من نماذج التفسير المسيحي للقرآن الكريم

د. جمال الحسيني أبوفرحة

يقول تعالى: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" آل عمران:55.

وقد كانت هذه الآية مثار كثير من الشبهات، ومنطلقًا للعديد من الادعاءات.

ففهم منها بعض القارئين أن القرآن الكريم هنا كالكتاب المقدس يقول بموته عليه السلام؛ مخالفين بفهمهم هذا قوله تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينًا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا" النساء: 157- 158

وفهم منها بعض المسيحيين أن القرآن يشهد على صحة دينهم إلى يوم القيامة؛ وطعنوا بها في القول بنسخ شريعة الإسلام لشريعتهم؛ وقالوا: إن القرآن قد فرق بين أتباع عيسى - عليه السلام- والذين كفروا؛ فأتباعه بنص الآية قد تمايزوا عن الذين كفروا وتباينوا عنهم بأن جعلهم الله فوقهم إلى يوم القيامة؛ وقالوا إن الله لا يؤيد الكافر ولا الفاسق.

وفي الرد على الشبهة الأولى قال جماعة من العلماء منهم الضحاك والفراء في قوله "إني متوفيك ورافعك إلي" إنه على التقديم والتأخير؛ لأن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء في آخر الزمان؛ كقوله" "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزامًا وأجل مسمى" طه:129 والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لزامًا؛ وكقول الشاعر: (ألا يا نخلة من ذات عرق ....عليك ورحمة الله السلام)، أي عليك السلام ورحمة الله.

وقال الحسن وابن جريج:معنى متوفيك: قابضك، ورافعك إلى السماء من غير موت؛ مثل قولنا: "توفيت مالي من فلان، أي قبضته.

وعن الربيع بن أنس: هي وفاة النوم؛ قال تعالى: "وهو الذي يتوفاكم بالليل" الأنعام:60أي: ينيمكم؛ والصحيح والذي عليه الجمهور: أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة النوم.

وردًا على الشبهة الثانية: قال جماعة من العلماء: إن الوقف تام عند قوله: "ومطهرك من الذين كفروا"؛ وقوله: "وجاعل الذين اتبعوك" أي يا محمد، وقوله: "فوق الذين كفروا" أي بالحجة والبرهان.

وعلى أن المراد هو عيسى في قوله: "وجاعل الذين اتبعوك"؛ فالمسلمين لا النصارى هم الذين اتبعوا عيسى عليه السلام؛ لأن النصارى بدلوا دينهم، ولا يعرفون شيئًا عن عيسى المذكور في الآية؛ وإنما مسيحهم الذي يؤمنون به فيسمونه "يسوع" لا "عيسى" ويعبدونه فهو عندهم الله نفسه أو ابنه لا نبيه فتعالى الله عما يقولون؛ والمسلمون هم الذين اتبعوا الهدى الذي شرعه الله لكل الأنبياء؛ يقول تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" الشورى:13، ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي" رواه البخاري وأبو داود وأحمد.

وأرى أنه لا مانع من أن يكون المراد من قوله: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة": أي الذين اتبعوك يا عيسى عند نزولك في آخر الزمان؛ ويشهد لهذا التفسير سياق الآية الذي يتحدث عن عيسى عليه السلام ورفعه؛ فكأن الآية: "يا عيسى إني ........ رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا [ومنزلك ومتوفيك] وجاعل الذين اتبعوك [عند نزولك في آخر الزمان] فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة".

ويشهد لهذا التفسير, وأن الآية تتحدث عن أناس من المسلمين لما يأتوا بعد، أن كل من اتبع عيسى عليه السلام ، أو ادعى ذلك الاتباع بأية صورة كان، لم يجعله الله تعالى فوق أعدائه دائمًا في العز والغلبة؛ وهذه هي شهادة التاريخ اليقينية عند كل أحد.

والله أ علم

د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
gamalabufarha@yahoo.com

1
4286
تعليقات (0)