د.سلمان بن فهد العودة
يا رسولَ الله..
حبُّك في مهجتي كالدر في الصدفِ
والشذى في الروضة الأنفِ
والفرات العذب في الدِّيمِ
ليس كالمختار في البشرِ..
فهو كل السمع والبصرِ..
واحد التاريخ والسيرِ..
وإمام الرسل والأممِ
لقد قرأت سير المصلحين, والعظماء والزعماء, وأئمة المذاهب الكبار, حتى إني قد أشعر حين أقرأ عن أحدهم أني أمام جبل وعر صعب المرتقى؛ لأنهم أخذوا أنفسهم بشيء من الجد الذي يصيب المرء بالعجز عن إدراكه, وصعوبة الاقتداء به، وربما استحالته, أما إمام هؤلاء جميعاً وسيدهم قاطبة محمد صلّى الله عليه وسلم؛ فتشعر وأنت تقرأ سيرته بالسهولة والقابلية للتطبيق, والقرب من النفس البشرية وطباع الناس، وهذا سر بديع من أسرار إعجاز الشخصية النبوية.
وهو صلّى الله عليه وسلم قائد الركب, وسيد ولد آدم:
وَكلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ
غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ
وهذا المعنى -والله أعلم- هو سر بشريته, وعظمته في آن.
* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(الحاقة:44-47)، أمام المؤمن والمشرك, والوثنيون يحاربونه, ويشنّون عليه حملات إعلامية وكلامية, باحثين عن أيّة ثغرة ينفذون منها للطعن في مصداقية الدعوة والداعية، فلم يكن ذلك يثنيه عن التبليغ بكل شيء, ولو كان هذا الشيء معاتبة له من الله عز وجل.
وفي المدينة: يتربص يهودها ومنافقوها بهذا الدين الدوائر، ويرجعون البصر كرة وكرتين في حقيقة الرسالة:
هل يرون من فطور؟
* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}(عبس:2)، وكان يعلِّمها أصحابه, ويؤمهم بها في الصلاة، وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكتبون كل كلمة وحرف, ويدوّنون كل همسة ولمسة تصدر منه صلّى الله عليه وسلم؛ فسيرته سجل مفتوح للناس كلّهم أجمعين, ومدوّنة واضحة دقيقة في كل شيء يخصه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وبكل هذا الجلاء في سيرته دون استثناء كان أمثل خلق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4)؛ وأصدق لسان{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}(النجم:3)، وأبين حجة {بِلِسَانٍ عَرَبِي مُبِينٍ} (الشعراء:195)، وهو في كل ذلك (إنسان) له صفات الإنسان؛ ليكون أيسر في الاتباع, وأسهل في الاقتداء، ولكي يعلم الأتباع المؤمنون -ولو بعد عدة قرون- أن مشاعر النبي صلّى الله عليه وسلم وأحاسيسه ليست بدعاً من المشاعر، وأن ما يلحق الناس من أذى ومضايقة من المشركين وغيرهم, أو فرح وسرور ينال النبي صلّى الله عليه وسلم منه أوفر الحظ والنصيب، فغدت هذه الأيام التي يداولها الله على الناس تبييناً لمعدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمُوِّ أرومته، وطريقة تعامله مع الأحداث المختلفة والظروف العادية والاستثنائية{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}( النساء:165).
وسيد الرسل هو محمد صلّى الله عليه وسلم, الذي كان كالشمس للدنيا, وكالعافية للناس فهل لهما من بديل أو عنهما من عوض؟
ولا شك أن النبي صلّى الله عليه وسلم أكمل صورة بشرية جاء للناس من أنفسهم فلم ينزل من السماء، ولم يكن مَلكاً {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}( الأنعام:9)، بل كان بشراً رسولاً {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128), لقد كانوا يعرفونه عليه السلام, ويعاملونه, ويصفونه بالصادق الأمين، ولم يزل صلّى الله عليه وسلم يترقّى في مدارج ومعارج الكمال حتى قُبِض على أكمل ما يكون صلّى الله عليه وسلم، قُبِض وهو متلبّس بالعبادة والدعوة, والتوجيه والإرشاد, والأمر والنهي, والوصية حتى في اللحظة التي انتقل فيها من هذه الدنيا-بأبي هو وأمّي عليه السلام- عملاً بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر:99).
* وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}(الضحى:6-8).
(مرسلٌ) قد صاغه خالقه
من معاني الرسل بدءاً وختاما
قد سعى والطرق نارٌ ودمٌ
يعبر السهل ويجتاز الأكاما
نزل الأرض فأضحت جنةً
وسماءً تحمل البدر التماما
وأتى الدنيا فقيراً فأتت
نحوه الدنيا وأعطته الزماما
ورعى الأغنام بالعدل إلى
أن رعى في مرتع الحق الأناما
عربيّ مدّن الصحرا كما
علّم الناس إلى الحشر النظاما
يا رسول الحق خلدت الهدى
وتركت الظلم والبغي حطاما
وإذا جاءت كل أمة بعظيمها ومتبوعها، وقدمت زعيمها أتيناهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم فظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون، ذلكم أن شخصيته عظيمة بكل المقاييس، صالحةٌ لكل العصور والبيئات والمستويات والمجتمعات والحضارات، وبها تحلّ مشكلات الأمم والعالم وهو يحتسي قهوة الصباح!
فرسولنا صلّى الله عليه وسلم نفسه معجزة في شخصيته, وأخلاقه, وهديه, وعبادته, وقيادته, تضاف إلى معجزاته الأصلية المعروفة كمعجزة القرآن الكريم العظمى، ومعجزة الإسراء والمعراج، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}(سورة الإسراء:1).
ومعجزة انشقاق القمر، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ}(سورة القمر:1)، ولمّا كان القرآن العظيم معجزة، كان صلّى الله عليه وسلم خلقه القرآن -كما وصفته عائشة (رضي الله عنها)- عند مسلم وأبي داود- فخلقه معجزة، في صبره وكفاحه, وبلائه وتجرده وإنسانيته.
فله صلّى الله عليه وسلم كل خصائص الإنسان؛ كما أن له -أيضا- كل صفات العظمة البشرية مجتمعة..
صلّى عليك الله يا علم الهدى
ما ناح طير أو ترنّم حادي
اللهم صلِّ على محمد, وعلى آل محمد, كما صلّيت على إبراهيم, وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد، وبارك على محمد, وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم, وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
صحيفة الجزيرة السعودية