د. جمال الحسيني أبوفرحة
لقد أعلن كثير من المفكرين ورجال الدين المسيحي واليهودي إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما يجدونه عندهم في كتبهم من البشارة به صلى الله عليه وسلم؛ ولما رأوا عليه من أعلام النبوة؛ إلا أنهم لم يعلنوا إسلامهم، وظلوا على دياناتهم يهودًا ونصارى.
وذلك أنهم ظنوا أحد ظنين:
• الأول: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم – إنما بعث للعرب وحدهم دون غيرهم؛ اعتمادًا على فهم خاطئ لهم لبعض النصوص القرآنية التي تتحدث عن إرساله - صلى الله عليه وسلم- للعرب.
• الثاني: أنهم ظنوا أن لهم الخيرة في اتباع أي من شرائع السماء، ولم يعترفوا بعقيدة نسخ الشرائع.
ومن أشهر هؤلاء قديمًا: أبو عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، وفرقته من اليهود المسماة بالعيسوية.
أما في عصرنا الحديث فهؤلاء أكثر من أن يحصوا عددًا؛ فمنهم: باول شفارتزيناو: أستاذ الثيولوجيا البروتستانتية وعلوم الأديان بجامعة دور تموند بألمانيا، ومنهم كانون ماكس وارن: سكرتير جمعية التبشير الكنسية التابعة للطائفة الإنجيلية؛ ومنهم الشاعر الفرنسي لامارتين، والروائي الروسي تولستوي، وغيرهم كثر.
وهناك آخرون لم يؤمنوا بنبوته - صلى الله عليه وسلم – ولكنهم احتجوا بنفس النصوص القرآنية التي احتج بها المقرون من غير المسلمين، وبنفس تفاسيرهم الباطلة لها؛ دحضًا للحق، وتلبيسًا علينا، وصدًا عن ديننا، وحصرًا له بين العرب.
وحقيقة الأمر أن القرآن الكريم ليس به آية واحدة تدل على اختصاصه بالعرب كما يدعي هؤلاء؛ وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش، وليس هذا مناقضًا لهذا، كما فيه إثبات رسالته إلى أهل الكتاب كقوله تعالى: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا" النساء:47 بل وفيه إثبات رسالته للعالم أجمع كقوله تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا" الأعراف:158.
وليس هذا التخصيص منافيًا لذلك التعميم، وليس خطابه لطائفة ودعوته لها مناقضًا لخطابه للأخرى ودعوته لها.
فقوله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم-: "لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون" القصص: 46 أو قوله: "لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون" يس:6 لا يقتضي أنه لم يرسل إلا لهذا بل مثل هذا مثل قوله تعالى: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهم لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا" الطلاق:12 فأخبر تعالى أنه خلق العالم العلوي والسفلي ليعلم العباد قدرته وعلمه، ومع هذا فلا شك أن في ذلك من الحكم الأخرى كثير.
وكذلك مثل قوله تعالى: "ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى" النجم:31 ومعلوم أن في ملك الله حكمًا أخرى غير جزاء المحسن والمسيء.
وأيضًا مثل قوله تعالى: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها" الأنعام:92 ومعلوم أن في إنزال القرآن حكمًا أخرى مثل تبشير من آمن به، والأمر والنهي.
وكذلك مثل قوله تعالى: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا" القصص:8 وليست العاقبة منحصرة في ذلك، بل في ذلك من الحكم الأخرى كثير: كالإحسان إلى موسى، وتربيته ...الخ.
ومثل ذلك كثير في كلام الله عز وجل، وغير كلام الله؛ إذا ذكر حكمة لفعل لم يلزم أن لا تكون له حكمة أخرى، ولكن لا بد لتخصيص تلك الحكمة بالذكر في ذلك الموضع من مناسبة، فمثلا في قوله تعالى: "لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم" يس:6 كان تخصيص هؤلاء بالذكر لا لانتفاء إنذار من سواهم، ولكن لأنهم أول المنذرين وأحقهم بالإنذار، وما زالت العقلاء في مخاطبتهم يتكلمون فيما يوجد سببه، ويسكتون عما لم يتعين سببه، وإن كان المذكور والمسكوت عنه حقين واقعين، ولما كان المقصود إظهار المنة على العرب خصوا بالذكر، ولما كان أيضًا المقصود في موضع آخر تنبيه بني إسرائيل وإرشادهم خصوا بالذكر، وخصصت كل فرقة من اليهود والنصارى بالذكر ولم يذكر معها غيرها في القرآن في تلك الآيات المتعلقة بهم وهذا شأن الخطاب أبدًا.
وأما قوله تعالى: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته" آل عمران:164 ، وقوله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" التوبة:128؛ فزعم هؤلاء أن المراد من قوله: (من أنفسهم) في الآية الأولى، وقوله: (من أنفسكم) في الآية الثانية، أي من العرب، ثم زعموا أن في ذلك برهانًا على اختصاص رسالته – صلى الله عليه وسلم- بالعرب وحدهم دون غيرهم.
وقولهم باطل؛ فهذا في عمومه نزاع؛ فإنه إما أن يكون خطابًا لجميع الناس ويكون المراد: إنا بعثنا إليكم رسولا من البشر إذ كنتم لا تطيقون أن تأخذوا عن ملك من الملائكة، فمنّ الله عليكم بأن أرسل إليكم رسولا بشريًا؛ قال تعالى: "وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون" الأنعام9:8 ؛ وإما أن يكون الخطاب للعرب، وعلى التقديرين، فإن ما تتضمنه الآيات ذكر إنعامه على المخاطبين بإرساله رسولا من جنسهم سواء كان المخاطبين هم العرب أو البشر، وليس في هذا ما يمنع أن يكون مرسلا إلى غيرهم أيضًا؛ فحتى وإن كان الخطاب للإنس كلهم فهو أيضًا مرسل إلى الجن وهو ليس من جنسهم؛ قال تعالى: "قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا" الجن2:1 . (وللحديث بقية)
د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
gamalabufarha@yahoo.com