اعتداءات سبتمبر بين يولاند بوستن والفاتيكان

الشيخ رائد حليحل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد...

على أعتاب الذكرى السنوية الأولى والأليمة للرسومات القبيحة المؤذية (سبتمبر الماضي) وقبيل ذكراها بأيام قلائل، وفي وقت لم تندمل فيه الجراح ولم نكد ننسى تلك الإساءة، وكيف لنا أن ننساها وقد كان الجرح عميقا جدا، كيف ننساها وقد مرت تلك الأزمة دون تحقيق المبتغى الأعظم، ألا وهو التراجع أو الاعتذار، الذي يدل على حماية جناب هذا الدين، كيف ننساها ونحن نعلم علم اليقين أنها لم تأت من فراغ، ولم تكن عبثا، بل كانت تعبر عن رؤية مجذرة لدى القوم، وتنم عن حقد دفين في النفوس، بل كانت بمثابة التوطئة لما بعدها.

في وقت حاول البعض أن ينسى فيه أو يتناسى هول ذاك الكابوس الفظيع الذي جثم على صدورنا لفترة طويلة وفي وقت نضع فيه أيدينا على قلوبنا ونحن نقول لأنفسنا هل يمكن أن تستغل الذكرى لتتكرر المأساة أم أنها ستمر والأسى يعتصر الفؤاد والغصة تقف في الحلقوم حزنا وألما، بل وحسرة على العباد إذ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون.

في هذه المعمعة وفي حمأة تلك المعاناة طالعنا مصاب جلل (سبتمبر الحالي) هو حديث ولكنه قديم أيضا. جديد في صورته وطريقته بل وأسلوبه ومصدره، لكنها شنشنة نعرفها. ولا ننكر أن الصدمة كانت كبيرة وكبيرة جدا وذلك لأمور.

أتواصوا به:

ـ رسومات الكاريكاتور قال البعض عنها أنها خرجت من وسط ملاحدة لا يقيمون للإيمان وزنا ولا يعيرون الدين اعتبارا، بينما إساءة اليوم خرجت من كبير القوم وأعظمهم تدينا وأوسعهم علما، فماذا عسانا نقول؟

ـ الرسومات نشرت في صحيفة يطلع عليها الغث والسمين، أما إساءة اليوم فكانت محاضرة علمية هادفة على مدرجات جامعة عريقة وحضرها نخبة المجتمع ومفكروه وقادة الرأي فيه.

ـ الرسومات صاغها فنانون وقديما قيل (الفنون جنون) أما إساءة اليوم فصاغها القديسون عند القوم مما يشعر بقدسيتها عندهم وأنها تعبر لا محالة عن موقف عقدي مؤصل.

ـ الرسومات عبرت بشكل إيمائي وهزلي بينما إساءة اليوم واضحة لا لبس فيها ولا إيماء، وبشكل جدي تماما غير قابل للنقاش. مع علمنا أن الاستخفاف بالمقدسات (هزله جد وجده جد).

ـ قيل لنا بعيد الرسومات لم نقصد إهانتكم ولو شعرتم بها ولم تكن رسوماتناإلا عملا إختباريا لمقياس الحريات في مجتمعنا. واليوم يقال إن بابا الفاتيكان لم يكن يؤصل الكلام عن الدين الإسلامي، بل أساسا عن العقل والإيمان، وكأنه يقول أن إساءة عابرة تكون مبثوثة في ثنايا الكلام أقل من إساءة مقصودة مباشرة. علما أننا لا نسأل الناس عن مقاصدهم إذا كان كلامهم صريحا وواضحا ولا أدري لماذا دائما يكون ديننا هو الحلقة الأضعف ليستدل به، بل قل عليه.

ـ قال يوم الرسومات رعاع الناس ليعطونا درسا في احترام حرية الرأي والتعبير وأنه على المسلمين أن يتحلوا بالصبر ويتقبلوا النقد مهما كان قاسيا وإن شئت قل مهما كان مجانبا للصواب. واليوم يقال نفس الكلام معترضين على الحمية العظيمة لدى المسلمين ومستهجنين لخصلة حميدة عندهم فيطالبون المسلمين أن يتقبلوا النقد كما يتقبله غيرهم. وهنا سؤال ملح يطرح نفسه، هل تعرض غير المسلمين لمثل ما تعرض له المسلمون؟ ثم سؤال لبابا الفاتيكان ما دامت محاضرته عن الإيمان والعقل، ألم يجد في دين من يعبد الحجر أو البشر أو حتى البقر! ما يعارض العقل ليضرب به المثل؟ فلماذا لم نسمع أي تناول لأي دين آخر تحت نفس هذه الحجة الواهية.

ـ ظن البعض يوم الرسومات أن الحل الوحيد هو بالحوار لأن المسيئ جاهل فماذا عساهم يقولون اليوم لا سيما وأن الجهة المسيئة بهذا القدر والمستوى بل هي رائدة الدعوة للحوار منذ زمن بعيد.

إساءة مقصودة:

إن من يقرأ الترجمة الحرفية لكلام أبيهم يجد ـ وبما لا يدع مجالا للشك ـ أن أباهم كان يقصد تماما ما قاله، بل لعل محاضرته أصلا لم تكن إلا لهذا الغرض وقد استعان بكلام البيزنطي ليعبر من خلاله عما يختلج في صدره وإليك أخي الكريم بعض الدلائل من خطابه على ذلك:

1ـ عنوان محاضرته ( العلاقة بين العقل والعنف في الإسلام والمسيحية) فعندما يأتي بحوار بين مسلم ومسيحي وفي نفس الإطار (العقل والعنف) فهل يمكن بعد ذلك أن يقال أن الاستدلال غير مقصود.

2ـ علميا وبالاستناد لأبسط قواعد البحث العلمي فإن الباحث عندما يورد كلاما لمن سبقه غالبا بل دائما يكون ذلك من باب الاستشهاد وتقوية الحجة ليدعم كلامه، اللهم إلا أن يورده ثم يفنده ويرد عليه، وهذا ما لم يصنعه بابا الفاتيكان فلم يبق إلا أن يعد ذلك حشوا فلماذا الامتناع عن حذفه والتراجع عنه.؟

3ـ مما يدل على ميله الشديد ودعمه الأكيد لكلام ( مانويل الثاني ) وصف قائله بصفات التبجيل فقال (ويدل على ذلك أن مناظرته كانت أكثر توسعا من مناظرة محاوره الفارسي). فهو ميال إليه ومعظم له ليشوق السامع إلى تلك الجملة الآثمة.

4ـ عندما يستدل بالآية الكريمة (لا إكراه في الدين) يقول مادحا بل جازما وواثقا من سعة علم الإمبراطور لا شك أنه يعلم أن الآية كانت في فترة ضعف المسلمين، أما عندما قويت شوكتهم فهو يعلم أيضا أن الخطاب تغير. فهو إذا يتهم المسلمين بالازدواجية بل حتى بالمخادعة وطبعا أقول هذا بغض النظر عن مناقشته في زمن نزول الآية لأن ترتيبها في السورة الثانية أشكل عليه. فانظر كيف يزكي ذاك الرجل ويجزم بعلمه ودرايته وبعد ذلك يراد منا أن نصدق أنه لا علاقة بين مراده ومراد البيزنطي.

5ـ إيراده للجملة كان بطريقة تشويقية بل بأسلوب يدلل من خلاله على عمق الفكر والثقافة عند البيزنطي وكأنه يقول لنا إن أمام مانويل مسائل كثيرة كان بإمكانه أن يتحدث عنها، كمعاملة الإسلام للمؤمنين وأهل الكتاب والكفار إلا أنه قال (أعني البابا): وطرح الإمبراطور على نحو مفاجئ على محاوره السؤال المركزي بالنسبة لنا عن العلاقة بين الدين والعنف وذكر جملته الآثمة.

انتبهوا جميعا هذا السؤال مركزي جدا بالنسبة لبابا الفاتيكان... وبعد كل هذا يقال أن الكلام غير مقصود، إنه لعجب عجاب هذا التبرير الذي أراه أقبح من الذنب. والله لكأن محاضرته كلها كانت تتمحور على هذه الجملة.

6ـ ما قاله بعد إيراده لكلام البيزنطي ويعبر عنه بطريقة لا يخفي فيها إعجابه (وقد قال مانويل الثاني إنه ليس من العقل ألا يكون التحاور بالكلمة لأن ذلك سيكون معارضا لطبيعة الرب، قال ذلك من خلال منظوره لصورة الرب المسيحية لمحاورة الفارسي).

أي أن البابا يؤكد ما توصل إليه مانويل من أن الرب عند المسلمين لا يدل إلا على العنف بينما عندهم ـوأطن البابا يوافق مانويل عليه أن صورته صورة الكلمة والحوار فهم يديرون لك الشق الأيسر لتصفعه من وجههم إن ظفرت بالأيمن ـ.

7ـ يا سبحان الله، ألم يجد أستاذ اللاهوت بابا الفاتيكان إلا هذا المحاور (المحارب) ومن حقبة الحروب الصليبية ومع فارس ضئيل الثقافة (كما صوره البابا لنا) ولم يسمعنا بابا الفاتيكان ولو كلمة واحدة إيجابية من هذا الفارس أو حتى جوابا على كلام الأفاك البيزنطي، وبعد كل ذلك يراد إقناعنا أنه لم يرد ذلك وأنه أراد من كلامه تصيوب مسار الحوار؟

بعد كل هذا فإننا لا نقبل هذه الدرجة من الاستخفاف بعقولنا مجددا ليقال لنا لم نقصد إساءتكم بل أنتم من أساء الفهم. فيا سبحان الله كيف نمنع من الاعتراض على شاتمنا.

خطوات الفاتيكان للخروج من الأزمة:

إن المتابع لأزمة الرسومات وكيف حاول أصحابها الخروج منها (ولكن بها) دون تراجع عنها يجد أن الفاتيكان اليوم يتبع نفس الخطوات ففي الوقت الذي يدعي فيه الحرص على الحوار يرفع شعارا آخر لا تراجع ولا اعتذار. وكأن التاريخ يعيد نفسه فالإساءة هي الإساءة والتعاطي في كليهما واحد.

1ـ بعد الإساءة أراد الفاتيكان نفي وقوعها أصلا وكأننا مغفلون لا نفهم ولا نعي فوقعوا في إساءة جديدة (حشفا وسوء كيلة) وهنا لنا أن نعجب لماذا يتخلص الإنسان من الخطأ بخطيئة. وهذا يذكرنا تماما بما سمعناه من اليولاند بوستن (نحن نحترمكم ولكننا لن نعتذر).

2ـ دخلنا في دوامة التأسف عما لحق بالمسلمين من شعور بالإهانة كما فعلت الصحيفة من قبل وسيبقى الجدل قائما حول الفروق اللغوية بين التأسف والاعتذار والتي لن يخرجنا من دوامتها إلا مثل ابن منظور.

3ـ نزل مقال باللغة العربية في جريدة الفاتيكان كمحاولة لامتصاص النقمة وهذا يذكرنا بعمل الصحيفة تماما (الكلمة حرة) وكلا الصحيفتين يقدم على هذا الفعل كسابقة فريدة يجمعهما قاسم واحد (لا اعتذار) وهنا لي أن أتساءل هل تعلم البابا من اليولاند بوستن أم أنهم تواصوا به أم أن كبيرهم الذي علمهم هو الذي أوحى لهم بنفس الخطوات؟!!.

4ـ أعلن الفاتيكان البدء بحملة دبلوماسية كما فعلت الدانمرك من قبل ولكن دون اعتذار.

5ـ تكلم بابا الفاتيكان أخيرا بكلام يعرف القاصي والداني أنه ليس اعتذارا صريحا بل مواربة كما فعلت اليولاند بوستن بمقال لها مازلنا حتى هذه اللحظة لا نعرف أي الترجمات له سنعتمد. والنتيجة واحدة، بدء الانقسام في صفوف المسلمين: فمن أناس ثبتهم الله وقالوا هذا ليس كاف ومن آخرين سارعوا فيهم وأعلنوا أن الحرب قد وضعت أوزارها وكفى الله المؤمنين القتال... ولا اعتذار.

6ـ جاء الدعم مثل المرة الماضية تماما من حامي حمى الديمقراطية كما فعل بالأمس، لكنه في هذه المرة زايد على مقام الفاتيكان عندما شهد له بالإخلاص وعدم الرياء فأعلمنا المستر بوش أنه يرى أن بابا الفاتيكان كان مخلصا في تأسفه. وطبعا من كان بوش معه لا ينبغي له أن يعتذر.

7ـ واكب فعل بابا الفاتيكان فعل أعظم ممن أراد دعمه وتخفيف الضغط عنه كما جرى يوم الرسومات فهاهي صحيفة التليجراف تؤيده وتستهجن طلب الاعتذار منه، وهاهي صحيفة فرنسية تطالعنا بعبارات أصرح عن النبي والإسلام، وهاهو ذا كبير أساقفة أستراليا يشد على يد أخيه ويعضده... ولا اعتذار.

ولن ننسى يوم الرسومات كم حاولت الصحف في شتى بلاد الغرب أن تحاكي اليولاند بوستن وأن تنشر رسوماتها في شتى أنحاء العالم إمعانا منها في عدائها للإسلام، ومشاركة منها لصحيفة الدانمرك في هذه الجريمة حتى تخفف الضغط عنها، وليتفرق الدم بين القبائل.

فهلا استفاد المسلمون من تجاربهم أم أنه لا حيلة لهم إلا المطالبة بالاعتذار وإن طوروا مطالبهم فهم على أتم الاستعداد للحوار؟!!

أما آن الأوان أن نعي ما قاله سيدهم جميعا إنها حرب صليبية ثم ما بينه من كوننا فاشيين. آن الأوان أن نخرج من ردات الفعل إلى الفعل عينه، ومن الدفع إلى الطلب، ومن الهوان إلى العزة، ومن رد الشبهات والأباطيل إلى الدعوة والصبر والجهد الكبير، إذ أن الدرب طويل وإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1
4350
تعليقات (0)