مسلمو الدنمارك .. وأزمة الرسوم المسيئة

د.رائد حليحل
أيها الإخوة الأحباب، أتيت مع إخوان لي من الدانمرك نمثل بين أيديكم الغالبية العظمى من مسلمي الدانمرك حتى نرفع لكم شكايتنا عما حصل في تلك الديار...

أيها الإخوة الأحباب، لا بد لي أن أجعل كلامي على محورين اثنين....

المحور الأول : هو الكلام عن الفاجعة أو الكارثة التي وقعت في ديارنا في بلاد الدانمرك، والمحور الثاني هو الكلام عن كيفية تعاطي المسلمين مع هذه الأزمة.

لابد أن نعي بداية أن صحيفة (يولاند بوسطن) لها ميول واضحة، فكل من يتابع الإعلام الدانمركي يعرفها تماما، هي يمينية متطرفة بما تعني الكلمة، إن عندها من عدم المحبة إن لم أقل عداء بيناً للجالية عموما والمسلمين منهم تحديدا. ولم ترتدع يوما عن التطاول على الإسلام والمسلمين ولكنه طبعا لم يبلغ حدّ نشر الرسوم المسيئة، إنما كان على صورة النقد للمسلمين باستغلال بعض الثغرات عندهم وبعض المواقف التي تظهر ضعفهم التي كانت تبرزها دون أن تبرز غيرها، ولقد كللت هذه الأعمال بتلك الفاجعة الأخيرة عندما انبرت ظنا منها وإيهاما للمجتمع الدانمركي على أنها راعية الحقوق وأنها حريصة على حرية الرأي والتعبير، وأنها حامية لحمى الديمقراطية في تلك الديار، وبالتالي أنها التي تقف أمام زحف إسلامي مخيف في ديار الغرب عموما وفي الدانمرك تحديدا.

الذي هيج الجريدة أن كاتبا كتب كتابا عن الإسلام، للأسف لقد نزل إلى الأسواق منذ مدة قريبة وعنوان الكتاب (القرآن وحياة محمد)، وهذا الكتاب فيه من الأكاذيب والشبهات وإثارة كل ما يمكن استغلاله ليقدح في مقام النبوة، ما لا يعلم به إلا الله. هذا الكاتب أراد أن يسوق لكتابه برسم يوضع على غلاف الكتاب يعكس مضامين الكتاب، أي رسومات ساخرة تعبر في أول صفحة عما في داخل الكتاب، لقد أبى أكثر الفنانين بل امتنعوا، فلما علمت الجريدة بذلك حكمت أن هذه مبادرة خطيرة، أيمكن أن نخاف نحن في ديارنا من المسلمين، أيمكن أن نراعي مشاعر المسلمين عوضا عن أن يراعوا هم مشاعرنا وقيمنا ومبادئنا وغير ذلك، فأرسلت هي بدورها إلى ثلة من الفنانين ومن الرسامين تطالبهم بل تحثهم وتوهمهم أن المعركة لا بد منها، وأنها المعركة الفاصلة التي لو انهزم هؤلاء أمامها فإن بناء الديمقراطية حقيقة سيشكل عليه هذا الضغطُ الإسلامي خطرا كبيرا ، فحثتهم على هذا الفعل، فاستجاب اثنى عشر وامتنع بقية الأربعين، وجاءت الرسومات قاصمة لظهر كل عاقل فضلا عن كل مسلم.

لقد جاءتنا الفاجعة صبيحة يوم الجمعة، ولعل اختيار يوم الجمعة له دلالته ـ لنفس اليوم ـ ولأن الجريدة ستكون بين يدي الذين عندهم الإجازة الأسبوعية يتمتعون بالنظر إلى تلك الرسومات الساخرة طيلة ثلاثة أيام وكان ذلك في يوم 30 من شهر 9 من العام الميلادي 2005م ، فما كان من المسلمين إلا أن تنادو لعقد لقاء هادئ هادف بعيد عن الانفعالات، وإنما أردنا أن نتشاور في ما بيننا وأن نتذاكر كيف يمكن أن نواجه مثل هذه القضية، ولا أفشي سرا إن قلت لكم أن هناك رأيا كان مطروحا في هذه الجلسة أنه علينا أن نتجاهل تلك الرسومات ولكن الرأي الأغلب كان : لا بد أن نتصدى لها والذي رجح الرأي الآخر أننا وجدنا من الصحيفة إصرارا على عملها ، ولعلمكم فإن أول ردّ نزل لنا على الرسومات كان بعد أسبوع، وطيلة هذا الأسبوع كانت في كل يوم تتحفنا الصحيفة بتكرار صورة أو مقال يؤكد هذا المعنى.

الصور كانت مسيئة، والإشكال فيها كبير ولكن الإشكال في ما قاله المحرر مرافقا لهذه الصور كان أكبر، عندما أراد منا أن نتهيأ نفسيا لهذا الأمر وأن نرضى ونرضخ لأي إهانة مهما عظمت ومهما كان حجمها لأن هذا كان من متطلبات الحياة الديمقراطية، وهنا تكمن الخطورة ، لأن الرسومات لم تكن رصاصة طائشة ولم تكن عملا حقيقة غير هادف إنما كانت عملا مدروسا، وقد افتضح هؤلاء أرباب تلك الصحيفة عندما قال خبير في الديانات في الدانمرك " لقد استُشِرت في هذه الرسومات، فقلت لهم حذار حذار من نشرها، لأنها ستحدث انتفاضة". ولكن إصرارهم على نشرها إلى جانب سكوتنا أسبوعا كاملا، طبعا سكوتنا إعلاميا، ولكن كنا في داخلنا وفي مجتمعاتنا ومنتدياتنا في حالة تشاور حول ما هو العمل الأنسب وكيف سنواجه القضية. وأنا لا بد أن أذكر هذا الكلام، ليس دفاعا عن أنفسنا وليس تزكية لها، إنما بيانا للحقيقة، لأننا سمعنا كثيرا من التوجيهات والنصائح الكريمة وشيئاً من نقد، كنت أتألم منه أنا وإخواني في الدانمرك. هذا النقد كان يقول أن المسلمين في الدانمرك هم الذين يتحملون مسؤولية الإساءة وهم الذين يتحملون أسبابها، وهذه الكلمة فيها من الإجحاف لحق مسلمي الدانمرك ما لا يعلم به إلا الله.

ليكن معلوما لديكم جميعا، إن كان لا بد من تحميل المسلمين لهذه المسؤولية فليكن التحمل من المسلمين عامة، في العالم كله، لأننا اليوم نعيش في عالم كأنه قرية واحدة. هؤلاء نظرتهم على الإسلام، ليست من أجل الشيخ رائد ، إنما نظرة على كل عمل ولو كان في أقاصي الدنيا ومحاولة نقده بهذه الطريقة أو بغيرها. فأقول لكم لا تعفوا أنفسكم من المسؤولية، بل بيننا شراكة كاملة كلنا نتحمل المسؤولية إذا كان لا بد من تحملها، ولكن حتى لا نظلم أيضا لأننا قصرنا في التعريف برسول الله وقصرنا بالدعوة إلى الله ولو أننا قمنا بواجبنا لما عمل بهذا العمل، ولا أدري، أكل تهكم بدين الله سببه المسلمون؟ وبالتالي، أيعقل أن نحمل المسلمين المسؤولية في الدنيا والآخرة بأن نطالب أن يقام الحد عليهم اليوم أو نطالب بأن يعاقبهم الله يوم القيامة لأنهم متسببون في هذه الإساءة؟ أقول، كفانا جلدا لذواتنا، لا ينبغي أن نجلد أنفسنا لهذا المستوى والحد. نعم، أنا مع النقد الذاتي، ولو لم أكن معه لما نقدت إخوانا لي في الله، أحبهم، أحترمهم ولكن المصلحة العليا أهم عندي من أن أنتقدهم أو غير ذلك.

إذاً، رأينا أيها الإخوة بعد إصرار الصحيفة أنه لا بد من القيام بعمل، ولكن تخيلوا ما العمل الذي أديناه. كان عملا حقيقة كما يقال في الغرب تحت مظلة الديمقراطية! لم نقارف عملا واحدا والقضية اليوم عمرها خمسة أشهر، لم نقارف عملا واحدا يمكن أن يسجل على المسلمين أنهم أخطأوا بحق رسالتهم ودينهم وحضارتهم في المجتمعات الغربية.

لعلمكم، المسيرات التي خرجت في العالم الإسلامي هي التي وقع فيها التخريب، أما عندنا، حتى المسيرات لم تخرج، لأننا كنا نخشى لو أننا أطلقنا دعوة للخروج إلى المسيرات، ونحن نعلم أن النفوس ملتهبة، أنه قد يخشى أن يحدث شيء، ولذلك من حنكتنا وحكمتنا رفضنا أن تكون هناك مسيرات في الدانمرك.

ما الذي عملناه؟ جمعنا توقيعات حقيقة بلغت حوالي عشرين ألف توقيع من أجل أن نوصل رسالة للصحيفة وأرباب السياسة أن هذا عمل لا يمكن أن نرضى عنه. استشرنا محامين من أجل أن نرفع قضية في القضاء الدانمركي لنحل تلك القضية. كتبنا رسالة احتجاج مؤدبة في قمة الأدب إلى تلك الصحيفة وقلنا لهم " إن كنتم في علمانيتكم لا تقيمون للرموز قداسة، فإن نبينا ما زال له في قلوبنا وسيبقى بإذن الله رمزية عظيمة وقدسية كبيرة، لا بد لكم، إن أردتم أن نحترم قيمكم، إذا أردتم أن نحترم مجتمعكم لا بد أن تحترمونا، لا بد أن يكون احتراما متبادلا وأما احترام من طرف واحد يعتبر ظلما ومهانة". ثم أكثر من ذلك، كتبنا رسالة دبلوماسية إلى وزير الثقافة ولم يصلنا الجواب إلا من أيام قليلة بعد أن التهب الشرق الأوسط بحالة الاحتجاج. إذا، كل هذا الكلام يدل على أننا لم نشأ أن نجعل من الدانمرك ساحة حرب ، وهذا للأسف من باب التضليل الإعلامي في الدانمرك، صوّر للمجتمع الدانمركي أن اعتراض المسلمين ليس إلا نوع من أنواع إعلان الحرب على حرية الرأي والتعبير وقلنا لهم مرارا، نحن أولى وأول من نادى بحرية الرأي والتعبير. هل هناك أعظم من أن يكون في ديننا إذن للبشرية أن يكون منهم مؤمن ومنهم كافر؟ أي حرية أعظم من ذلك! أي حرية أعظم من قول الله، لا إكراه في الدين! ولكن للأسف أيها الإخوة، هناك أمر أرجو من الجميع أن يتنبه له تماما ، وهو أن صورتنا تشوه دائما في الدانمرك ، وولله ليس بتقصير منا ولا نعفي أنفسنا من المسؤولية ، ولكن أنا وغيري من الدعاة الذين هم معي الآن جزاهم الله خيرا! يتكلم أحدنا ساعة لا يأخذ الإعلام منه إلا كلمة وتوظف في غير محلها ، وتبتر وتوضع في غير سياقها ليتوهم القارئ والسامع أن هؤلاء حقيقة أسود ضارية لا بد أن تخافوا منهم.

لقد عشنا في الدانمرك بسلام ولا زلنا مسالمين ولما قمنا من أجل أن نوقف هذه المهزلة كان سبب ذلك أننا نخشى أن يحدث في الدانمرك ما حدث في هولندا. لا نريد أن نفتح المجال أما عواطف غوغائية غير منضبطة لتنتقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أردنا منهم أن يخاطبونا بالعقل لنخاطبهم بالعقل، أن نحل القضية بالعقل وأنا أطمئنكم أيضا لأننا في مرحلة لم نتعرض بها للحكومة الدانمركية بكلمة واحدة، لا نريد أن نظهر أمامها أننا أناس نريد أن نشاغب مع الحكومة. كل كلامنا كان منصبا على الجريدة وما زال حتى اليوم ، ولم نطلب من الحكومة موقفا منصفا لنا إلا عندما أخطأت الحكومة بأعمال أظهرت من خلالها أنا داعمة أو متغاضية عن عمل الصحيفة ، ولعل بعضكم اليوم اطلع على نشرة الأخبار على أن الرئيس الدانمركي أصر أن يقحم أنفه في هذه المعضلة ليعترض اعتراضا كبيرا ويدين بشدة عمل شركة (آرلا) التي قالت لنا نحن المؤتمرين هنا، أرجوكم أنا أحترمكم، أنا أدين عمل الصحيفة، لا تأخذوني بجريمتها!

مجرد هذه الكلمة العاقلة التي كنا نتمنى من المجتمع الدانمركي برمته أن ينبري ليقولها وإن كان لا بد لنا أن ننصف لنقول: نعم، هناك أصوات جميلة في الدانمرك. خبراء في الدستور قالوا كلمتهم الطيبة، خبراء في السياسة قالوا كلمتهم الطيبة. عشرون دبلوماسيا كبيرا اعترضوا. ستين ألف توقيع من أناس جامعيين ومدرسين وطلاب قدموها للدولة أنك لا بد أن تكفي عن هذه المهزلة.

إذا نحن كنا وما زلنا وسنبقى نقول مشكلتنا مع الصحيفة وديننا علمنا أن لا نأخذ الصالح بجريرة الطالح، أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وإن كان لا بد من كلمة أعلم أن الكثير يسأل عنها، وهي قضية المقاطعة. فأنتم أعلم منا أننا مسلمو الدانمرك لم نطالب بالمقاطعة ولن نحث عليها ولم نطالب الناس بها ولكنها وقعت ردة فعل من الشعوب الإسلامية وإن دلت على شيء فتدل على أن قلوبهم قد غلت بالإهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كان لا بد اليوم من موقف فإن إخوانكم من اللجنة التي أتت من الدانمرك تلتمس منكم أن تقدروا الظرف الحالي الذي تعيشه هذه المرحلة في الدانمرك مسلمون وغيرهم وأننا لا بد أن نثمن عاليا موقفا ليس فقط شركة(آرلا)، إنما أي جهة من الدانمرك تتبرأ من عمل الصحيفة، فلا بد أن نرسل لها رسالة إيجابية لنبين لهم عدلنا نحن كمسلمين، وأننا لا يمكن أن نظلم أحدا، لكن أخيرا أقول لكم أيها الإخوة الأحباب ، إن كان لكم شرف نصرة النبي والتمتع بهذه النصرة فنحن لنا شرف التعرض لهذه الأذية لنصرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

أنا واحد من كثر قد أتتهم التهديدات لأننا انتصرنا لرسول الله سواءً كان واقعيا أو غير واقعي، الله أعلم به، ولكن الخطر لا يهمنا أن يأتي من مصادر مجهولة. الذي يزعجنا أن يتلفظ مسؤولون في الحكومة الدانمركية، عندما يهدأ العالم الإسلامي، لا بد أن نصفي حساباتنا مع الأئمة والدعاة وكأنهم اقترفوا جريمة لأنهم انتصروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

نقولها بصراحة، حياكم الله على جهودكم، بارك الله بكم على هذه الاستضافة الكريمة ونسأل الله أن لا يخرج هذا الجمع إلا بما يرضي الله أولا وما يقر عين رسول الله صلى عليه وسلم ثانيا، وما يعيد العزة لأمتنا ثالثا وما يكون رسالة حضارية إنسانية طيبة هادئة هادفة نسلمها للغرب أننا إذا كنتم كما تقولون حريصون على السلام فنحن دين الإسلام وأحرص من كل العالم على هذا السلام ولكن لا سلام مع الاعتداءات والإهانة، فنقول للمجتمع الدانمركي سامحوني، لأنني لا بد أن أوجه الخطاب ولعلم بعضكم هناك أكثر من جهة إعلامية دانمركية، أتت لتسمع كلامي وكلامكم ونحن ليس عندنا شيء في الخفاء، ما نقوله في خطبة الجمعة أو للصحافة أو حتى في لقاءاتنا الخاصة كلام واحد. لقد ساءتنا الرسومات! لا يمكن أن نرضى عنها! لا بد من الاعتذار والتراجع والاعتذار عندهم صعب لأنهم يعلنون أنهم إن اعتذروا، فمجرد الاعتذار إقرار بعدم التكرار وهذا ما لا يريدونه.

فاتقوا الله أيها المسلمون واعلموا أن الأمة تنظر إليكم لتخرجوا بقرارات متوازنة تكفل أولا وهذا همنا نحن مسلمو الدانمرك، تكفلوا لنا حماية ديننا ورموزنا ومقدساتنا ولكن لا يعني ذلك أن لا تكون منسجمة مع الواقع أو واعية لما يجري.

بارك الله فيكم! عندي الكثير، لكن وقتكم أثمن. جازاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله.

ـ كلمة ألقيت خلال المؤتمر العالمي لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام الذي عقد في البحرين

ـ المشرف العام على اللجنة الأوروبية لنصرة خير البرية 

1
4090
تعليقات (0)