مشكلات الحوار الثقافي بين الغرب والإسلام

مصطفى عاشور
أثارت المحاضرة التي ألقاها المفكر والمؤرخ المصري طارق البشري في معهد الدراسات العربية بالقاهرة تحت عنوان "مشاكل الحوار الثقافي بين الشرق والغرب" الكثير من التفاعل والإعجاب من الحضور؛ نظرا لأهمية القضية التي طرحتها، والأفكار التي عرضها. وقد أكد البشري -في تلك المحاضرة- أن الغرب يسعى لستر صراعه السياسي مع الشرق في كونه صراعا ثقافيا، رغم أن الصراع سياسي في الأصل، ورأى أنه إذا كان العدوان سياسيا فلا داعي أن نشغل أنفسنا بالحوار الثقافي، وألا نعبأ برأي الغرب فينا، وأن يكون جدلنا الحقيقي مع أنفسنا وقوانا الداخلية.

ورأى أن الغرب في العقود الأخيرة يحاول أن يجعل مشكل المسلمين ذاتيا، وليس مشكلا معه، فمنذ عام 1980 كانت أغلب صراعات المنطقة ذاتية، بل ظهرت مشكلات ثقافية داخلية في العالم العربي؛ فقد كانت الحقوق تفهم في السابق على أساس أنها حقوق الأمة في تقرير مصيرها، ولكنها حاليا تفهم على أساس أنها حق المرأة تجاه الرجل مثلا، ومن ثم انزوت فكرة الحقوق الجماعية وظهرت حقوق الفرد.

ودعا البشري إلى أن نمارس ثقافتنا كما فهمناها باعتبارها الوعاء الذي يجمعنا للمقاومة، وأنه ليس مطلوبا منا أن نبرر أنفسنا للآخرين، وأن نمارس مفاهيمنا التي تشحذ عزائمنا، وألا نتورط في حديث أكثر من اللازم عن صراع الحضارات.

الحوار بين السياسي والثقافي

في بداية المحاضرة أشار البشري إلى قضايا من المفترض أن تحكم الإطار العام عند الحديث عن أي حوار ثقافي بين الإسلام والغرب، في مقدمتها:

الالتباس بين الديني والسياسي: فالمعروف أن أي نظام سياسي يحتاج إلى جامعة ما بين الحاكم والمحكومين، وبغياب هذه الرابطة تصبح تكلفة البقاء عالية، وهذا ما يظهر واضحا في الموقف من الحاكم الأجنبي الذي لا ينتمي إلى الجماعة السياسية، فالاحتلال – مثلا- مشكلة ثقافية وسياسية معا.

محاولة ستر العدوان السياسي وراء أسباب ثقافية: فدائما يحاول المعتدي أن يصور الصراع السياسي على أنه صراع ثقافي، فنظرية "صراع الحضارات" التي جرى تصويرها على أنها صراع ثقافي هي في الأساس صراع سياسي.

وتناول قضية الاستشراق، معتبرا أن الاستشراق أعطانا مناهج علمية، لكن في الفترة الأخيرة الاستشراق يحكّم الفكر الغربي في الفكر المتعلق بالمسلمين، ويشرح الوقائع التاريخية بالمنهج الذي يفهم به هو وقائع تاريخه رغم الاختلاف بين التجربتين.

فالاستشراق ينظر للإسلام من منطق إما مسيحي وإما لاديني، ويحاكم النظم الخاصة بالإسلام من معاييره هو، ومثال ذلك تقسيم السلطات في الدولة، فالغرب يقسم السلطات إلى: قضائية وتشريعية وتنفيذية، وعندما ينظر إلى الحضارة الإسلامية وتجاربها يتساءل: هل هذا التقسيم موجود أم غير موجود؟ وعندما يرى أنه غير موجود -وفقا للمنظور الذي يرى به- يطلق على النظم الإسلامية أنها نظم شمولية، معتبرا أن الإمام (الحاكم) تتجمع في يديه جميع السلطات.

وتساءل البشري: هل غابت السلطة التشريعية عن النظام الإسلامي؟

وأشار إلى أن المستقر في المجتمع أن السلطة التشريعية مأخوذة من الكتاب والسنة؛ فالفقهاء كانوا يدرسون للطلاب، وهؤلاء كانوا موجودين بشكل أهلي في المساجد يعلمون الناس، وكانت قوانين الكتاب والسنة هي قوانين درجة أولى، ثم تأتي اجتهادات الفقهاء كقوانين درجة ثانية، وكان القاضي يتصل بالشريعة مباشرة، ومن ثم فمن خلال فهم النظام الإسلامي ندرك أن السلطات الثلاث كانت موجودة.

ومن الأسئلة التي تؤكد ذلك: هل يجوز للإمام أن يعين القاضي ويفرض عليه رأيا معينا؟ الراجح عند الفقهاء مقولة "صح التعيين وبطل الشرط"، وبالتالي ووفقا للمقاييس الغربية فالسلطة التشريعية منفصلة عن السلطة القضائية المنفصلة عن السلطة التنفيذية. هذا الأمر لم يكن المستشرق يستطيع أن يتوصل إليه.

انتقاء الإدراك

وأشار البشري إلى أن المفكر الغربي اهتم من التراث الإسلامي بأمرين:

الأول: اهتم بالصوفية لاقترابها من المسيحية في بعض الجوانب.

الثاني: اهتم بالفلسفة نظرا لأن الفلسفة تبحث عن الشرعية في تنظيم المجتمع.

ولم يهتم المستشرقون بالفقه رغم أن التكوين الأساسي للجمهور العربي الإسلامي جاء من الفقه أكثر منه من الفلسفة، فمثلا اهتم الغرب بـ"السهروردي" في حين لم يهتم بـ"الشافعي"، كما أنه اهتم بالصوفية في جانبها العقلي ولم يهتم بها في جانبها الاجتماعي، والتكوينات الاجتماعية التي أنشأتها. وأنه عندما قرأ كتاب "عادات المصريين المحدثين" لـ "إدور وليم لين" للمرة الأولى انبهر به لدقته وقدرته على الوصف والحياد، وعندما أعاد قراءته بعد ثلاث سنوات اكتشف أن الرجل لم يستطع أن يدرك العمق الروحي للمصريين، حتى بدت له مادة الكتاب وكأنها جثة محنطة بدون روح؛ فمثلا أورد حكاية طريفة عن شيخ كان يركب حمارا ثم وقع من على ظهره وابتعدت عنه العمة (غطاء الرأس) فهرع الناس إلى العمة وتركوا الشيخ؛ فالناس اعتبروا العمة رمزا ولذا انصرفوا إلى الرمز وتركوا الشخص.

هذا المشكل يتعلق بنظرة المفكر الغربي لنا ولتراثنا، فهو لا يستطيع أن يدرك كنهه مهما كان متفهما له، ومهما كان متعاطفا مع قضاياه، ويؤكد ذلك مالك بن نبي عندما قال: "المثقف الإنساني الغربي يستطيع أن يفهم مشاكلنا نحن الشرقيين، ويستطيع أن يقف معنا في مشاكلنا الاقتصادية والسياسية بدافع من الإنسانية، لكن لن يفهمك من الناحية الثقافية؛ لأنه مستغرق في ثقافته هو" فمثلا لن يفهم الجهاد، ولكنه يفهم حركات المقاومة.

وأكد البشري أن كتابات المستشرقين قد نجد فيها أمانة، ودقة، وفيها قدرة على جمع معلومات جيدة، لكنها خاضعة لمعايير احتكام ليست مستخلصة من الثقافة الإسلامية وتاريخها، فالمستشرق يحتكم إلى معايير مستخلصة من خبرته التاريخية وثقافته.

أما علم الأنثروبولوجيا الذي يتعلق بدراسة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها، فإن هذا العلم نظر إلى العلاقة مع تلك المجتمعات في الشرق على أنها علاقة باحث ومبحوث، بين طرف مدرك، ومادة مبحوثة مدركة، ولم ينظر إلى العلاقة على أنها بين إدراكين؛ ولذلك نجد فروقا في الجوهر؛ فمثلا لا يقبل العقل الغربي بتعدد الزوجات، في حين أنه يقبل بوجود علاقات متعددة خارج إطار الزواج.

الأمر الآخر يتعلق بأنه في كثير من الموسوعات ستجد أنها تركز على أن العنصر المادي هو المحرك والأساس للأحداث، فمثلا البارود كانت بداية اكتشافه في الصين لكنه لم يستخدم في القتل؛ إذ كان هناك تفاعل بين الفكر والثقافة والتكوين النفسي وبين التطور المادي.

المعاصرة.. غربية

وفيما يتعلق بموضوع المعاصرة أشار البشري إلى محاولة الغرب دائما -بحكم التطور المادي- جعل موضوع المعاصرة هو الأساس في التعامل مع الآخر، فهو يقيس معاصرتنا على أساس بعدنا أو قربنا منه. وللأسف الشديد وقع المسلمون في هذا الوهم خاصة بعد استقلال الدول العربية.

ففي أثناء الاستعمار كانت المواجهة مع الغرب مواجهة سياسية، وهذه المواجهة جعلت المواطنين أكثر صلابة ثقافيا، وعندما نجحت حركات التحرير في تحقيق الاستقلال، ونظرت إلى المستقبل وجدت أنها تريد أن تنشئ مجتمعاتنا على غرار الغرب، ولذا نظر إلينا الغرب على أننا مجتمعات ودول نامية، ودخلنا في نفس النفق الذي يريد الغرب منا أن نسير فيه، فأصبح الغرب هو المعيار والميزان، ولم تستطع حركاتنا الوطنية أن تستمر مددا طويلة في هذا الشأن.

ونلاحظ أن أي فكر إذا دخلت في إطار تجربته التاريخية والتطبيقية يصبح نافعا أو غير نافع، فمثلا الديمقراطية عندما وظفت في إطار الحركة الوطنية لتحقيق الاستقلال نجحت الحركة الوطنية، والاشتراكية أنتجت عندما ارتبطت بفكرة الاستقلال الوطني، وعندما وظفها الشيوعيون والقوميون لم تنتج.

ومن ثم فالمسألة لا تتعلق بمطلق الأخذ من الغرب، ولكن بما نأخذه، كما أن المعيار الواجب الاحتكام إليه لا بد أن يكون من داخل الجماعة وليس من خارجها.

وأشار البشري إلى أننا نحتاج الفكر الغربي في أمرين مهمين:

علوم الصناعة وفنونها.

وعلوم الإدارة: لأن الغرب لم ينجح بعلوم الصناعة وحدها وإنما أيضا بما استخلصه من نظم لإدارة المجتمع والدولة، وهي جهود خطت بالحضارة الإنسانية للأمام. وأكد أن الغرب أسير مصطلحاته الخاصة، وأن الحضارة الإسلامية أكثر انفتاحا من الغرب قديما وحديثا، فالغرب متمركز حول ذاته وحول تجربته الثقافية، معتبرا أن تجربته هي التجربة الوحيدة في العالم، وما دون ذلك هو دون ذلك.

هل يفهموننا؟

كانت المداخلات والتعليقات على محاضرة البشري كثيرة، ومنها مداخلة الدكتور أحمد يوسف رئيس معهد البحوث والدراسات العربية الذي تناول إشكالية: هل هم يفهموننا أم أنهم لا يريدون أن يفهموننا؟.

وأشار أن كلتا الحالتين موجودتان في الغرب، وأن عدم فهم الغرب للبعد المعنوي قد يصل إلى مركز صنع القرار في العالم الغربي فيفعل فعله، وأشار أن صانع القرار قد يعرض عليه شيء لكنه يسعى لتحقيق هدف معين، ومن ثم فاستخدام الثقافة في الصراع السياسي تقوى في مرحلة الهيمنة، وهو ما يفرض استدعاء هويتنا.

وتساءل: هل من الممكن أن يحتجوا علينا بنفس الحجة التي نحتج بها عليهم؟ بمعنى أننا نفهم الغرب في إطار سياقنا الثقافي والتاريخي، وأن المسلمين يحاولون أن يطبقوا عليه معاييرهم الخاصة على الغرب.

وحمل الدكتور أحمد يوسف المسلمين جزءا من مسئولية ما جرى، وتساءل عن الجهد الذي بذله المسلمون حتى يوضحوا جوهر الدين وحقيقته، أو بمعنى آخر: أين المسئولية الإسلامية في عدم فهم الآخر لنا؟.

أما الدكتور سيف الدين عبد الفتاح فطالب بإعطاء أهمية للتحليل الثقافي في تحليل الظاهرة السياسية، وأشار إلى أن أي حوار حضاري لا بد أن يقوم على ثلاثة أسس مهمة وهي: المعرفة، والاعتراف، والمعروف؛ وهو ما يؤكد أن الحوار لا بد أن يقود إلى شيء.

إسلام أون لاين

1
4200
تعليقات (0)