سناء الشاذلي
تتغنى دعوات بشرية شتّى بحضاراتها، وتزعم أنها الأصلح للمجتمعات، وأن عليها أخذها كنموذج طُبق وقطفت ثماره في كل حين وفي كل لون.
غير أن ثمة ما ينفي ذلك الادعاء، لخروج فئة أخرى من جلدة تلك الحضارة تنفي وتفند تلك الأكذوبة، وتقف كحاجز حصين ضد ما سمّوه حضارة، وضد ما يُطلق عليه تقدم أوتطور، لم يؤد إلا إلى مزيد من دمار وانحدار في حضارات لم تفرق بين الخير والشر, وصدرت الأمراض والتشوهات والشذوذ والأمراض النفسية والانتحارات, بدعوى حضارية المنهج والهدف والسلوك، ما أدى إلى قيام مجموعات عدة بحملة قوية تدعو إلى العودة إلى الأخلاق والتنقيب عنها في أمهات الكتب، وأخذ ما يفيد من الماضي والحاضر، بغية إنقاذ البقية الباقية من بشرية خاضت الحضارة بشكل خاطئ.
غير أن المهمة شاقة لتعدد تلك الاتجاهات التي تستقي منها الحضارة معينها ومنقذها، فلا ديانتها بقت على حالها لتستقي منها ما ينقذها ولا كذلك الجنوح للإلحاد والعلمانية والرأسمالية والاشتراكية والوجودية، مكنها من أن تسترد به عافيتها، ما يضطرها إلى إضفاء المزيد من المصطلحات والقوانين، فكلما فشلت في مشروع لجأت لآخر، إذ ترى أنه غير صالح لزمان ما وفئة ما، ما يفرض عليها تقديم مشروع آخر.
لكن ثمة حضارة لم يطرأ عليها تغيير على مر العصور, ولا تطوير ولم تنتقل لمشروع آخر كما الحضارات الأخرى وإن كان القائمون عليها قد أخفقوا في نواح شتى، وهو ما سبب تأخر هذه الحضارة لا اندثارها، ولها سمة بارزة إذ يشارك الكبير والصغير والضعيف والقوي في بنائها.
كما أنها ليس لها وقت محدد تموت به وتنتهي... فلقد ولدت مع ولادة أعظم نبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أسهمت - لا كغيرها - في الأخذ بيد ذلك الإنسان الكريم على الله نحو التقدم والازدهار، وحفظت حقوقه، ولم تفرض عليه حضارة حيوانية شهوانية تدمر كل شيء في طريقها، ولم تكلفه فوق ما يطيق حتى في العبادة, بل مازجت بين الفطرة والسلوك, بين الروح والجسد, بين الألم والأمل, بين التفاؤل والتشاؤم.
إنها ولادة تشهد مع كل يوم حضارة ثابتة في قوانينها مرنة في اتجاهاتها. حضارة ولدت بمولد نبيها والذي أعجب له كل العجب أن البعض يتخذ يوماً واحداً يحتفل فيه بمولد هذا النبي على رغم أنه يولد فينا كل يوم, مع بكاء طفل مسلم للتو خرج للدنيا, مع دعوة لله صداها في كل مكان, مع جماعات حضرت صلواتها في كل حين, مع أذان صدع في أرجاء الدنيا, مع أذكار وتسابيح تخرج من أفواه العصافير والأشجار, والأحجار, مع أناس قاموا باتباع السنة على الوجه الصحيح، ومع أناس نهلوا من أخلاق النبي حاملين رسالته بأخلاقهم التي ميّز الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
مع كل هذا وغيره يبقى من الظلم أن يحتفل بمولده بأشكاله المختلفة التي لا تخلو من مزامير ومديح مبالغ فيه وطبول وغناء.
انه لظلم حقاً أن تختزل ولادته وهو المولود فينا كل يوم في يوم واحد لم تقم به خير القرون، وكلنا يعلم قصة بداية أول احتفال بمولده على أيدي المذاهب الباطنية، انه حقاً ظلم لحضارة نبوية تحمل أرقى معاني التقدم... نبي رأت أمه وكأن نورا خرج منها أضاء قصور كسرى في الشام، ما يدلنا على أنه لا يمكن أن تتصور إلا ذلك النور الذي أوصل الإسلام والسلام والأمان والأخلاق الى البشرية جمعاء.
صحيفة الحياة اللندنية