عبدالله العمري
لقد كنت أحد المتابعين للجدل الذي كان يدور حول استثناء شركة آرلا من المقاطعة ، ووصلت إلى قناعة معينة ، أحببت ذكرها ، بيانا للحق الذي أراه ظاهرا بأدلته .
علما بأن بيانات اللجنة وتوصياتها كانت واضحة شافيةً ، ولكن لا بأس من زيادة البيان والإيضاح:
· الاستمرار في المقاطعة :
إن مما تؤكد اللجنة عليه هو الحث على الاستمرار في المقاطعة لجميع الشركات الدانمركية باستثناء شركة (آرلا) ولاشك أن اعتراض الغيورين على استثناء شركة (آرلا) أدى إلى جعل فئام من الناس تحسب أن المقاطعة انتهت تماما , بل قد وجهت اتهامات للجنة من بعض الغيورين بأنها أنهت المقاطعة مطلقا , مع أن بيانات اللجنة كانت صريحة في إنهاء الحصار عن شركة آرلا فقط والاستمرار بالمقاطعة لباقي المنتجات الدانمركية , وهذا هو الذي لازالت اللجنة تنادي به وتصر عليه .
· الفوائد المستفادة من إنهاء المقاطعة مع شركة آرلا الدانمركية:
لقد كان من أهم ما ترجوه اللجنة من رفع المقاطعة عن شركة آرلا الدانمركية : خلخلة الصف الدانمركي ، وإسماع الدانمركيين رأي المسلمين بالصوت الدانمركي ، ولفت أنظارهم إلى أن حرية التعبير ليست قيمة فوق كل القيم ، لا عند المسلمين فقط بل عند فئام من الدانمركيين أنفسهم . وهذا كله ما قد حصل فعلا ! فإن براءة واستنكار شركة آرلا من نشر الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحرج الحكومة الدانمركية أيما إحراج وزرع في صفوفها بوادر النزاع وفك يدهم عن الاجتماع , بل هذا ما جعل الحكومة تشير بأصابع الاتهام لشركة آرلا ، كما جاء في صحيفة (اليولاند بوسطن) على لسان رئيس الحزب الحاكم (يسري فودة). أنهك الحكومة الحالية وبالغ في إضعافها وقد ظهر ذلك جليا في استطلاعات الرأي التي أجريت في أكتوبر الماضي , من أن حزب الشعب الحاكم سيفقد حوالي ستة مقاعد في البرلمان ,وربما يتم عزله وتركة بدون أي تأثير في الحياة السياسية وبات الجميع يرقب حزب الشعب وهو يتراجع إلى مجرد أقلية عنصرية معزولة (كما ذكره / عبد الواحد بيدرسون رئيس المركز الإسلامي في الدانمرك كما مقال له نشرته اللجنة). ومن الثمار الظاهرة ذلك الأثر الايجابي على المسلمين في الدانمرك خاصة بعد قدوم وفد من مسلمي الدانمرك يطالب باستثناء شركة آرلا وقد كان للاستثناء الأثر الطيب عليهم بعد أن كان ينظر إليهم تلك النظرة السيئة و يصورهم الإعلام الدانمركي على إنهم مؤججو نار فبدا للجميع أنهم عناصر إطفاء بل ظهروا وهم أصحاب حق , ولا يغفل عن الأثر الدعوي بإنهاء المقاطعة مع شركة آرلا حيث علم الأوروبيون أن المسلمين لا يعادون إلا من يعاديهم وأنهم لا يبتدؤن بالعداء على أحد مالم يتعد عليهم أحد و أنهم يسالمون من سالمهم وأن دينهم دين رحمة وعدل.
كانت هذه بعض الثمار التي تحققت ولله الحمد من ذلك الاستثناء، ومن الثمار المرجوة من ذلك الاستثناء حث باقي الشركات المتضررة على الاعتذار والاستنكار ومدّ يدِ المصالحة مع المسلمين وهذا لحد ذاته مكسب كبير لو وقع، وهذه الثمار هي من رفع الحصار عن شركة (آرلا) فقط، فكيف لو اعتذرت باقي الشركات !!
· لماذا شركة آرلا تحديدا:
إن استثناء شركة آرلا تحديدا كان لأمور رأتها أمانة مؤتمر النصرة ، من أوضحها:
أن الاعتذار الذي تقدمت به الشركة كان حريا أن لا يُساويها بالشركات التي لم تستنكر , فلا يعقل أن يُساوَى بين المستنكر وغيره ، ومن وقف في صف المسلمين ممن ليس كذلك , مع ما قامت به من ضغوط على الحكومة الدانمركية لحثها على الاعتذار كما جاء في صحيفة (اليولاند بوسط) , وأضافت الصحيفة قولها أن شركة آرلا بالغت في بيان حجم الخسائر الناتجة عن المقاطعة لإرغام الحكومة على الاعتذار , والأهم في الموضوع هو تصريح شركة آرلا بأنها ستبذل ما بوسعها لمساعدة المسلمين في كل ما من شأنه أن يعيد لهم اعتبارهم ويحقق لهم احترامهم لدينهم وهذا عمل لا ينبغي لمسلم ولا عاقل التغافل عنه فضلاً عن إعلان شركة آرلا عقد مؤتمر عالمي للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدانمرك بمشاركة عدد من علماء المسلمين في هذا المؤتمر.
ولا يخفى ما حصل لشركة (آرلا) بسبب هذا الموقف من وقوف الحكومة الدانمركية وصحافتها في وجه شركة آرلا وقد برز ذلك ظاهرا خاصة في خطاب رئيس الحزب الشعبي الحاكم من شركة آرلا وإنها لا تمثل الحكومة ووصفتها بأنها ركعت للمسلمين وأنها باعت القيم الدانمركية فضلا عن اتهام الصحف الدنمركية وسخريتها بشركة (آرلا) خاصة صحيفة (اليولاند بوسط) التي نشرت الصور فقد وصفت شركة آرلا بأنها (تبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم) والاستهزاء باعتذاراتها للمسلمين وأنها تبيع الحرية بلترين من الحليب في مقال بعنوان : (2 لتر حليب = الحرية) .
ولم تسلم (آرلا) حتى من الجمعيات الدنمركية ، فقد طالبت الجمعيات النسائية خاصة جمعية (كارن هالبيرغ ) لشركة آرلا بالاعتذار لأنها وصفت الدين الإسلامي : بالعدل والسماحة .
فضلا عن الدعوات في الدانمرك إلى مقاطعة منتجات شركة (آرلا), وقد شنت هذه الحملة رئيسة جمعية نساء الحرية (فيبك مانيش) .
إن العدل والإنصاف الذي أمر به الإسلام وحث عليه هو ما يجعل المسلم لا يألو جهداً في الوقوف مع من وقف مع المسلمين في خندق واحد فأين قوله تعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المائدة/8]
ويكفي أن نعلم إن شركة آرلا قد توجهت بالخطاب إلى العلماء والدعاة الذين اجتمعوا في البحرين مما يجعلهم أمام إلتزام أدبي قد يحسب إما لهم أو عليهم سلبا أو إيجابا وقد ربحوا في ذلك أيما ربح ولله الحمد.
· مفاهيم خاطئة عن أثر المقاطعة على الدانمرك :
ظن الكثير أن المقاطعة ستؤدي إلى إركاع الحكومة الدانمركية وأن منتجات الألبان تمثل 90% من اقتصاد الحكومة الدانمركية، وهذا كله غير صحيح , لأنه غير مبني على دراسة ، بل إن الدراسة العلمية أثبتت أن صادرات الدانمرك من منتجات الألبان تمثل نسبة ضئيلة من دخل الاقتصاد الدانمركي , فهل الاستمرار في المقاطعة سيؤدي لإركاع الحكومة الدانمركية اقتصادياً مع ضآلة أثر شركة آرلا على عموم الاقتصاد الدنمركي؟! وصلابة موقف الحكومة الدانمركية في الأزمة الأولى مع تصريحها عدة مرات بعدم تضررها من المقاطعة التضرر الذي سيؤدي إلى تغيير موقفها وسياستها تجاه المسلمين وقضاياهم ، هو ما أيدته الدراسة التي قامت بها اللجنة ، فأدت إلى قناعة صحيحة ، تقول : إن إنهاء المقاطعة مع آرلا سيُحدث من الفوائد في سبيل نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ما لن يُحدثه استمرار المقاطعة معها .
فكيف يصح أن نوازن بين رأي مبني على مجرد ظنون وخيالات لأثر المقاطعة المتوقَّع ، لا يعتمد على دراسة لأثرها ولا تصوُّر قريب من الواقع الدانمركي ، ورأي مبني على علم ودراسة وتصوُّر مُدرِكٍ للواقع الدانمركي .
· الوقوف في وجه استثناء شركة آرلا :
إن الوقوف في وجه استثناء شركة (آرلا) من بعض الغيورين كان له الأثر الكبير في إضعاف الثمار والأهداف المرجوة من إنهاء المقاطعة مع شركة آرلا , كمنع باقي الشركات الدنمركية المتضررة من تقديم اعتذار للمسلمين واستنكار فعل حكومتهم , مع إسقاط اعتذار شركة (آرلا) , و إغفال المسلمين عن الاستمرار في مقاطعة باقي المنتجات المتفق على مقاطعتها, وما سبب فعلهم ذاك إلا أمور لو استبان الواحد منهم عنها لوجد الجواب واضحا و الحجة شافية والبرهان جليا , بدلاً من كيل التهم وتوجيه اللوم وسوء الظن , وزلة اللسان ليست كزلة القدم , ومنهم من ظن أن المقاطعة للمنتجات الدانمركية هي الوسيلة الوحيدة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً وراءه عدداً من الطرق لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم كما نشر في رسالة(100طريقة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم) , ومنهم من ظن أن المقاطعة سوف تُركع الحكومةَ الدانمركية مع أن صادرات الدانمرك الاستهلاكية للشرق الأوسط لا تمثل سوى 10% من اقتصاد الحكومة الدانمركية , ومنهم من ظن إن شركة آرلا لها نصيب الأسد من الاقتصاد الدانمركي من العلم أن منتجات الألبان لا تمثل سوى 3% من اقتصاد الحكومة الدانمركية فكم سيكون نصيب شركة آرلا منها , أيضا وجود شركة آرلا الظاهر في أسواق الخليج جعل بعضهم يظن إن المقاطعة انتهت تماماً مع إن اللجنة لازالت تنادي بالاستمرار في المقاطعة لجميع المنتجات الدانمركية , ولعل من اكبر أسباب الوقوف في وجه الاستثناء الانسياق خلف العواطف و عدم العلم بجميع ملابسات القضية وكما لا يخفى على عاقل الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
هدى الله الجميع لما يحب ويرضى
· حاجة المقاطعة إلى إدارة :
لا يخفى على من آتاه الله عقل ورشد حاجة المقاطعة إلى إدارة تضمن لها صحة سيرها وتحقق لها ما تصبو إليه من نجاح وانتصار لتؤتي أكلها بإذن الله , وكما قال الشاعر :
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم ســــادوا
إذ إن المقاطعة بدأت شعبية بدون هدف فكان لابد من تهديفها ومن إدارتها , ولا يتصور وجود مشروع ناجح من غير إدارة تديره وتخطط له وتقدر لكل أمرٍ قدره ولكل مرحلة ما يناسبها, بدلا من أن يقود المقاطعة من يستغلها استغلالاً سيئاً لتحقيق مآرب الله اعلم بها , كما فعلت بعض الشركات عندما أخرجت نشرات بالمنتجات الدانمركية وتم إدراج منتجات ليست دانمركية من قبل منافسيها , ولكن ما ذا لو استمرت المقاطعة بغير إدارة فما مصيرها و ما النتائج المرجوة منها ,إذ لن يخرج مصيرها عن أن يصير إلى إحدى ثلاثة أمور :
1- أن يكون حالها كباقي المظاهرات التي تثور عاطفيا وسرعان ما تخمد وهذا حال العواطف والأمور الوجدانية , كمقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية قبل أعوام التي تنادى بها العالم الإسلامي , واليوم هي أثرا بعد عين , فالأمور المبنية على مجرد العواطف دون إدارة واضحة الأهداف لا يقول أحد أنها ستبقى وتتوارثها الأجيال ! هذا لا يتصوره أحد.
إذن لابد من وضع هدف يُحرص على أن يكون هدفا ممكنا ومحقِّقا لوجه من وجوه النصرة ، وإلا فستفتت المقاطعة مهما طال الأمد دون فائدة .
2- أن تبحث ا لشركات الدانمركية عن أسواق أخرى في غير الدول التي تضررت فيها من المقاطعة من دول الشرق الأوسط ، كإفريقيا وأمريكا الجنوبية و أوربا وشرق آسيا أو غيرها لتعويض ما لحق بها من خسائر وإيجاد سوق بديل غير السوق الحالي , وان كان هذا ولا شك مما يكلفها الكثير , لكنه الحل الذي لابد منه إذا ما استمرت المقاطعة , وهذا الحل وان تأخرت نتائجه الربحية على الشركية , لكنه الحل الأخير الذي ستلجأ إليه الشركة , والذي ليس من صالحنا ، لا من جهة حاجتنا لمنتجات شركة ما ، ولكن من جهة أننا سنخرج من استمرار المقاطعة بلا فائدة ، فلا ركعت الحكومة الدانمركية أمام مطالبنا ، ولا ألحقنا الأذى الذي يشفي غيظنا بمن آذانا !!
علما أن رئيس الحزب الحاكم (يسري فودة) دعا شركة آرلا إلى نقل نشاطها إلى طهران كما نشرته صحيفة (اليولاند بوسطن) .
مع وجود دعوات شعبية في العالم الغربي حينها للحث على شراء المنتجات الدانمركية ، لتعويض الشركات الدانمركية عما لحق بها من خسائر بسبب المقاطعة .
3- التحايل على إدخال البضائع الدانمركية إلى دول المقاطعة وذلك بإحدى طرق التحايل , كإدخالها عن طريق دول أخرى وتغيير المسميات وغير ذلك مما ستجد من يدعمها فيه من دول الإتحاد الأوربي .
· هل انعقد إجماع المسلمين على مقاطعة المنتجات الدانمركية :
كان هذا اعتراض جاء على لسان بعض الفضلاء ولا نعلم ما طريقهم إلى نقل الإجماع في هذا , ولعلهم وقد وقع لهم لبس في ذلك , وإلا فإن الإجماع لم ينعقد أصلا في هذه المسألة ويبين ذلك ويجليه عدة أمور :
1- وجود دول إسلامية لم تقاطع أصلا من اكبر الدول السلامية مثل اندونيسيا التي لم تحصل فيها مقاطعة شعبية كما أعلنت ذلك بعض وسائل الإعلام العالمية وكما هو معروف من واقع المقاطعة في العديد من الدول الإسلامية , فضلا عن باقي الدول التي كانت المقاطعة فيها ضعيفة ولم يكن للمقاطعة فيها ذلك الأثر، وإنما كانت قوة المقاطعة هي في دول معدودة مثل : السعودية و الكويت والإمارات، و إنما وقع الإجماع فعلا من الدول الإسلامية على الاحتجاج على الرسوم المسيئة، فظن البعض أن الإجماع على الاحتجاج إجماعٌ على المقاطعة!
2- وجود من أفتى بعدم مشروعية إيجاب المقاطعة للمنتجات الدانمركية أصلا بغير إذن ولي الأمر، وهو رأي من مرجعيات للإفتاء في العالم الإسلامي .
3- كون المقاطعة لم تكن شاملة أصلاً وإنما كانت شعبيةً منحصرةً في المنتجات الاستهلاكية للدانمرك .
وهنا أحب أن ينتبه بعضُ الأخوة إلى الحقيقة الاقتصادية التالية : أن المقاطعة المؤثرة تأثيرا حقيقيا على اقتصاد دولةٍ لا تكون إلا مقاطعةً حكومية غالبا، خاصة إذا كانت الدولة المقاطَعة قويةً في اقتصادها، لأن المقاطعة الحكومية مقاطعةٌ شاملةٌ لا تقتصر على المنتجات الاستهلاكية التي في متناول يد الشعوب ، بل تتعداها إلى جميع ما تستورده من تلك الدولة من منتجات ومعدات وخدمات كتنقيب عن نفط وشحن بضائع ونحوها. وإنما أغلب ما نرجوه من المقاطعة الشعبية مما له أثر على الدولة المعتدية هو إعلان الاحتجاج والاستنكار لما قامت به من اعتداء، هذا هو أهم أثر للمقاطعة الشعبية على الدولة المقاطَعة إذا كانت دولة قوية الاقتصاد متعددة الموارد لدخلها القومي . فلا يصح أن نعلّق على هذه المقاطعة آمالا ونبني عليها ما هو أكبر منها ، فالاحتجاج والاستنكار الذي هو أثرُ المقاطعة الشعبية (كما قدّمناه) لن يكون له أثر الهزائم العسكريّة في نقض سياسات الدول وتبديل مواقفها التبديل الكلي، أو كما عبّر بعضهم : لن يُركِع تلك الدولة !!
هذه أهم الأمور التي قادتني إلى صحة ما توصلت إليه اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم من تبنيها لرأي إنهاء المقاطعة مع الشركة التي أدانت واستنكرت الإساءة ، وأحببت أن أنصر النبي صلى الله عليه وسلم بنصرة الرأي المدروس الذي يحقِّقُ الانتصار له صلى الله عليه وسلم ، دون الرأي العاطفي غير المدروس الذي لا يحقق شيئا ، إلا في ظنون أصحابه !!!
هدى الله الجميع للحق والهدى ، وجمعنا عليهما !