تعليقاً على الدراسة التي أدانت أداء الحكومة الدانمركية

د. الشريف حاتم بن عارف العوني

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد اعتاد المسلمون في العالم الإسلامي أن يصفهم الغربيّون ببعض الأوصاف، واعتاد المسلمون أن لا يُصغي الغربُ إلى دفاعهم عن أنفسهم، واعتادوا أخيراً أن يخرجوا من (حوار الصُّمِّ) هذا بمقدار أكبر من الشعور بالكراهية لهذا العالم المتغطرس، كما اعتاد الغرب أن يخرج بمقدار أكبر من الشعور بالاستخفاف بذلك العالم المتخلّف.

ومن بين تلك الأوصاف التي يكررها الغرب في وصفه للمسلمين: أنهم أمّةٌ منغلقةٌ، لا قدرة لديها على التواصل الحضاري ، من خلال الحوار والتبادل الثقافي والفكري والفني، وغيرها من وسائل التواصل الإنسانيّة .

ولن أحاول الدفاع عن المسلمين هذه المرّة، لكي لا أكرّر (حوار الصُّمِّ) الذي اعتدناه، ولن أقول إن التبادل الثقافي والفكري.. (إلى آخره) إنما يحصل بين أمّتين تعترفان بأن لدى الأخرى منهما ما يُكْمِلُ بناء حضارتها، أمّا أن يقع من أمّة ترى أنها مستغنية عن كل ما لدى الأمّة الأخرى ، فهو لن يكون تبادلاً إلا من جهة ٍ واحدةٍ ، وحينها لا يكون تبادلاً، وإنّما يكون فرضَ قيمٍ وحضارة على قيمٍ وحضارة أخرى .

سأترك هذا الخطاب هذه المرّة جانباً ، ولن أعرّج عليه بغير هذه الإلماحة؛ لأني سأخطو خطوةً إلى الأمام ، وسآخذ بزمام المبادرة ، منتظراً من عقلاء الغرب أن يقدِّروا هذه الخطوة، ليتقدّموا إلينا بخطوة أخرى، عسى أن تتقارب وجهات النظر بيننا!

ذلك أنني سوف اعترف اعترافاً جديداً، بصفتي مسلماً من المسلمين، أُبيّنُ فيه تقصيري في فهم حقيقةِ إحدى القيم الغربيّة بكامل أبعادها، وهي قيمةُ (حرية التعبير). ولاشك أن هذا التقصير الذي أعترف به على نفسي ، وأحسبه يعمُّ كثيراً من المسلمين غيري= نقصٌ وعيبٌ فيمن أراد محاورة الغرب ؛ لأنه لن يستطيع فهم مُحَاوِرِهِ الفهمَ الكاملَ مع نقص تصوّره عن قيمةٍ ربما كانت سبب الاختلاف بينهما في بعض الأحيان.

وفي أزمة الرسوم المسيئة التي نشرتها صحيفة يولاند بوسطن الدانمركية، وآزرتها فيها الحكومة الدانمركيّة، اكتشفتُ قصوراً لديّ في فهم قيمة (حرية التعبير) لدى الغرب، وهي القيمة التي لم أكن غافلاً تماماً عن مكانتها في الثقافة الغربيّة؛ لكني لم أكن أتصورّها بكل معانيها لديهم.

فقد فهمتُ من تلك الأزمة أن حرية التعبير لدى الغرب تفوق في قداستها قداسة الأمر الديني (أو هكذا يقول بعضهم) ، وأنّهم مستعدّون لأجل هذه القداسة أن يؤذوا مشاعر المسلمين جميعهم؛ ليُثبتوا للعالم وللمسلمين مقدار قداسة حرية التعبير عندهم.

وبذلك ازداد فهمي وضوحاً لمقدار التفاوت الكبير لرؤية المسلمين إلى حرية التعبير ولرؤية الغربيين إليها : حيث إن المسلمين يجعلون حرية التعبير قيمةً مقدّسة (مكفولة للمسلم) ما لم تَعْتَدِ على المقدّس الديني؛ لأنهم يرون مفسدة التطاول على المقدّس الديني، تفوق مصلحة حرية التعبير. وأمّا الغرب فيقدِّمُ حرية التعبير على المقدّس الديني، ولكنه لا يقدّمها على مَصَالِحِه الكبرى وعلى ما يُخلّ بأمنه القومي .

هاتان فائدتان استفدتهما من أزمة الرسوم المسيئة!!

كما أني خرجتُ من هذه الأزمة بألمٍ لا يُنسى وجُرح لن يبرأ من التطاول على مقام أحبّ مخلوق لديّ وأعظم إنسان في اعتقادي الجازم : ألا وهو حبيبي رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .

فها هو اعترافي بهذه الحقيقة ، بعد أزمة الرسوم المسيئة.

وبعد أن صدرت الدراسة الرسميّة في الدانمرك ، التي أدانت الحكومة الدانمركية على سوء إدارتها للأزمة، وأنه " كان من واجب رئيس الوزراء أن يتحاور مع سفراء الدول الإسلاميّة " كما جاء في نصّ الدراسة؛ نريد أن نعرف بعد ذلك: من هو الذي كان منغلقاً فاقداً لسُبُلِ الاتصال الإنسانية من الحوار والتبادل والثقافي...؟!

أحسب أن الاعتراف التالي يجب أن يخرج من الحكومة الدانمركية ، والتي تمثّلُ أكثر الحكومات الغربيّة: فينبغي أن تعترف بأنها حكومةٌ منغلقة عن الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى، وإلّا لما رفضت مجرّد إجراء حوار عالي المستوى مع سفراء الدول الإسلاميّة، وهو الأمر الذي أخذته الدراسة الرسميّة لهذه الحكومة نفسها على أداء الحكومة ورئيس وزرائها كما سبق.

وهذا الموقفُ والاعترافُ المنتظر قد يعينُ على بداية انفتاح الأذهان لمسائل عديدة، منها مراجعة كثيرٍ من الأوصاف التي اعتاد الغربيون وصفَ المسلمين بها، والتي اعتادوا أن لا يُلقوا بالاً لدفاع المسلمين عن أنفسهم حيالها، التي قدّمتُ بها هذا المقال؛ لأن الانغلاق وعدم الحوار وعدم قبول التبادل الثقافي وعدم فهم الآخر...(إلى آخره) كانت تُهَماً و أوصافاً لا تكاد تفارق تصوّر كثير من الغربيين عن المسلمين، فإذا بهذه الأزمة تُظهر عكس ذلك تماماً!!

فهل نبدأ عهداً جديداً من محاسبة النفس، ومن ترك التعالي الذي يمنع من رؤية الحقيقة ؟!!

هذا مايرجوه كل من يتمنّى أن يسود التفاهم بين العالم، بدلاً من أن يتسلط القويُّ على الضعيف، ثم لا يفتأ أن يسوّغ لنفسه هذا التسلُّط ، لكي يخدِّر مشاعره ويخادعَ ضميره الذي يؤنبه على تصرّفاته اللاإنسانيّة .

هذا رجاءٌ صادقٌ، أتمنى أن يكون موجوداً لدى القادة و أصحاب القرار والفكر الغربيين !

1
4292
تعليقات (0)