أيعقل أن تعظم شركة آرلا مؤتمر البحرين أكثر من بعض المسلمين1

الشيخ رائد حليحل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين وبعد:

لقد تنامي إلى مسامعي في الآونة الأخيرة انتقادات لتوصية المؤتمر العالمي لنصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي قضت بضرورة إيقاف المقاطعة عن منتجات شركة (آرلا) والملاحظ أن الناقدين على ضربين.

الأول:

علماء أفاضل وأجلاء، نحترمهم ونحترم رأيهم إلا أننا نرى أنهم لم يستجمعوا كل ملابسات القضية، ولم يعوا تفاصيل الواقع الغربي السائد مما جعل نظرهم قاصرا وبالتالي ما نراه هو خطأ اجتهادهم.

الثاني:

أناس وكأنهم يتصيدون بالماء العكر، لصالح حسابات خاصة فلا أملك لهؤلاء إلا الدعاء لهم بالرحمة والهداية وأذكّرهم قائلا (ما هكذا يا سعد تورد الإبل).

ولكن عموما فإنني أقدر وبشكل كبير المشاعر الجياشة والعواطف العارمة، والحب الكبير لشخص النبي المصطفى والحرص على توظيف كل الإمكانات وقد تصور البعض أنها محصورة بالمقاطعة فقط والاستفادة من كل ما من شأنه رد الاعتبار لمقام النبي المختار، إلا أنني أرى أن العاطفة وحدها، ليست الخيار الأفضل، بل لا بد من ضبطها بمعيار الشرع الذي حث على تحقيق مناط أي حكم، والنظر في الواقع، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

ولمعرفة المرجحات لرأي المؤتمر العالمي ولجنة المتابعة المنبثقة عنه، لا بد من الرجوع إلى الوراء قليلا، ولا بد من الإجابة على أسئلة مهمة تسلط الضوء على خفايا الأمور: تحديد المسيء؟ من هو، ومن دعمه وأيده وسانده؟ من الذي برر الإساءة ودافع عنها؟ ومن الذي عارضها وبذل ما يمكنه لإضعاف أهلها؟ ما العمل المطلوب من شرائح المجتمع الدانمركي على اختلاف أطيافه؟

سنجد، وبشكل واضح أن الذي تولى كبر القضية هي جريدة (اليولاند بوسطن) التي نشرت الرسومات المسيئة في 30/09/2005 للميلاد، وهي جريدة مستقلة، حرة وإن كانت قريبة جدا في ميولها من التيار اليميني الحاكم ولا يتعب المتابع كثيرا ليرى مدى التناغم الكبير بينهما، ولكن لم يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل تعاملت الحكومة مع القضية بشكل أشعر المراقبين بأنها متواطئة، متعاونة، موافقة، غير كارهة ولا عابئة ولا حتى ممتعضة من عمل الصحيفة؟ وبالتالي أصبح للجريدة شريكا ألا وهو الحكومة الحالية. وبقى الشعب على الحياد بحجة أن ثقافته لا توجب عليه التدخل في هذه القضية فظهر بمظهر اللا مبالي.

ومرت الأيام، بل الشهور وكأن شيئا لم يكن -وهذا للأسف على صعيد العالم الإسلامي- ولحكمة يعلمها الله مرت ثلاثة شهور ونصف، وبعدها هبت العاصفة التي لا يستطيع أحد -مهما كان دوره- أن يدعي فضل تأجيجها، إذ الفضل لله وحده، إظهارا لكرامة المصطفى ومقامه الكريم واللافت للانتباه أن عامة الناس هم الذي أخذوا قرار المقاطعة، مستبقين الفتاوى من العلماء، ولا شك أنه كان عملا مهيبا، أحيى في الأمة الأمل من جديد، فهي أمة قال عنها قائدها أن خيرها لا ينقطع، يكفي في تلك الهبة العارمة أنها دلت، بما لا يدع مجالا للشك، على أن الأمة محبة ومعظمة وموالية لنبيها وإمامها وأسوتها وقائدها، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم. ومرت الأيام ولا بد لنا أن نلقي نظرة فاحصة على واقعنا كمسلمين داخل الدانمرك وخارجها لنجد التالي، والذي لا يليق بنا تجاهله عند حكمنا.

على صعيد الدانمرك:

فإن شيئا ما لم يتغير على صعيد الحياة اليومية، بل أحيانا يظن الناظر في الواقع أن شيئا لم يكن، اللهم إلا إن كان يستمع للأخبار.

أما الجريدة فلم تعتذر ولم تقدم ما يشعر بندمها بل كانت مصرة على موقفها حتى الرمق الأخير، أما الحكومة فقد تحلت بالصبر حتى تمر الأزمة وهي ماضية في موقفها متذرعة بعدم إمكانية إدانتها لعمل الصحيفة لأن قانون الحريات يكفل لها ذلك، فكذبها الله وأدانت عمل شركة (آرلا) واصفة إياه بأنه ركوع للمسلمين.

أما الشعب الدانمركي فبقي على بروده المعتاد دون حراك، اللهم إلا مظاهرات بسيطة متواضعة لا ترتقي إلى مستوى الفعل وردات الفعل عليه وكذا بعض البيانات الصادرة من هنا أو هناك.

وما له علاقة بشركة (آرلا) فإنها كانت بين مطرقة المقاطعة في العالم الإسلامي وسندان مقاطعة سابقة داخل الدانمرك، أفضت إلى استبدال الكثير من الأسواق لمنتجاتها بمنتجات أخرى ولأسباب داخلية وجدت نفسها تدفع ثمن فعلة غيرها فحارت بين النظر إلى مصالحها والنظر إلى مصالح الوطن كما أوهم البعض من ضرورة ثباتها وعدم خذلانها لأنصار الحرية كما زعموا.

وعلينا أن لا ننسى أن شركة (آرلا) ليست شركة وطنية، بالمصطلح العربي، فليست هي الحكومة حتى تتحمل مسؤولية عمل الأخيرة وليست تابعة للجريدة أو داعمة لها، وقبل ذلك لا بد أن نعرف أن الحكومة لم تعد الشركة بتعويضات لأنها تراهن على عقود فيها بنود جزائية والتزامات تجارية، قد تخرج الدانمرك من أزمتها، ويتحمل بعد ذلك المسؤولية عن هذه الخسائر جهات أخرى ولا يستبعد أن يكون المسلمون هم الدافعون لتلك الضريبة.

إلى جانب أن الحكومة الدانمركية كانت تعول آمالا على دعم لها من الاتحاد الأوروبي، بل صرح المسؤولون فيها مرارا أن المقاطعة لم تضر بها وذلك لأن صادراتها للعالم الإسلامي لا تتجاوز العشرة في المائة.

وخلاصة القول:

أن المقاطعة آذت الدانمركيين ولكنها لم تضرهم وعليه فلا يصح العتاب الآن بأن يقال لماذا قاطعنا إذن؟ بل يقال يكفي المقاطعة أنها عبرت عن الحب الكبير لنبينا ولديننا وعلينا أن لا ننسى أن المقاطعة خيار شعبي وهو لا يملك غير ذلك والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، يكفيها أنها حركت مشاعر الأمة، ونبهت خصومها إلى ثبات الأمة واحترامها لمقدساتها. فالخلل لم يكن بالمقاطعة ولن يكون برفعها بل الخلل كله في جعل المقاطعة السبيل الأوحد وعدم رفده بما يشكل ضغطا على المعتدي ليرد الحق إلى أصحابه ولذلك فإني أناشد الإخوة في الله أن يكونوا موضوعيين هذه المرة وأن ينظروا للقضية من كل جوانبها ولئن ساءهم وقف المقاطعة بعد وقوعها فقد كان الأولى أن يسوءهم ما لم يقع أصلا وكان مؤثرا أكثر، فالتقصير كبير وعلى شتى المستويات.

أما على صعيد العالم الإسلامي:

فإن التوصية برفع المقاطعة عن منتجات شركة (آرلا) بعد خطابها الواضح والصريح، كان قرارا عاقلا وحكيما بل ومنسجما مع قواعد الشريعة الغراء. وخطأ المعترضين أنهم رأوا القذاة في عيون الدعاة ولم يروا الجذع في عيون غيرهم، وإن المتابع لمجريات الأحداث في عالمنا الإسلامي يجد معوقات أمام المقاطعة كانت كفيلة بزوالها دون تحقيق شيء من المصالح والمكتسبات، فإنه مما أثخن في المقاطعة وأوهنها أمور:

1- ظهور بعض الأصوات التي قللت، للأسف، يومها من شأن المقاطعة، سواء من أفتى بحرمتها وبعضهم صرح ببدعيتها وغير ذلك مما عودنا البعض على سماعه عند كل معضلة ونازلة، أو من جهة من قلل من شأن المقاطعة وصورها وكأنها مسعرة حرب ونحن بأمس الحاجة للسلام فرفع شعار الحوار على أنه أوحد خيار، فساهمت تلك الدعوات بدفن الأمل الذي سرى في أوساط الأمة، ورغم هول المصاب وفداحة الموقف وما قابله من حرقة عظيمة وفورة في المشاعر وإقبال من الناس لنصرة الحبيب المصطفى، في تلك اللحظات الحاسمة جاءت تلك الدعوات، من بارزين في مجتمعنا، لتقوم بدور الفرامل، كابحة جماح ثورة عارمة، فكانت تلك الأصوات بل بعض الممارسات موهنة للعزائم مثبطة للهمم مطفئة لجذوة الغيرة، ألا فسامح الله من عمل ذلك وهو يظن أنه يحسن صنعا.

2- إن المتتبع لأحوال المسلمين اليوم ولا سيما عند المحن ليعجب كل العجب من حالنا، إلا من رحم الله، أمة سرعان ما تنتفض ثم تنطفئ، تبدأ أعمالها بشكل انفعالي عاطفي، تفرغ معه شحنتها كاملة ثم لا تلبث أن يدب إليها التراجع واليأس مع أننا كلنا يعلم أن النصر مع الصبر، وديننا علمنا أن أفضل الأعمال أدومها وأن الله لا يمل حتى يملوا. وأنا عندما أقول ذلك لا أفشي سرا، فإن الدانمركيين صرحوا به قبل مؤتمر البحرين بل في وقت الذروة والنشوة للمقاطعين وقالوا: سنصنع كسنبلة القمح ننحني للعاصفة حتى تمر وقد عودنا المسلمون أنهم سرعان ما تفتر عزائمهم. يا سبحان الله وكأني بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحاكي واقعنا (عجبت لجد الفاجر وعجز الثقه) فإلى الله المشتكى وهنا يحسن ينا التذكير أن المقاطعة لم تكن سوى ردة فعل عاطفية متأخرة وغير مدروسة ولا مخطط لها وهذا بحد ذاته لم يكن مبشرا، فالمخاوف كانت تشوب المقاطعة حتى قبل وجودها لعدم توفر المناخات المناسبة.

3- عمليا: لم تكن المقاطعة أمرا واقعيا مطبقا في أرجاء عالمنا الإسلامي، اللهم إلا في بعض البقاع المباركة وهي محدودة، عودتنا دائما التفاعل الإيجابي مع قضايا المسلمين، بينما بقية العالم فلم يكن يعنيه الأمر شيئا وقد تكشفت بعض الحقائق حول هذا الأمر أخيرا.

4- وهنا بيت القصيد أن المقاطعة لم تكن تستند إلى أرضية ثابتة، أعني أن ارتباط الجهات الرسمية بمعاهدات وعقود وعلاقات جعلتها مكبلة لا تقدر على أخذ موقف واضح معلن، وبالتالي فإن المقاطعة التي كنا نفخر في بدايتها أنها شعبية محضة لم يعد ذلك محل فخر واعتزاز فقد آن الأوان لتبنيها وتقنينها ودعمها لتكون فاعلة ومؤثرة فالله عز وجل يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وعليه فإن الحمل كان ثقيلا على الاقتصاديين وحدهم لأنه كان لزاما على الأمة بشتى أطيافها أن تقف موقفا واحدا وواضحا ليكون ذا أثر، أما حصر القضية بالتاجر والمستهلك فمعناه أننا حرمنا على أنفسنا طعاما لسبب، نحترمه، ولكن لم نطور من عملنا ليكون ضاغطا للإصلاح والتغيير، وبصراحة تامة فإن الغاية من المقاطعة لم تتحقق بل أصبح، ضمن هذه الظروف، تحقيقها ضربا من المحال أو الخيال، وعليه فرفع المقاطعة لا سيما عن المتبرئ ليس هو السبب في ضياع حقنا بل السبب هو هواننا على الناس فإلى الله المشتكى وعليه التكلان.

5- لو نظرنا لواقعنا نظرة متفحص وبإخبار الثقات من الغيورين المتابعين للواقع، تبين أن البضاعة الدانمركية عادت لكثير من أسواق المسلمين دون قرار ولا رأي ولا توصية بل حتى ولا فتوى، اللهم إلا إذا استثنينا بعض البلاد التي لم تفعّل فيها المقاطعة أصلا فبقيت بضائعهم على رفوفها. فاللوم إذن ليس على التوصية نفسها لأن العلماء أخذوا بها لما وجدوا أنفسهم أمام مفترق طرق إما أن يتجاهلوا بيان شركة (آرلا) أوانهم يتعاطون معه بما يلزم. وإما أن يلحظوا واقع المسلمين وضعفهم ويستفيدوا من تلك الفرصة ليكون عود البضائع بيدهم ويستفيدون منه ويوظفوه لصالح القضية أو أن تخرج أوراق اللعبة من أيديهم ويعود كل شيء إلى مكانه دون مراجعتهم ودون تحقيق أي من المكتسبات وبذلك يضعون أنفسهم موضعا يصدق فيه "ويقضى الأمر حين تغيب تيم....ولا يستشهدون وهم شهود"

7- بعض المظاهر السلبية والأفعال غير المنضبطة التي واكبت المقاطعة، مما جعل الجميع -ما دام معترضا- في خانة يسعى للبراءة منها (الإرهاب) والذي أراه والله أعلم، بعد كل ما أوردت وغيره مما قد لا يحسن إيراده، وبما أنني معني بالأمر ومطلع عليه عن قرب فأنا ابن هذه المحنة وأرى أن قرار الدعاة إلى الله كان قرارا حكيما وعاقلا جدا ومع كل ذلك فإنه لا يسعنا إلا أن نحترم وجهة النظر الأخرى وأرجو من الله أن يكون لكلينا نصيب من شفاعة الرسول الكريم كما تكرم الله على فريقين من الحجاج ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) جعلنا الله من المتقين الذابين عن سيد المرسلين.

يتبع......

http://www.islamudeni.net/

1
4245
تعليقات (0)