أ. نبيل زكي
من الذي يسفك الدماء؟
ملاحظات على محاضرة البابا
ماذا قال البابا بنديكت السادس عشر فى محاضرته بجامعة ريجينسبرج فى ولاية بافاريا فى ألمانيا؟
الفقرة التي توقف عندها الناس فى دهشة وذهول، هى: حوار ربما يكون قد جرى فى عام 1391 (القرن الرابع عشر) فى الثكنات العسكرية الشتوية على مقربة من أنقرة بين الإمبراطور والعالم البيزنطى مانويل الثانى ومثقف فارسى مسلم فى موضوع المسيحية والإسلام، والحقيقة المتضمنة فى كل منهما.
وربما كان الإمبراطور نفسه هو الذى سجل ذلك الحوار خلال حصار القسطنطينية بين عامى 1394 و1402 وقد يفسر ذلك سبب ذكر حججه بالتفصيل دون اهتمام بإجابات العالم الفارسى.. ويعالج الإمبراطور موضوع الجهاد – الحرب المقدسة– ومن المؤكد أن الإمبراطور كان يعرف الآية القرآنية (2:256) والتى تقرر أنه لا إكراه فى الدين.. ويلتفت الإمبراطور الى محاوره بشكل مفاجىء وقاس طارحًا السؤال الأساسى فى العلاقة بين الدين والعنف بشكل عام. يقول الإمبراطور: "أرنى ما هو الجديد الذى اتى به محمد.. وسوف تجد أشياء كلها شريرة وغير إنسانية، مثل أمره بنشر الدين بالسيف.. ثم يمضى الإمبراطور شارحًا بالتفصيل الأسبابا التى تجعل من نشر الإيمان بالعنف تصرفًا غير عقلانى لا يتفق مع الطبيعة الآلهية، ولا مع طبيعة الروح: لا يحب الله سفك الدماء، والتصرف غير العقلانى مناقض لطبيعة الله ´عدم الانقياد لما يقوله العقل مناقض لطبيعة الله´.. من أراد أن يهدى إنسانًا ما إلى الإيمان يفعل ذلك بالكلام الحسن من غير قوة ولا تهديد.. ولاقناع روح عاقلة لا يحتاج الإنسان إلى ذراع قوية أو إلى سلاح أيا كان أو وسيلة تهدد الإنسان بالموت".
وإذا نحينا جانبًا العبارة التى يتناول فيها البابا بنديكت ما أتى به الإسلام وما تحدث به عن نشر الدين بالسيف (لأنه من الواضح ان الرجل يتحدث عن جهل وعدم معرفة بمبادىء وتعاليم الإسلام).. فإننا نكتشف الانحياز الفاضح لبابا الفاتيكان ضد العرب والمسلمين.
فالعنف وسفك الدماء وتدمير الدول والحضارات وإبادة البشر.. هو السمة الرئيسية لسلوك وسياسات الغرب الأوروبى والأمريكى.
وبابا الفاتيكان أول من يعرف أن الإسرائيليين يستخدمون نصوصًا من التوراة لتبرير المذابح والمجازر للنساء والأطفال وللعدوان وارتكاب كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية بما فى ذلك اقتلاع شعب بأكمله من أرضه.
وبابا الفاتيكان يعلم أن الرئيس الأمريكى هارى ترومان هو الذى أمر بإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين فى الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية (أغسطس 1945) دون أى مبرر عسكرى لذلك، وسقط مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء المسالمين ضحايا لهاتين القنبلتين.
وكما هو معروف.. فإن الفاشية "سواء الألمانية أو الإيطالية" لم تظهر فى العالم الإسلامى، وإنما فى أوروبا.. لكى تتسب فى قتل عشرات الملايين من الناس فى الحرب العالمية الثانية.
وعندما يقول البابا بنديكت أن الله لا يحب سفك الدماء فإن عليه أن يوجه حديثه إلى الذين شنوا الحروب فى جنوب شرق آسيا وقتلوا الملايين من أبناء كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا ويوغوسلافيا، والذين دبروا انقلابات عسكرية دموية فى أمريكا اللاتينية وقارات أخرى تسببت فى قتل ملايين آخرين من الناس.
المؤكد ان الأحبار تتدفق كل ساعة على مكتب بابا الفاتيكان لإبلاغه ان أمريكا تعكف منذ سنوات طويلة على تطوير أسلحة الدمار الشامل لكى تكون اكثر فتكًا بأجساد البشر وأكثر قدرة على تدمير مدن كاملة، وتخصص لذلك مليارات الدولارات التى تقتطعها من ميزانية برامج التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
ولا شك أن بابا الفاتيكان يعرف أن الولايات المتحدة رفضت التوقيع على قرار تأسيس المحكمة الجنائية الدولية حتى يظل جنودها يتمتعون بالحصانة من أى محاسبة حتى لو أرتكبوا أبشع الجرائم. كما ترفض الولايات المتحدة التوقيع على بروتوكول "كيوتو" لحماية البيئة، لأن هذا التوقيع يتعارض مع مصالح الشركات الكبرى الأمريكية التى تلوث الهواء والماء والطعام لكى تحقق المزيد من الأرباح الفاحشة.
وإذا كان بابا الفاتيكان ينفذ تعاليم الله التى ترفض العنف وسفك الدماء، فإن عليه أن يطلب من مدير مكتبه الأرقام الحقيقية لعدد القتلى فى أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان.. لكى يعرف من الذى.. يسفك الدماء.. وعندها سيكتشف أن اعتداءات 11سبتمبر التى لم نتردد لحظة فى إدانتها وتجريمها.. بمثابة عبث أطفال مجرمين بالمقارنة بجرائم أكبر وأكثر هولا ووحشية.
المشكلة التى يجب على بابا الفاتيكان أن يدرسها هى كيفية التصدى لهؤلاء الذين يستخدمون الدين لأغراض عدوانية صحيح أنه يوجد بين المسلمين إرهابيون مجرمون، يحرفون الآيات ولا يعرفون صحيح الدين.. ولكن الإرهاب ليس له دين. وبابا الفاتيكان يعرف أن هناك إرهابيون من أخطر الأنواع لا ينتمون إلى الدين الإسلامى، ويعرف أن أبناء الديانات عاشوا فى سلام ووئام لقرون فى العالم العربى.
وكان المنتظر من رجل يدافع عن الدين أن ينتفض عضبًا فى مواجهة هؤلاء الذين يستغلون الدين لتحقيق أطماعهم التوسعية، مثل هؤلاء الذين يروجون لفكرة أن عودة المسيح مرتبطة باستيلاء إسرائيل على كل أرض فلسطين وبناء الهيكل.. وهم الإنجيليون الصهاينة فى الولايات المتحدة الأمريكية. وكان المأمول من بابا الفاتيكان أن يكشف القناع عن ذلك الذى يدعى أن الله أراده أن يصبح رئيسًا! "وهو الرئيس جورج بوش الابن".
والمعروف أن الحكومات الفاشية تميل إلى استخدام الدين كأداة للتلاعب بالرأى العام، وهو أمر يجب أن يكون مرفوضًا من جانب "الحبر الأعظم".
ورجل الدين هو الذى يحارب التعصب الدينى ويسعى إلى خلق أجواء التسامح ويعمل على تشجيع التقارب بين الأديان وليس العكس.
أغرب الأمور أن الصورة التى يقدمها البابا بنديكت توحى بأن العنف صفة ملازمة للدين الإسلامى.
وطبقًا لشهادة "ستيفن زونيس" محرر شئون الشرق الأوسط فى مجلة "فورين بوليسى" وأستاذ العلوم السياسية فإن قوات حزب الله – مثلا– لم تقتل أى مدنيين إسرائيليين طيلة أكثر من 12 سنة. بل إن هذا الحزب لم يظهر إلى الوجود إلا بعد أربع سنوات على اجتياح إسرائيل للجنوب اللبنانى واحتلاله عام 1978.
والحقيقة أن بابا الفاتيكان يتحدث بنفس لغة غلاة المتطرفين المتعصبين الذين يهاجمهم، وهو يفسح المجال لإثارة التعصب لدى الجانب الآخر، ويبرهن بذلك على أنه يبحث عن عدو "كما كان سلفه يعتبر الاتحاد السوفيتى عدوه الأول".. ويرى أن مكان هذا العدو الجديد فى العالم الإسلامى.
ولا ندرى إذا كان بابا الفاتيكان يعتبر أن المقاومة الوطنية للاحتلال الأجنبى تندرج فى إطار سفك الدماء الذى يرفضه.. وأن الاحتلال ليس عنفًا وليس سفك دماء بل من الأعمال الخيرية.. فهو لم يوضح موقفه.
ثم.. من أين جاء بحكاية السلاح والذراع القوية إذا كان يعرف الآية "لا إكراه فى الدين"؟
ومن أين افترض أن هؤلاء الذين يخاطبهم الإمبراطور البيزنطى لا يعرفون العقل.. بينما دينهم يكرم العقل ويضعه فى مكانة عالية؟
هل انحاز بابا الفاتيكان إلى مشروعات الحرب فى البنتاجون ويقدم تبريرًا لحروب العراق ولبنان وأفغانستان ولما يستجد من حروب أخرى ضد إيران وغيرها؟ أم أنه وقع فى خطأ ويحاول التراجع عنه وتصحيح موقفه؟