على من يقع اللوم؟

خليل علي حيدر
عُقدت بين السادس والثامن من مارس 2006 في الكويت، ندوة لتشجيع الاعتدال والتعددية والتسامح الديني، بعنوان "نحن والآخر"، تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. دعت الوزارة فعاليات دينية وفكرية متعددة، محلية وخليجية وعربية وخارجية للمشاركة، وكان أبرز ضيوف الندوة فضيلة شيخ الأزهر الشريف، د. محمد الطنطاوي. لقد تحدثت عن أعمال هذه الندوة في مكان آخر، وأود هنا أن أشير إلى بعض النقاط المهمة المثارة في أي حوار في ندواتنا عن "الآخر"، مما لم تعد تتحمل التأجيل.

إن أول ما نلاحظه في هذا المقام تضارب كتب الأحزاب الإسلامية، وهي التي-للأسف- أشد تأثيراً في الشارع والعامة، في وضع "أهل الكتاب". فمن مؤلفي هذه الكتب من يتحدث عنهم بحرص ولين، ويقول إن لهم "منزلة خاصة"، كما يفعل د. القرضاوي في بعض مؤلفاته، ومنهم من يعتبرهم أعداء ويخاطبهم ككفار. فلا توجد في الواقع رؤية إسلامية واحدة لهذا "الآخر" الذي تنعقد الندوات لكسب ثقته! إذ تتفاوت الدعوات بن داع من تيار "الإخوان المسلمين" إلى اعتبارهم مواطنين من الدرجة الأولى كالمسلمين، في مصر مثلاً، ودعاة من نفس الحزب في الكويت مثلاً، إلى إغلاق الكنائس وربما إخراج النصارى من دول الخليج والجزيرة.

والمشاهد والمسموع أن عدداً لا يستهان به، حتى من رجال الدين المعتدلين، يستخدمون مصطلح "كفار" للإشارة إلى المسيحيين واليهود، مما يثير هنا ملاحظة ثانية: هل الحوار مع الآخر "حوار سياسي"، في الحقوق والواجبات الوطنية بين أطراف ينبغي أن تكون متساوية، أم أن مرجعية هذا الحوار "دينية"، بين مسلمين على حق وآخرين من النصارى على ضلال؟

وإذا كانت النظرة لا تزال بهذا الضيق والاضطراب والتضاد نحو أتباع "الأديان السماوية"، فكيف نستطيع نقل الحوار إلى أتباع الديانات الآسيوية مثلاً، كالبوذية والكونفوشية والهندوسية، وبخاصة إن صعد نجما الهند والصين، ووجدنا أنفسنا مضطرين إلى التفاهم الثقافي والديني معهما؟

ومما يضعف المجهودات في هذا المجال أن التيار العاقل و"المتسامح" و"الوسطي"، مقارنة بالمتطرفين الآخرين، لا بمقاييس إعلان حقوق الإنسان، غير قادر على أن يوجه جمهور العالم الإسلامي داخل العالم الإسلامي أو في أوروبا. فالأفكار المتشددة والرؤى المتطرفة لا تزال واسعة الرواج في ثقافة "الإسلام السياسي" في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا، كما أن استمرار الإرهاب في العراق و"الإعجاب" بابن لادن ونجاح تجنيد الشباب في العمليات الانتحارية المعادية، ليسا سوى بعض ملامح "نجاح" قوى التشدد. ومن المؤسف أن الجماعات الإسلامية التي تصف نفسها بالاعتدال، لا تزال مترددة في التصدي بحزم للتيار التكفيري مثلاً والسلفية الجهادية عموماً، وجماعة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" والإرهاب الدموي في العراق على وجه الخصوص. بل كثيراً ما نرى الكتاب الإسلاميين، بعد أن يقولوا كلمة أو كلمتين في ذم المتطرفين وابن لادن والزرقاوي، يكرسون معظم كلامهم للهجوم على العلمانيين والليبراليين وسياسة الولايات المتحدة والتحلل الأخلاقي والكثير من الأشياء الأخرى، التي تشفع في نهاية المقال لأهل التطرف تطرفهم، ولأهل الإرهاب إرهابهم، إلى أن تُحل مشاكل الفقر في العالم الإسلامي، أو تنتهي ظاهرة البطالة في مصر والجزائر وباكستان وبنغلادش، أو تتغير السياسة الأميركية في العالم!

وهذا للأسف الشديد جوهر كتابات "المثقفين" العرب، ومواعظ "الإسلاميين"، وملتقى خيوط "الإسلام السياسي"، و"التيار القومي" في تحالفهما الجديد غير المقدس!

وكثيراً ما يجتمع هؤلاء خلال الندوات في الولولة على الهوية العربية- الإسلامية للأمة، وفي التحذير من فرض النموذج الحضاري الغربي على العرب والمسلمين، ولكن إلى أي حد بذل هذان التياران مساعيهما في مجال إيجاد نموذج عصري إسلامي عربي ناجح؟ ولماذا تؤدي مثل هذه المحاولة دائماً إلى عزل الأقليات غير المسلمة وغير العربية وربما غير "السنية"؟ بل أساساً، هل هناك نموذج حضاري غير صناعي غير رأسمالي ناجح؟

ونحن نتحدث دائماً عن الانتقال من "الإسلام المتشدد" أو "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الحضاري"، ولكن هل نحن مجمعون على ماهية هذا الإسلام؟ ألم يعادِ الفقهاء مثلاً الفلسفة والفنون والانفتاح الاجتماعي والنشاط النسائي العلني، بل حتى تعليم الإناث، والسماح بالطباعة؟ وعارضوا تعليم اللغات الأجنبية والنظريات العلمية ودخول التكنولوجيا؟ ألم يعادِ الفقهاء مفكري المسلمين ويحرقوا كتب ابن رشد وقادوا حملة شاملة، ولا يزالون، لتصفية أي فهم غير ديني سلفي للحياة والمجتمع؟ فماذا هو هذا "الإسلام الحضاري" الذي نريده، وما تعريفه؟ وما تضاريسه؟

وإذا كنا نريد "عقلنة" الإسلاميين المتشددين في بلادنا، أما من دور مهم يلعبه المسلمون الأوروبيون والأميركان والأستراليون والكنديون في هذا المجال؟

وأين دور المسلمين الذين يعيشون هناك، في ظل حرية العقيدة وفي ظل الديمقراطية والحداثة والحقوق المتساوية للمرأة والرجل، من أن يلعبوا دوراً رئيسياً في انتشال العالم العربي والإسلامي؟ ولماذا لا يفتح أحد من قادة وزعماء ومفكري النشاط الإسلامي في أوروبا وأميركا فمه إلا بالتهجم على الغرب والبكاء من شدة الاضطهاد والصياح واغوثاه.. واغوثاه؟!

أين دور هؤلاء في مجال توعية العالم الإسلامي بمجالات نجاح "حضارة الآخر" والحريات التي يعطيها هذا الآخر لـ"الآخر المسلم والبوذي والهندوسي"، وبمزايا العقلانية والتسامح؟

ولماذا لا تزال تجمعات المسلمين في أوروبا وكندا وأستراليا وغيرها تفرخ الإرهابيين وتبعث بالمقاتلين الأشداء إلى قرى العراق أو تجندهم لتفجير قطارات لندن ومدريد وباريس؟

ثم إن من أخطر مشاكل الإسلاميين في مجال أزمتنا بين "الأنا والآخر".. ازدواجية الخطاب!

فلكل مقام عندهم مقال!

يقولون في العالم الإسلامي شيئاً، وفي أوروبا وأميركا شيئاً آخر.

ويقولون بين المسلمين وأتباع تياراتهم شيئاً وبين المسيحيين وبخاصة المتسامحين منهم شيئاً آخر. يدافعون عن الليبرالية والعلمانية وحرية بناء مراكز العبادة وإنشاء الجمعيات والبنوك وإصدار الصحف الإسلامية بكل حماس وقوة.. في أوروبا وأميركا. وفي بلدان العرب والمسلمين والمشرق يتحولون إلى محذرين من انحلال الغرب ومخاطر عزل السياسة عن الدين ومن المرأة ومن أعداء المسلمين، بل ومطالبين بـ"تطبيق الشريعة"!

ومن الغريب حقاً أن يكون الدور السلبي والمشين للمتطرفين من "الجهاديين" والمتشددين عموماً السبب الرئيس في معاداة الكثير من الغربيين للإسلام والمسلمين، بينما تهاجم كل الندوات والمقالات في بلداننا الغربيين وأجهزة الإعلام الأجنبية والتأثير الصليبي والصهيوني!

لقد أمضيت شخصياً سنوات ممتدة أتابع كتب وكتيبات بل ومقالات الإسلاميين، من إخوان وسلف وجهاد وتحرير وسنة وشيعة، ولم تمر عليّ حتى الآن أي دراسة "إسلامية" عن دور الإسلاميين المتشددين وغلاة السلفيين في تشويه صورة الإسلام في أوروبا وأميركا، بينما ظهرت عندنا أطنان من مثل هذه الكتب والأدبيات، عن دور الأوروبيين والنصارى والكفار واليهود والصهاينة والصليبيين واليمين الأوروبي والمسيحية الجديدة في أميركا... إلخ. ليس هذا فحسب، بل إن الأسوأ، أن الإسلاميين خاصة وعامة المسلمين عموماً يتهمون الغربيين بأنهم "لا يفهمون الإسلام"! تصوروا يا إخوتي، كل هذه الدراسات والترجمات، والبحوث والمقالات، والمتابعة الإعلامية والتقارير الدورية، والاحتكاك اليومي ومعايشة المسلمين في أوروبا وأميركا وكل مكان، والإنترنت والفضائيات.. والناس هناك إلى الآن لا تفهم الإسلام! من شوّه وجه الدين وغيّر ملامحه؟ هل الإسلام إذن منهج ديني منفصل.. أم لغز من الألغاز؟

الخطباء والمحاضرون في مثل هذه الندوات عن "نحن والآخر"، يقولون إن المسلمين أنفسهم كذلك لا يفهمون "الإسلام الصحيح" و"الشريعة الحقة"!

على من يقع اللوم؟

صحيفة الإتحاد الإماراتية

1
4085
تعليقات (0)