , وهو الحق الذي تتعّطش النفوس إليه , فينفرون منه . وتَطَاوُلُ أصحاب هذا الغرض سمتُهم فيه الشُبْهَةُ , ومحاولة الاستدلال ( ولو بالمغالطات ) على تطاولهم هذا .
الثاني : الانتقاصُ و الإهانة لحقائق الحق , الذي يتلبَّسُ التَّشَفي فيه بصورة الاحتقار والترفّع والتعالي على ذلك المقدَّس عند غيرهم , ليكون هذا دليلا عند أنفسهم وعند من يجهل الحق أنه ليس حقاً , لأن الحق مرتكز في النفوس أنه عزيز وعالٍ , وأن أصحابه وحملته أعِزّةٌ به , فإذا ما احتقره أحدٌ واستخف به , تصور الجاهلون بالحق أنه لا يمكن أن يكون حقاً, و إلا لما تطاول عليه ذلك المُتَطاوِل الذي قد يكون مُعظَّماً عند قومه وبني جنسه. وتطاول أصحاب هذا الغرض سمتُهم فيه الإسفافُ في التطاول ,والإقذاع في أسلوب التناول : بالسبّ والشتم والأعمال الدالة على شدة الاحتقار وتمام الاستخفاف .
وقد ظهر هذان الغرضان في الأزمات المسيئة السابقة , فيأتي تطاول بابا الفاتيكان لتحقيق الغرض الأول , وتأتي الرسوم الدانمركية محققةً للغرض الثاني.
فهبّت الأمةُ غضباً لدينها ولنبيّها صلى الله عليه وسلم , فاندلعت المظاهرات والاحتجاجات , وعمّت كل بقاع المسلمين , سواءً في الدول الإسلامية أو الدول التي فيها تجمّعات إسلامية .
لقد كان حدثاً هائلاً اندهش له الإسلاميّون والمصلحون , قبل أن يندهش له الآخرون . بل لقد صرَّح العديد من القادة الغربيين أنهم ما كانوا يظنّون أن شيئاً من هذا سيحصل ! ولا نستغرب أن يقول الغربيون ذلك ؛ لأننا نحن قبلهم ما كنّا نظن أن كل هذا سيحصل !!!
نعم .. لقد استطعنا أن نجعل العالم الغربي المتغطرس , الذي كان لا يرضى أن يستمع إلينا , فضلاً عن أن يفهمنا : أن نجعله منصتاً لنا ! فقد أجبرناه على ذلك , وأن يلتفت إلينا , ليقول في اندهاش : )) مازال للمقدَّس الديني شأن عظيم عند طائفة من البشر على وجه الأرض !! مازال المسلمون يعظمون دينهم ؟ !! )) .
ولذلك قد كان ذلك الحَدَثُ الهائل , بكل ما فيه من أحزان , ومن شعور بالنشوة للعزّة الديّنية التي فاضت بها الأمة = حدثاً لا يجوز أن يمر بغير وقفات تأمل معه : نستلهم منه الدروس , ونستفيد من تفاصيل أحداثه و مراحلها ما نسدّدُ به خطانا المستقبليّة فيما إذا احْتَجْنا إلى مثلها .
ولن يتم ما ننشده أيضاً من استلهامٍ للدروس إلا إذا عرفنا إخفاقاتنا و عثراتنا وأخطاءنا لكي نحرص على تجاوزها مستقبلاً.
ولا يخفى على أحد أن عَدَّ المرء لمحاسنه ليس كعدّه لمساوئه , وأنه أقدر على رؤية الفضائل أكثر من رؤيته للرذائل , إلى درجة أنه لا يحتاج إلى غيره لرؤية الفضائل , في حين أنه ما أحوجه إلى غيره لرؤية العيوب , فالمِرآةًُ لا يحتاجها غالباً إلا لاكتشاف العيب والنقص ليحسنه و يكمّله .
ولئن كان عوامّ الناس بحاجة إلى رفع المعنويّات بذكر المحاسن و البداء بها ؛ فإنّنا معشر القائمين على الإصلاح نحتاج من حين لآخر إلى لحظات مصارحة ومكاشفة , نعتني فيها بادراك العيوب لسَدّ الخلل.
ولذلك عُنِيْتُ في هذه الأوراق أن أُبرز بعض أهمّ نقاط الخلل التي انتابت عَمَلَنا الإسلامي في هذا الحدث , وأن أحاول أن أبين جوانب قصور أدائنا فيه مع تضمين ذلك ذكر بعض أهمّ المقترحات لسدّ الخلل وتكميل النقص .
واسمحوا لي أن أكون صوتَ المعارضة , ونبرة النقد , لكن لا لمجرّد المعارضة ولا حبّاً للنقد .. للنقد فقط , بل من أجل الإصلاح . وليس عدم ذكري للنجاحات استخفافاً بها أو لقلتها , ولا لعدم روئيتي لها ؛ ولكن لأن الوقت قصير (هذا أولاً) , (ثانياً) : لأن ورقة بحثي خصّصتها للإخفاقات , ليس إلا . وإلا فإن النجاحات كثيرةٌ ومباركة, والانجازات عظيمةُُ نفخر بها , ومن هذه الانجازات والنجاحات هذه الندوة المباركة.
أسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق .
والحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
_______________________________________
وجوه القصور في موقف الأمّة في دفاعها عن مقدّساتها
كما قدّمت به في هذه الأوراق , أن الْتِفَاتي سيكونُ لوجوه القصور التي بدت لي من معايشتي لموقف أمَّتنا الإسلامية من تحدّيات الإساءة إلى المقدّسات , وأن اهتمامي سينصرف إلى ذكر بعض الإخفاقات التي ينبغي علينا السعي إلى دراسة أسبابها , لمحاولة تجاوزها في مستقبل أمتنا , ولكي نُوجِد الوسائل الصحيحة لتكون نجاحاتٍ بلا إخفاقاتٍ قدر المستطاع .
الوجه الأول : شيوع التصوّرات الخاطئة عن أسباب هذه الإساءات , وظهور التفسيرات القاصرة أو البعيدة عن الصواب في تحديد دواعيها.
وخطورة هذا الوجه من وجوه القصور يظهر من جهة أن مواجهة المشكلة بالطريقة المؤدّية إلى حلّها إنما تبدأ من معرفة أسبابها , فإذا ما فُسِّرت دواعيها بالتفسير المجانب للصواب , أدى ذلك إلى عدم القدرة على مواجهتها المواجهة الصحيحة الكفيلة بحلّها . فمعرفة الداء سبيلُ تحديد الدواء , كما أن معرفة أسباب الداء سبيل معرفة طُرُق الوقاية منه .
ولهذا الوجه صورٌ متعددّة :
الأولى : استمرار سيطرة فكرة المؤامرة على تصوّراتنا , ومحاولة ربط الحوادث بخيوط ضعيفة , وإغفال أن العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر وما تلاه من أحداث , قد زاد احتكاكه بالإسلام والمسلمين , ومن الطبيعي في هذا الوقت المتأزُِّم أن تتعدد فيه أنواع المواجهة , وأن يكون منها المنظّم وغير المنظّم . ولا أريد بذلك إلغاء فكرة المؤامرة , لكني ضد عقدة المؤامرة , التي تبالغ في هذا الوجه من وجوه التفسير , وتجعل وسائل المواجهة كلّها مبنّيةً عليها . أما أن نضع هذا في الحسبان , وأن تكون المؤامرة إحدى المسبّبات لبعض تلك الاعتداءات , بحسب الأدلة الدالة على ذلك = فهذا مطلوب ؛ لأنه الحق الذي لا يخالف فيه من استبانت له أدلّته .
الثانية: حصر سبب تلك الاعتداءات في سبب واحد , مع أن أسبابه متعدّدة , أو التركيز على أسباب بصورة تؤدي إلى إغفال أسباب أخرى .
فمثلاً : سمعنا وقرأنا من عَدَّ السبب في ذلك هو أن العالم النصراني والغربي بالتحديد يعادي أهلُه الإسلامَ مع علمهم بصحّته , عناداً وإصرارا ًعلى الباطل . وهذا وإن كان حقاً في قلّة من الباحثين الغربيين , فإننا نعلم يقيناً أنه لا ينطبق على الكثرة الكاثرة والأعمّ الأغلب من الغربيين , الذين يجهلون دينهم (قبل غيره) جهلا شديداً . فضلاً عن أن يكونوا قد عرفوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجحدوها عن علم وعناد على البطل .
وخطورة هذا التصورّ أو المبالغة في تعميمه فوق واقعه الضيق الوجود جداً = أنه سيحول بيننا وبين أهمّ وسيلة للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهي التعريف به على الوجه الصحيح ؛ لأنّ من كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلمولم يمنعه من الإيمان به إلا الاستكبار , ما فائدة محاولة تعريفه بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟
إن محاولة حصر أسباب تلك الاعتداءات في سبب واحد , أو تضخيم سبب فوق حجمه الذي هو عليه , سيؤدّي إلى نتائج غير صحيحة . ولن يساعد على المواجهة الصحيحة .
ولا بأس بذكر بعض الأسباب الكبرى لهذه الاعتداءات :
الأول : العداء الأزلي بين الحق والباطل والإسلام والكفر , والذي لا يلزم لوقوعه أن يكون صادرًا ممن عرفوا أنهم على الباطل والكفر فأصرّوا عليه , بل يصدر عداء أصحاب الباطل للحق مع ظن أصحاب الباطل أنهم على الحق , وهذا هو الغالب , ويصدر أيضًا من أصحاب العناد العالمين بالحق التاركين له بُغضاً وكبراً وعناداً .
إن الصراع لمتوقَّعٌ بسبب اختلاف المبادئ والأديان ,فهو صراع أساسه عقيدة الولاء و البراء الراسخة في قلوب أصحاب كل دين ثابتين عليه .
الثاني الجهل بالإسلام رسولا وتعاليم , والذي كُنّا نحن سبباً من أسبابه بتقصيرنا في الدعوة إلى الله تعالى .
الثالث: انتشار صورةٍ قاتمةٍ ظالمة للإسلام والمسلمين في العقليّة الغربيّة ,كان للغربيين دورٌ كبير فيها , من خلال حركات الاستشراق (القديمة والحديثة) التي أصدرت دراساتٍ جائرةً وبثّت تصوّراتٍ كاذبةً عن الإسلام والمسلمين ,ومن خلال وسائل الإعلام المسيئة في الغرب , والتي يقع كثيرٌ منها تحت سيطرة جهات صهيونية بصورة مباشرة أو غير مباشرة , ومن خلال أوضاع بعض المسلمين الذين أعانوا على الإساءة إلى الإسلام أيضا , وأكدوا التصورات الظالمة عن الإسلام , بأفعالهم المخالفة له المنسوبة إليه بغير حق , ومن خلال التخلف الحضاري الذي تعيشه كثير من الدول والمجتمعات الإسلامّية , كل هذا وغيره أدى إلى سوء التّصور لدى غير المسلمين عن الإسلام وأمة الإسلام .
الرابع: اختلاف القِيَم بيننا وبينهم , فالغرب ليس لدى عموم شعوبه مقدّسٌ ديني ؛ في حين أنهم يقدسون قيمة الحريّة الفوضوية , ولذلك قدموها على المقدس الديني . ويجب علينا فهم هذا الأمر جيداً إذا أردنا التفاهم مع الغرب , لكي لا يكون نقاشنا معهم مثل نقاش الصُّمّ , فنحن نتكلّم بكلام لا يفهمونه , وهم يتكلمون بما لا نفهمه ؛ لأنّ منطلق النقاش (وهو القيم) مختلفٌ بيننا تماماً .
وهذا نقصٌ في الخطاب الإسلامي ظهر في أزمة الرسوم الدانمركيّة, ولابُدَّ من معالجته , وإلا فلن نستطيع مخاطبة عقلائهم , ولن نستطيع إقناعهم باستصدار قوانين تُجَرِّم الإساءة إلى مقدسات المسلمين . فمادمنا مضطرين إلى خطابهم وإلى أن نقنعهم بأن يقوموا هم بتجريم تلك الإساءات, فلابد أوّلاً من أن نفهمهم تماماً , فلا نشعرهم بأننا نريد مصادرة قيمهم لمجرد أنها ليست قيمنا.
وفي هذا السياق أودّ من عموم المسلمين من أهل الفكر ورجال القانون , أن يطّلعوا على ردّ المدّعي العام الدانمركي على محامي اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم في رفضه لقبول الدعوى المقدّمة ضد الصحيفة الدانمركية , وهو منشور في موقع اللجنة باللغتين العربية والإنجليزية ؛ لكي يكون خطوةً أولى لفهم القوم وطريقة تناولهم لقيمهم وقيم غيرهم .
الصورة الثالثة لنقص التصور : اعتقاد أنّ ما حدث في الدانمرك شيءٌ جديد , وأن الدانمرك هي أوّل من أساء بالتعدي على مقام النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا التصوّر في غاية البُعْد عن الصواب , ولذلك فهو في غاية الغرابة . فإن الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدأت من يوم أن بُعِث صلى الله عليه وسلم, كما هو معلوم , ولم تنقطع من حينها إلى اليوم . وبعد انفتاح العالم على بعضه من خلال وسائل الاتصال الإعلامّية وغيرها ,أصبحت تلك الإساءات عالمّية بسبب هذا الحدث الحضاري الهائل , الذي جعل العالم بحق أصغر من القرية الواحدة .
وقد سبق الدانمرك إلى الإساءة بعد الحادي عشر من سبتمبر تصريحات ٌ مشينة ومسيئة لبعض المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها , كانت تلك التصريحات هي الدافع لإنشاء اللجنة العالمية لنصرة الخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم .
والخلل الذي أدَّى إليه هذا التصوُّر الخطأُ : تخصيصُ الدانمرك وحدها بجُلِّ جهودنا في استنكار الاعتداءات , وعدم وضعها في موضعها الحقيقي : ضمن صفّ المعتدين جميعهم . وهذا الخلل لن يحّقق الانتصار الذي نرجوه للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأننا أغفلنا جميع المعتدين بحجة أن الدانمرك هي أول معتدٍ ؛ فلا ذلك الإغفال صحيحٌ فيما لو كانت الدانمرك فعلاً هي أول معتدٍ؛ولا كانت هي أوّل معتدٍ أصلاً ؛ولذلك فهو تَصَرُّفٌ مُجانِبٌ للصواب بمقدّمتيه كــلتيهما!
الوجه الثاني : عدم وضوح الهدف أو عدم وجوده أصلاً من تلك الاحتجاجات , سواء أكانت مظاهرات أو مقاطعة أو غير ذلك . فقد كانت تلك الاحتجاجات في غالب الأحيان بلا هدف واضح ؛ بل ربما كانت مجرّد تفريغ لشُحنة غضب وانطلاقاً من عاطفة غير موجّهة .
ولاشك أن الغضب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم دليلٌ من أدلة الإيمان , كما أنّ العاطفة الدينية مطلوبة أيضاً ؛ لكن الغضب إذا لم يُضبط فإنه يضرّ ولا ينفع , ولا يضبطه مجرّد كونه لله , بل لابد من التزامه بأمر الله , وأن يكون له هدفٌ يحقق أمرَ الله تعالى , وكذلك العاطفة الدينيّة , إذا لم يكن لها أهداف , كانت مجرّدَ مشاعر لا تنصر الدين الذي جاشت وتحركت لأجله !
وآثار هذا الخلل واضحة : فإن أي عمل لا تكون له أهدافٌ واضحة تماماً , لن يحقق شيئاً ؛ وكيف يحقق هدفاً وهو لم يَسعَ إليه أصلا ؟! بل أنَّى ينتظر تَحقُّقَ الهدفِ من لم يضع له هدفاً ؟!
أمّا إن قيل : قد تحققت كثيرٌ من الأهداف جرّاء تلك الاحتجاجات , فكيف يُدّعى أنها لم تكن ذات هدف ؟! فأقول : قد تحقق بعض الأهداف دون قصد , كما أن من تلك الاحتجاجات ما كان مُهَدَّفاً بمحاولة بعض أهل العقل والعلم أن يجعلوا له هدفاً.
ولكن المهم : هل كانت تلك الأهداف التي تحققت مقصودة عند عامة المسلمين؟
والمهم الآخر : هل فوّتنا أهدافاً أخرى بسبب عدم تهديف تحرُّكاتنا ؟
وهنا أود أن أضع قاعدةً لمحاسبة منجزاتنا الإسلامية :
فالإنجازات غير المدروسة ( مهما عَظُمَت ) لا تستحق كل الإشادة ؛ لأنها نتجت عن عملٍ بغير نيّةٍ وقصد , ولأنها وصولٌ إلى الصواب لا بجهدنا بل بفضل الله تعالى , فالمحمود عليها هو الله وحده . أمّا الإنجاز المدروس (مهما صَغُر) فيستحق الإشادة ؛ لأنه نتج عن عملٍ بنيّةٍ وقصد , ووصولٌ للصواب بعد استفراغ الجهد في السعي إليه , فالمحمود فيها هو الله وحده أيضاً , ولكن لا يُشْكَرُ الله تعالى حينها إلا بشكر هؤلاء الناس الذين بذلوا الجهد الكفيل بتحقيقها . فالأول (وهو صاحب الإنجاز غير المدروس) : وصل إلى الانجاز بلا تكليف , بل بمحض الفضل الإلهي . والثاني (وهو صاحب الانجاز المدروس) : وصل إليه وهو تحت طائلة التكليف والمحاسبة . فأيّهما الأوْلى بالإشادة ؟وأيهما المستحق للثواب الأخروي , ويجب تقديمُ الشكر له في الدنيا والإشادة بعمله؟!
ولهذا الوجه من وجوه الإخفاقات صورٌ عديدة :
الصورة الأولى : أن تكون تلك الاحتجاجاتُ نتيجةَ فورةِ غضبٍ فقط , ولا هدف لها البتّة . وحينها قد تخرج هذه الفورة عن حدودها , وقد تسيء إلى صورة المسلمين , كما وقع هذا فعلاً . كما أن هذه الفورة سرعان ما تهدأ , ولا يمكن أن تُسْتَثمَر , ولا أن يكون لذلك الغضب طاقةٌ فاعلةٌ في بناء المشاريع التي تُحقِّقُ مصالحَ الأمة .
وكان ينبغي أن يُسارع الدعاة والعلماء والقادة إلى بيان أهداف تلك الاحتجاجات ,والى استثمار تلك الغضبة في عمل جماعي وبذلٍ بالجُهد والمال , لكي يحقق الهدف الذي ينشدونه .
الصورة الثانية : المطالبة بأهداف مستحيلة , أو مُستبعدة الوقوع ,وربما كان من المضرّ مجرّدُ ذكرها وإعلانها .
فمن مُطالبٍ بقتل الرسّامين أو رئيس تحرير الصحيفة المسيئة, دون تقييد المطالبة بذلك بأن تكون بالوسائل المشروعة والقوانين المتبوعة , أو يكرّرُ ذِكْر حُكْمِ المسيء في كل محفل , حتى ولو كان تكراره لذلك له مفاسد تغلب مصالحه ! ودون طمع منه في تطبيق هذا الحكم ! وكأنه بغير هذا التكرار لن يكون معتزّا بدينه وبتعاليمه !!
وآخر : جعل هَدَفَه أن نضمنَ له عدمَ تكرار الإساءة , غافلاً بذلك عن أن الإساءة وقعت وستقع مادام على وجه الأرض عدوٌّ للإسلام . ولذلك أُصيب بعضهم بالفشل بسبب تكرار الإساءة ؛ لأن هدفه الذي كان قد أفرغ فيه طاقةَ غضبه كان هدفا مستحيلا : وهو أن لا تتكرر الإساءات ! فلما تكررت , شعر بأنه أخفق في تحقيق الهدف . كما أن بعضهم استدلَّ بتكرار الإساءة على أنها وقعت بسبب تقصيرٍ (حسب وجهة نظره) في موقفٍ لبعض علماء المسلمين , وأن تكرار الإساءة ما كان سيحصل لولا اجتهادُ أولئك العلماء الذي يراه هو اجتهادا خاطئاً , وأصبح تكرارُ الإساءة عنده أكبرَ دليلٍ على خطأ أولئك العلماء ؛ فكأنّ رأيه الذي يراه هو .. كان من الممكن أن يمنع تكرار الإساءة !
وثالثٌ : جعل هدفه أن تركع الحكومة الدانمركية للمسلمين , وتلبّي مطالبهم , تلك المطالب التي لم تتحدّد بعد ! فَمِنْ مطالبٍ بقتل الرسّام , أو بالتعهّد بعدم تكرار الإساءة , أو بالاعتذار الذي يختلفون في صيغته المقبولة .
ولا تدري . . هل فَهِمَ هؤلاء قَدْرَ ما قدّموه في النُّصْرة , وهل هو على قدر هذا الهدف ؟ أم لا يُهِمُّ أن يفهموا ؟! فالمهم فقط أن يَحْلُمُوا بأهداف ولا يهمّ بأن يكونوا قادرين على تحقيقها !!!
إن تركيعَ حكومةٍ (لفظاً ومضموناً) وإذلالَ دولةٍ بالطريقة التي يحلم بها هؤلاء يحتاج هزيمةً عسكريةً ساحقة , وهم يريدون تحقيق هذه الهزيمة بالمظاهرات ومقاطعة بعض الشركات!!!
الصورة الثالثة : استعجال الوصول إلى الهدف , بغير علم بالطريق الموصل إليه ,وهل هو مما يحتمل هذا الاستعجال أو لا يحتمله . وسبب هذا الاستعجال هو بسبب عدم وضوح معالم الهدف و بالطُّرُقِ الموصلة إليه , وإلا لو كان الهدفُ واضحاً لعرفنا ما الذي يحتاجه من الجهد والبذل و من الوقت أيضاً .
مثاله : لمّا سعى البعض إلى استصدار أحكام قضائيّة ضدَّ الحكومة أو ضدّ الصحيفة , رأينا من لم يقف به الأمر عند حدّ الاستعجال بسبب تأخر حصول هذا الهدف , بل وصل به الأمر إلى درجة أنه يئس من الوصول إلى هذا الهدف , ولو بعد حين , حتى أصبح يستهجنُ الحرصَ في الوصول إليه , وربما شمت (!) بمن حاول ثم أخفق , كما وقع هذا فعلاً .
كما أننا وجدنا من لا يرى السعي إلى استصدار قانونٍ يُجَرِّم المساسَ بالمقدسات الإسلامية و الإساءة إليها , بسبب أن المطالبات القريبة بها لم يُكتب لها النجاح حتى الآن . فاستعجاله في قطْفِ الثمرةِ جعله يترك السعيَ إلى قطفِها في أوانها , ولو كان أوانُها لم يَحِنْ بعدُ .
وينسى هؤلاء أن اليهود (أصحابَ النفوذ والسيطرة العالميّة) لم يربحوا في استصدارِ القانون الذي يُحَاسبُ المتّهمين بمعاداة السامية إلا بعد عشرات السنين ,كما أن نسوا أيضاً أن سعينا نحن إلى أن تُجَرِّمَ الدولُ الإساءةَ إلى الإسلام , ولو لم يُؤتِ ثمرته المقصودةَ إلى حين , إلا أنه سيؤدي إلى ثمارٍ أخرى , هي ثمار المظاهرات والمقاطعة نفسها : من الدلالة على الاستنكار والإدانة .
الصورة الرابعة : ضآلةُ الهدف , مع احتمال أن يكون أعظمَ وأجلّ .
وأعظم هدفٍ : هو التعريف بالإسلام وبنبيِّ الإسلام صلى الله عليه وسلم , ونشر دعوة الحقّ التي طالما تراخى دونها بل أهملها المسلمون ؛ فلماذا لا يكون ما وقع دافعاً لتحقيق هذا الهدف العظيم , وهو أعظم وجه من وجوه النصرة , وهو الغاية الكبرى من بعثته صلى الله عليه وسلم .
فالاكتفاء بمجرّد الاعتذار , أو حتى معاقبةِ المسيء , ليس هو هدفنا الأسمى ؛ إن هدفنا الأسمى هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور. فلا يصح أن نُفوِّت فرصة هذه اليقظة الإسلامية دون تذكير المسلمين بواجبهم الذي غفلوا عنه حتى نسوه , بل كان الواجب بيان أن هذا هو ما يجب أن ينصروا به النبي صلى الله عليه وسلم . وهو أوجب ما يجب عليهم تجاه أتباع غير ملة الإسلام , فما شُرع الجهاد بالنفس والمال إلا لأجله !
أين الأمةُ ( أمةُ الثراء المادّي والعقول المُبتكِرة و أمة التحضّر ) من إنتاجٍ إعلامي عالمي , على أرقى المستويات العالمية جاذبيةً وإثارةً , ودقةَ معلومة , للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟!
الوجه الثالث : ضعف الجهود في تحقيق الأهداف المطروحة ,سواءً رضيناها أهدافاً أو لم نرضاها , ومع ذلك لم تكن الجهود بالمستوى الذي كان ينبغي أن تكون عليه.
ولهذا الوجه صُوَرٌ وأسباب :
وأوّلها : تشتُّتُ الجهود وتَبَعْثُرُها , وضعفُ التنسيق . فكم من لجنةٍ أُنشئت بعد حادث الدانمرك ؟ ولا إشكال في الإنشاء , لكن الإشكال في إنشاءٍ بغير استفادةٍ من الجهود السابقة غالباً , وكأن القضيةَ في أحيان ليست بالنادرة منافسةٌ على شرف دنيوي ومنصبٍ يُتَزاحَمُ عليه .
ولا شك أن تقسيم الأدوار مطلوب , وأن التعاون على الهدف الكبير من جهات عدّة محمود . لكن غير المطلوب والمحمودِ أن يكون الغرضُ التدافُعَ على مكانٍ سبقت إليه جهةٌ أخرى , أو إسقاطَ لجنةٍ قائمة لمجرّد أن القيادة أو العضويّة فيها لا تُحسَب على تلك الجهة التي أنتمي إليها !
وهنا يبدو الألم عميقاً : عندما تتوحّدُ الشعوبُ , في حين يعجزُ بعض إصلاحييِّها من أن يتحدوا , وما زالوا (رُغْمَ هذا الحَدَثِ المُوَحِّدِ) لا يستطيعون الانفكاكَ من ضيقِ أُفقِ الجماعة أو الحزب أو القيادة أو الآراء الفكرية التي ينضوون تحتها !!
وثانيها : بقاء كثير من جهودنا في حدود ردود الأفعال , لا بناءً على الدراسة المتعمِّقة التي تستشرف المستقبل : لتتوقّعَه , وتضعَ الحلولَ المناسبة , وتصفَ سبل الوقاية من الوقوع في المشكلة .
بل لقد تجاوز تقصيرُنا حدَّ اتخاذ المواقف بلا دراسة , إلى حدِّ الاعتراض على المواقف المدروسة بالموقف غير المدروس !!!
فمثلا : هل أقمنا دراسات عن المقاطعة من جهة أنواعها (الحكومية والشعبية) وجدواها الاقتصادية , هل أقمنا مكاتب لتقويم مقاطعات أي دولة في العالم : هل يمكن أن تُقَاطَعَ عند الحاجة إلى إجراء موقف ضدها ؟ وهل تُقاطع كُلّيّاً أم جزئياً ؟ وما الغرض من المقاطعة ؟ هل هو الإنهاك و الإخلال الاقتصادي ؟ أم الإثارة الإعلامية للفت النظر عالميّاً إلى قضيتنا ؟
ومثالٌ آخر :هل أقمنا دراسات لمعرفة الخلفيّات العلميّة والثقافيّة والتاريخيّة والحضاريّة والدينيّة لتلك الإساءات , باختلاف جهات صدورها , بكل دقّة وإنصاف , لنعرف كيفية مواجهة كل إساءة بما يناسبها , بناءً على العلم بدوافعها المختلفة ولاشك .
إلى غير ذلك من الدراسات , والخطط الوقائية ,بدلاً من أن لا تكون جهودُنا إلا ردودَ أفعال . ولا يخفى أن ردود الأفعال ليست في قوة المواقف المدروسة المبنيّة على نظرة مستقبلية .
ثالثها : تأخُّر ردود الأفعال من دون سبب مقنع .
فمثلاً الهجوم على النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بقوة بعد الحادي عشر من سبتمبر عام (2001م) , وعلى أعلى المستويات من بعض رجال الحكومة الأمريكية وغيرهم , وما أقل التحرّكات وردود الأفعال حينها ؛ حتى إذا ما وقعت إساءة الصحيفة الدانمركية , هبّ الناس هبتهم المحمودة تلك . لكن لماذا تأخّرت تلك الهبّة ؟!
لا ينبغي أن تكون ردود أفعالنا ( وهي مجرّد ردود أفعال )بهذا البُطء , بل لابد من المبادرة المدروسة ذات الهدف الواضح .
رابعها : السماح لأصحاب الأغراض الشخصيّة و الأرباح الدنيوية باستغلال الحدث لصالحهم الدنيء , أو السكوت على أصحابِ نوايا حسنةٍ دون عقل أو عدل من ممارسة الدور الذي لا يكادون يحسنون غيره , وهو المزايدة على الغَيرة الدينيّة والمسابقة غير المنضبطة إلى دعاوى الحميّة الشرعيّة .
فكم من شركةٍ ادُّعِيَ أنها دانمركية وهي ليست كذلك , وخرجت تلك الادّعاءات من شركاتٍ منافِسةٍ أو من أشخاص بغير تبيُّن !
وكم من شركات نُسبت إليها اعتداءاتٌ , ولم يصح ذلك عنها !
وكم من أقوال نُسبت لأشخاص وكانت نسبتها خطأ , أو فُهمت خطأ !
وكم ادّعى أناسٌ من التجار وغيرهم دعمًا أو تبرعًا أو وقوفًا مع المقاطعة, وقد لا يكون ذلك كله واقعاً , بل هي مجرّد وسيلة كاذبة رخيصة للدعاية و الإعلان .
وكم من شائعة عن رسام أصابته قارعة , أو إهانات أو إساءات تُنشر عبر رسائل الجوال وغيرها , وهي كذب محضٌ , بحجج ومقاصدَ عديدةٍ , الله أعلم بقصد أصحابها وبأغراضهم .يكفي أنها كذبٌ بَحْت ٌ , لا يمتُّ إلى الواقع بأي صِلة ؟
وكم من شخص ضخّمَ وسيلةً من وسائل النُّصرة , كالمقاطعة , فصبّ كلَّ جهده فيها , وليس هذا هو الخطأ , لكن أن يُطالب الناسَ بأن لا ينشغلوا إلا بها , وأن يتّهم من كان له اجتهادٌ فيها بالخيانة لمجرد أنه رأى إنهاءها مع شركة من الشركات , ولا جُهدَ لهذا الغيور إلا في هذا الوجه = فذلك قصورٌ شديد في تصوُّر سعة وجوه النُّصرة , وفي ضبط الغَيرة بالضوابط الشرعية التي تمنع من البغي والتعدّي على المسلمين , فضلًا عن علمائهم !!
خامسها : قصورٌ في الوسائل المتّبعة في تحقيق الأهداف التي وضعناها خلال الأزمة السابقة .
ونبدأ بالحكومات : فمع ما يُذكر ويشكر لكثير من الحكومات الإسلامية, حيث سبقت الشعوبَ إلى معالجة الأزمة , وكان لبعض الحكومات مواقف أكثر صرامة من بعض . لكنّ تفاوتَ المواقف قوةً وضعفاً , وضعفَ التنسيق بين هذه الدول الإسلامية , جعلت النتائجَ ليست بالمستوى المطلوب !
وكذلك أداء وسائل الإعلام والفضائيات الإسلامية : لم تكن بالمستوى المأمول في تغطية الحدث, ولا في تغطية مواقف الشعوب الإسلامية منه , ولا في إنتاج البرامج المصاحبة له .
ألا يكفي أن مؤتمراً في مثل ضخامة مؤتمر البحرين الذي ضمّ ما يزيد على ثلاثمائة عالم و داعية ومفكّر من جميع العالم الإسلامي , لولا تغطية قناة الجزيرة له من خلال البَثِّ المباشر , لما وجد قناةً إسلاميةً تنقله بنحو تلك التغطية ! حتى تلك القنوات الإسلامية الصِّرفةُ التي كنّا ننتظر منها الكثير !!!
وأما التجار ورجال الأعمال ومدراء الشركات : فمنهم من كانت له مواقف مشرفة ولا شك , ومنهم من لا همَّ له إلا الاصطياد في الماء العكر (كما قدمناه) من خلال الشائعات الكاذبة . ولم يقف قصور أداء أرباب الثروات عند هذا الحد ّ , بل تعداه إلى أن بعضهم اقتصر دوره على مقاطعة ما قاطعته الشعوب أصلاً , أما ما لا علم للشعوب به ولا قُدْرَةَ لها على مقاطعته , كشركات الشحن مثلاً , فلم تدخل عنده ضمن ما يستحق المقاطعة بالبحث عن البديل , لتفعيل أثر المقاطعة . كما أن وقوف هذه الفئة في الغالب كان في جانب نصرة الامتناع عن الشراء (المقاطعة) دون نصرة البذل والعطاء لمشاريع النصرة العديدة , فقد يقاطع أحدهم ؛ لوجود البديل أو لكسب سمعةٍ حسنةٍ أو لمقصدٍ طيّب , لكنه يَشُحُّ عن نُصرة البذل والعطاء في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
هذه أهم إخفاقات تجربتنا السابقة , والتي تقابلها نجاحات عظيمة , وانتصارات حقيقيّة لا تُنكر ، لكنّ تخصُّصَ المقال في الإخفاقات هو الذي جعلني أقتصر عليها , بغرض دراستها من إخواني الحضور من أصحاب العمل في الساحة , فما وجوده إخفاقاً حقاً حاولوا تجاوزه في المستقبل , وما وجوده بخلاف ذلك عملوا على تحقيقه .
والله من وراء القصد .
والله أعلم
والحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين .
وكتب
د/ الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو مجلس الشورى
والمشرف العام على اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم
23 ذي الجحة 1427هجرية