هل هذا المجمع من علماء الأمة لا يملكون حق الاجتهاد والنظر في الأمور المتعلقة بالمصالح والمفاسد

حازم الغامدي
أود في الأسطر التالية أن أعقب برأيي المتواضع إزاء ما كتبه أستاذي الدكتور الفاضل محمد علي الهرفي -الذي أعتزّ بقلمه- في الرسالةِ الغراء الأسبوع المنصرم، حيث أكد ما ذكره قبلاً من أن مؤتمر النصرة الذي انعقد بالمنامة كان مؤتمرَ مناصرةٍ لحكومة الدنمارك ولا شيء غير ذلك، وأن الشيخين (القرضاوي والعودة) وإن كانا أعلم منه بالفقه فإن قضية رفع المقاطعة قضية ليس لها علاقة بالفقه من قريب أو بعيد بل هي مسألة اجتهادية متعلقة بالمصالح والمفاسد، لكل إنسان حق في إبداء رأيه فيها، موضحاً ما لفتوى الشيخين من شقٍ لعصا الأمة التي لم تجتمع على شيءٍ كما اجتمعت على قضية المقاطعة، فإذا بالمقاطعة تُرفع عن شركة (آرلا) من قِبَل الأمانة العامة للمؤتمر لمجرد اعتذارها الذي ليس له أي قيمة أو منفعة للمسلمين أو لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وهكذا ستعتذر بقية الشركات لتنال حظها من الغنيمة وستظل المشكلة كما هي، مضيفاً أن المقاطعة وإن أضرت بمسلمي الدنمارك فليعلنوا هم رفعها دون سواهم، إلى آخر ما قال حفظه الله.

وبداية أظن أن الدكتور الهرفي وقد حضر المؤتمر لم يخفَ عليه أنَّ رأي رفع المقاطعة عن شركة (آرلا) لاعتذارها طرح في الجلسة الرابعة من جلسات المؤتمر وأدلى فيه العلماء المشاركون بدلوهم وأبدوا آراءهم وأصواتهم فكان رأي أكثرهم أن ترفع المقاطعة عن الشركة، لما في ذلك من إظهار لعدل الإسلام وسماحته، وتغييرٍ للصورة النمطية عن المسلمين في عقول الغربيين، وتمييزٍ بين المحسن والمسيء من الدنماركيين، فعدم رفع المقاطعة عن هذه الشركة بعد كل ما قدمته إنما هو زرع لليأس في قلوب القوم، حيث إنّ الحكومة الدنماركية قد تقول: إن المسلمين ما داموا غير قابلين لموقف شركة (آرلا) التي ركعت لهم بشكل مخزٍ -على حد تعبيرهم- فلا فائدة من الاعتذار لهم أصلاً. كما أن في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين في الدنمارك والذين ينبغي أن يراعى وضعهم في مثل هذه الظروف، إلى آخر ما عبر عنه فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن بيه متع الله به وغيره من العلماء المشاركين، ومع ذلك لم يتعجل المؤتمر في اتخاذ قراره بل جاء في البيان الختامي للمؤتمر التوصية التالية: ((يثمِّن المؤتمر موقف شركة آرلا التي أعلنت استنكار وإدانة الرسوم ورفضت أي مبرر لتسويغها، ويرى المؤتمر أن هذه الخطوة هي البداية الصحيحة لفتح حوار بين أمانة المؤتمر والشركة لاتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذه المبادرة)). فلما أن تم الحوار قررت الأمانة العامة للمؤتمر إبداء رأيها برفع المقاطعة عن (آرلا)، هذا الرأي الذي مثل صوت كثير من العلماء المشاركين كما تعلم؛ ولم يكن مجرد اجتهاد من الشيخين وحدهما كما ظنّ من شاهد بيان رفع المقاطعة موقعاً باسميهما بصفتهما الرئيس والأمين العام للمؤتمر. فهل كل هذا الجمع من علماء الأمة لا يملكون حق الاجتهاد والنظر في الأمور المتعلقة بالمصالح والمفاسد؟!!

وليس بصحيح يا سعادة الدكتور أن اعتذار شركة (آرلا) لم يغن عنا شيئاً، فقد جرى حوار بين أمانة المؤتمر وشركة (آرلا) اُشترِط فيه على الشركة عدة شروط وافقت عليها الشركة وعلى إثرها تم رفع المقاطعة عنها، ومن أبرز هذه الشروط: الضغط الشديد على الحكومة الدنماركية بشتى الوسائل للاعتذار، دفع مبلغ مالي يساهم في مشاريع النصرة، التخطيط للقيام بمشاريع دعوية لنشر الدين الإسلامي والتعريف بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. فما رأيك إن فعلت الشركات الدنماركيات الأخريات فعلها، وسارت على نهجها، ألا تتحقق لنا المصلحة التي نريد بطريق أخرى قد تكون أولى من الطريق التي سلكناها؟

واسمحوا لي هنا أن أنقل طرفاً من كلمة الشيخ رائد حليحل أحد أكبر رموز الجالية الإسلامية في الدنمارك في كلمته التي ألقاها في مؤتمر النصرة، يقول: (إننا مسلمي الدنمارك لم نطالب بالمقاطعة ولن نحث عليها، ولم نطالب الناس بها، ولكنها وقعت ردة فعل من الشعوب الإسلامية، وإن دلّت على شيء فإنما تدل على أن قلوبهم قد غلت بسبب الإهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كان لا بد اليوم من موقف فإن إخوانكم من اللجنة التي أتت من الدنمارك تلتمس منكم أن تقدّروا الظرف الحالي الذي تعيشه هذه المرحلة في الدنمارك مسلمون وغيرهم، وإننا لا بد أن نثمِّن عالياً موقف -ليس فقط- شركة (آرلا)، إنما أي جهة من الدنمارك تتبرأ من عمل الصحيفة، فلا بد أن نرسل لها رسالة إيجابية لنبين لهم عدلنا نحن كمسلمين، وأننا لا يمكن أن نظلم أحداً، وأخيراً أقول لكم أيها الإخوة الأحباب: إن كان لكم شرف نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والتمتع بهذه النصرة، فنحن لنا شرف التعرض لهذه الأذية لنصرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.)) فهل لإخوتنا في الدنمارك قولهم المعتبر والمحترم في القضية أم أننا نقاطع ونحن هنا في تمام راحتنا، ما ضرنا شيء إنْ عدلنا إلى زبدة المراعي، ليذوقوا هم هناك ردة فعل آرائنا، مع أنهم من أهم من ينبغي تقدير رأيهم في المسالة، أم أن تقدير رأيهم سيكون بأن نقول لهم: ارفعوا المقاطعة أنتم وذوقوا الصِبر بمفردكم فنبيّنا صلى الله عليه وسلم ليس لكم وحدكم بل هو نبينا أيضاً، وسنظل نحن على رأينا حتى لا نشق عصا الأمة، ولا يعنينا إن أصابكم أذى، أو مسكم سوء! وعموماً، فقارئ كلام الدكتور الهرفي حفظه الله يلحظ فيه أمرين، أولاهما: الإيهام. وثانيهما: التجريحُ وإسقاطُ الحرمةِ.

أمّا الإيهام فظاهر في عدةِ صورٍ:

منها: إيهامُهُ أن القرار إنّما كان قرار الشيخين وحدهما، تجدُ ذلك في المقال كله من أوله إلى آخره، وقد بينت فيما سبق أنّه كان قرار كثرةٍ كاثرةٍ من المشاركين في مؤتمر النصرة بالبحرين. ومنها: إيهامُهُ أنّ الشيخين إنّما أرادا بفعلهما رفع االمقاطعةِ بالكليّةِ، وهذا عجبٌ من العجبِ!! أنسي الفاضل الهرفيّ أنّ التوصية الثامنة للمؤتمر نصُّها: (يؤكد المؤتمر على المقاطعة الاقتصادية أسلوباً حضارياً في الاحتجاج، لما لها من دور فعال في النصرة)؟!! فهل هذا كلامُ من يريدُ إلغاء المقاطعةِ؟ أنسي الفاضل الهرفي أن المؤتمر أصدر وثيقةً مطولة مفصلة عن المقاطعة، تحدثت عن تعريفها، وأسبابها، وأبرزت الأدلة على شرعيتها، وردت على من ادّعى بدعيّتها، ورسمت لها كذلك ضوابطها. فهل هذا كله فعل من ينوي رفع المقاطعة ولا يراها؟

وصورةٌ أخرى من صور الإيهام، إذ قال الفاضل الهرفيّ: ( أمر آخر كنت أتمنى أن يلتفت إليه الشيخان الفاضلان وهو تشجيع الناس على استخدام المنتجات الإسلامية عامة والسعودية خاصة... الخ)، وكأنّ الدكتور الهرفيّ لم يقرأ التوصية التاسعة للمؤتمر: (يوصي المؤتمر دول العالم الإسلامي بتنويع مصادر وارداتها مع التأكيد على دعم الإنتاج المحلي والعمل على الاكتفاء الذاتي في الموارد الأساسية وتشجيع التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية.)!!!

أليس هذا هو عين ما تمنّاه الفاضل الهرفيّ من الشيخين؟

وصورة رابعة من الإيهام في قوله: (علماؤنا الأجلاء قالوا ببطلان توصية ترك مقاطعة البضائع الدنماركية)!! وكأنّ هذا القول إجماعٌ.. ولا ندري ما يريد بعلمائنا.. فإن كان يريد علماء الأمة كلهم فهذا ينقضه بيان المؤتمر، وإن كان يريدُ علماء بلادنا المباركة فهذا يعوزُهُ الدليل .. فبيانُ ثلاثةٍ من فضلائنا الأعلام وتأييد عشراتٍ لهم لا يعني إجماعاً -وإن كنت أرجو من سعادة الدكتور أن يذكر لنا مجرد ثلاثين من هؤلاء العشرات

ثم لا تنس أن عدداً غير قليل ممن شارك في المؤتمر هو من علماء ودعاة هذه البلاد المباركة، ولا تنس أيضاً أن الله ما جعل العلم محصوراً في بلادٍ دون بلاد.

وأمّا التجريحُ فلا أجدُ أبلغَ من إصرار الدكتور الهرفي -غفر الله له- على اتّهام الشيخين في نيّتِهما وأنّهما قررا ما قررا رغبةً (في القول أنّهما كلّ شيء في ديار المسلمين وأن غيرهما لا شيء)!! مقرراً أنه لا شيء أخف من اتهامه للشيخين في نواياهما! عجباً لك يا دكتور!! أهكذا يكون التعامل مع المسلمين!!! أعوذ بالله.. والله ما رأيت خصومةً أشد من هذه!! نعم وجدنا من يتهم الناس في نياتهم وأنهم مصلحيون نفعيون لا يقيمون لمصلحة الدين وزناً.. لكن ما وجدتُ قبل اليوم من يرى أنّ هذه التهمة الشنيعة هي (أخفّ) ما يمكن أن يوجّه لهذين العَلَمين ومَن وراءهما من العلماء والدعاة!! وماذا وراء هذه التهمة من سوء حتى تكون أخف ما يرمى به عالمٌ؟ والأعجبُ من شناعةِ هذا التجريحِ وَهَنُ الحجةِ التي قام عليها!! أكانت الحجةُ دليلاً قاطعاً من كتاب وسنة؟ أكانت الحجة مسألة إجماعٍ أجمع عليه علماء الأمة؟ أكانتِ الحجةُ اعترافاً صريحاً من الشيخين بأنّهما ما أرادا إلا ذلك؟ لا أبداً!! الحجة التي سوّغ بها الدكتور الهرفي لنفسه توجيه هذه التهمة الشنيعة هي (رؤيتُهُ الخاصة) للمصالح والمفاسد في هذه المسألة! هذه الرؤية التي من خلالها (ثبت!!! [هكذا !] أنّ مصلحة المسلمين العليا في وادٍ وهذا القرار في واد آخر)!.

صحيفة المدينة السعودية

1
4241
تعليقات (0)