وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر " أبو اللبن في ذمة الله "

رائد شفيق حليحل

الحمد لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسول الله، الذي إن تذكر المصاب فقده واساه، وبعد :

"أبو اللبن في ذمة الله"، بهذه الكلمات المقتضبة وبعيد وفاة الشيخ الجليل والأستاذ الكبير والداعية الإسلامي أبو عبد الله – أحمد سامي أبو اللبن – أخبرني الأخوة من الدانمارك بهذه الفاجعة الكبرى والرزية العظمى والمصيبة الجسيمة. ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا [إنا لله وإنا إليه راجعون].

لقد غيّب الموت ليلة الجمعة الرابع عشر من شهر الله المحرم علماً بارزاً من أعلام الدعوة إلى الله عز وجل، رجل لا كالرجال، لقد كان بحق "أمة"، ابتلاه الله عز وجل بمرض عضال ولكن رحمة الله الواسعة لم تجعله يكتوي بناره مدة طويلة، فإن مرضه كله لم يدم أكثر من شهرين بل أقل، وكان صابراً محتسباً – رحمه الله – مرت تلك الأيام وكانت شديدة على أهله وذويه ومحبيه أكثر منها عليه، وجاءت اللحظة المحتومة وختم له بخير – إن شاء الله – ففي ليلة الجمعة وفي ساعات الاحتضار والنـزع استقبل محبيه – وهم الأكثر – رغم آلامه ثم بعدها تلا كلام الله وقرأ سورة "يس" ثم تلفظ بالشهادة وبعدها قبضت روحه الطاهرة وإنا لنرجو أن يكون قد سبقنا إلى جنات النعيم.

لقد تعرفت على الشيخ منذ مدة، وكان أول هذا الأمر قبل وصولي للدانمارك محادثة عبر الهاتف، وجدت يومها صدقاً يسبق نبرات صوته وحرقة على الإسلام وأهله ثم دخلت الدانمارك بدعوة كريمة منه وأول مكان وطأته قدماي هو ذاك الصرح المبارك "الوقف الاسكندنافي" في كوبنهاغن وهو من ثمرات الشيخ يرحمه الله.

توطدت العلاقة سنوات عدة، لمست من خلالها قيمة هذا الرجل الذي حاز مواصفات عجيبة "ثقافة عالمية عالية، أصالة دينية، طلاقة لسان عجيبة في اللغة الإنجليزية، علم شرعي واسع، همة عالية، إبداع وتفنن في البرامج العملية، سعة صدر، جلد وأناة وحلم، صبر ومصابرة، لا يكل ولا يمل، لا يثنيه ترهيب ولا يحرفه ترغيب،" كل ذلك وغيره سخره ولمدة تزيد على عشرين عاماً في الدعوة إلى الله عز وجل. لا أقول في الدانمارك فقط بل كل اسكندنافيا.

كان يرحمه الله صاحب همّ وحرقة ودين، له الفضل بعد الله عز وجل على كل مسلم "وافقه أم خالفه".

أحيا في قلوب الجالية عظمة الانتساب للإسلام في وقت كاد الأغلب أن يذوب في المجتمع الغربي، جعل من الإسلام برنامجاً عملياً في حياة "الشيب والشباب – الرجال والنساء" وكانت له رعاية عجيبة وبرامج نافعة للشباب.

وقد استطاع أن يزاوج ويمازج بين ما عجز عنه غيره، ألا وهو المحافظة على الهوية الإسلامية وصدق الانتماء مع القدرة على الاندماج الإيجابي الفاعل في المجتمع الغربي.

فإن تحدثت عن توفر اللحم الشرعي المذكى (الحلال) فله بعد الله الفضل

وإن تحدثت عن صروح إسلامية "من تمويل الجالية" فله بعد الله الفضل

وإن تحدثت عن دورات شرعية فله قصب السبق في ذلك

وإن تحدثت عن كون المسلمين أصبحوا رقماً مهماً وصعباً في المعادلة فله القدح المعلى

وإن تحدثت عن تنوع في الجهود والنشاطات فهو مبدعها

وإن تحدثت عن ترجمة كتب إسلامية لدعوة القوم فهو رائدها

ولو أن جدران الجامعات وأروقة المنتديات بل حتى شوارع الدانمارك، لو أنها تحدثت لقالت بصراحة أنني أفتقد لصوت الشيخ أبي اللبن – رحمه الله-.

خالفه بعض المسلمين ولكن الجميع يقول عنه " نحن نرى أن الرجل صادق وغيور وصاحب جهد وثقافة عالية ودين"، فالكل يقر بفضله وأنا أجزم اليوم أن المسلمين يشعرون باليتم بعد موته رحمه الله، كيف لا ؟ وهو الذي كان يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، هو الذي يعرفهم فرداً فرداً في مناطقهم وليس فقط في محلته، كيف لا ؟ وقد كان لهم أكثر من كونه لنفسه أو حتى عياله، فلم تجذبه عائلته بل هو الذي جذبها فأصبحت أسرته كلها منصهرة في العمل الإسلامي المبارك.

كنت أشفق عليه لأنه كان يقضي في عمله " محتسباً متطوعاً " أكثر مما يقضي مع أهله، كل المناطق تشهد له زمن القحط " الدعوي " أنه كان يأتيهم فيقيم عندهم معلماً، ناصحاً ومرشداً اجتماعياً ... .

الجميع سيعرف قيمة هذا العملاق بعد فقده " وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ".

حتى أعداؤه من الكافرين والمنافقين يحترمونه لأنه فرض ذلك، برحابة صدره وسعة علمه وبعد أفقه، لقد كان رحيماً حريصاً عطوفاً معلماً لمحبيه، ومشفقاً ناصحاً غيوراً على معارضيه.

والله إن المصاب جلل وإنا على فراقك يا أبا عبد الله لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا : إنا لله وإنا إليه راجعون.

عزاؤنا في أمور :

-        إننا نظن أن ما له عند ربه خير وأفضل وأحسن له مما في هذه الحياة الدنيا.

-        عندما نتألم لفقده نذكر مصابنا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيواسينا ذلك ويعيننا على الصبر.

-   عزاؤنا أن الرجل قدم لدينه وأمته كل ما يملك، بل قدم لهم حتى بعد مماتهم، فإن المقبرة الإسلامية التي ووري فيها الثرى عصر يوم الجمعة هي من ثمرات جهده وبركات جدّه فقد ناضل من أجلها أكثر من عشر سنوات وها هو اليوم من أوائل من دفن فيها رحمه الله.

-   مما يعزينا أن الأمة الإسلامية كريمة ولاّدة ولا يدرى أولها أو آخرها خير فإن الله سيقيّض لهذه الأمة من يستمر في هذا الدرب.

-        ما يعزينا أنه ربى أناساً نرجو أن يكون من بينهم من يكمل مسيرته، ويسير على دربه.

والله لو بقيت أتحدث عنه الساعات الطوال لما كفتني ولا يسعني في الختام إلا أن أتوجه إلى الله العلي القدير بأن يتغمده بواسع رحمته وأن يعلي منزلته في الصالحين.

اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله، اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، اللهم أكرم نزله ووسع مدخله واجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم اغسله من خطاياه بالثلج والماء والبرد، اللهم جازه بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفرانا، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها، اللهم عظّم أجورنا وأحسن عزاءنا فيه وألهم أهله وذويه ومحبيه والمسلمين الصبر والسلوان واجمعنا به في جنات النعيم، اللهم آمــــــــــين.

أخيراً، إخواني المسلمين في الدانمارك، لم أتحسر لحظة واحدة على مغادرتي الدانمارك إلا في هذه اللحظات التي كنت أتمنى أن أكون فيها إلى جواركم بل إلى جواره – رحمه الله – أصبره وأواسيه خلال مرضه، وأقوم بواجبي نحوه من عيادته ثم بعد موته من الصلاة عليه وشهود جنازته بل والقيام على قبره للدعاء له والوقوف إلى جانب أهله وإلى جانبكم مواسياً ومصبراً، ولكن حمدت الله أني لم أكن لأنني أخشى أن أكون أكثر حاجة لمن يصبرني.

وإني أوصي إخواني المسلمين أن يبقوا على الدرب الذي رسمه وأن يحققوا حلمه بوحدة المسلمين وعدم التنازع بينهم وأن يرتقوا إلى مستوى المسؤولية ليكونوا دعاة إلى الله بحق بمقالهم وحالهم وإني أتقدم من الجميع ومن أفراد أسرته الكرام ومن تلامذته ومريديه ومحبيه بخالص العزاء سائلاً المولى الصبر لنا جميعاً والرحمة العظيمة له، إنه جواد كريم.

 

أخوكم

رائد شفيق حليحل

المصاب بوفاة الشيخ أحمد أبو اللبن رحمه الله

1
4467
تعليقات (0)