محمد سعيد رمضان البوطي
إنكار المنكر والتنديد به واجب ديني أمر به الله ضمن شروط، وهو من أولى ثمرات البغض في الله. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «أوثق عرى الإيمان بالله الحب في الله والبغض في الله». وملاقاة صاحب المنكر لدعوته إلى الإقلاع عنه، والسعي إلى إقناعه بذلك عن طريق الحوار، واجب ديني آخر لا معنى للاستنكار والتنديد من دونه، وحسبك دليلاً قاطعاً على ذلك قوله تعالى: «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».
ومن المعلوم أن أصواتاً كثيرة من مسؤولين وغيرهم، ارتفعت في الدنمارك بعد ازمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تدعو علماء المسلمين والدعاة إلى هذا الواجب الذي أناطه الله بأعناقهم، وإلى التلاقي لبحث هذا الموضوع، وفتح باب الحوار حول حقيقة الإسلام وما ينبغي أن يعرفوه من سيرة رسول الله. وسئلت من قبل بعض من وجهت إليهم هذه الدعوة عن رأيي في الاستجابة لها، فقلت: إذا دعينا إلى التباحث والحوار حول الإسلام أو ما يتعلق به، فلا خيار لنا في الأمر، والاستجابة للدعوة واجبة، والخطاب القرآني في ذلك قاطع. غير أني علمت من بعد أن في الإسلاميين (وأنا لا أحب التعامل مع هذا المصطلح، لكنني أستعمله الآن على سبيل المشاكلة) مَن حذّر من الاستجابة لهذه الدعوة، وأصرّ على أن الحوار مرفوض وغير وارد وبذل جهداً كبيراً للصدّ عن هذا السبيل!
وبصرف النظر عما تم بعد ذلك من توجه ثلّة من الناشطين في أعمال الدعوة الإسلامية إلى الدنمارك، ومن اللقاءات الحوارية التي تمت، والآثار المحمودة التي نجمت عن ذلك، فإني أود أن أسأل أولئك الذين ضاقوا ذرعاً بالحوار وحذروا إخوانهم منه، وذهبوا في استنكار سعيهم إلى ذلك قريباً من استنكارهم للذين تطاولوا على رسول الله: أهو استنكار منكم لمشروعية الحوار مع الآخرين، أم هو قناعة منكم بأن الذين توجهوا للقيام بهذا الواجب غير مؤهلين له، وبأن سياسة الدعوة إلى الله ومحاورة الآخرين عن طريق الدعوة وقف على منظمة أو جمعية، أنتم دون غبركم سدنتها، وإليها دون غيرها كلمة الفصل في قرار الاستجابة وعدمها؟
نفترض أولاً أن الموقف هو إنكار مشروعية الحوار مع الآخرين عموماً، أو مع الذين تورّطوا في التطاول على رسول الله خصوصاً. ولا بد أن نبدي في هذه الحال دهشتنا من تجاهل ما هو معلوم بالبداهة من أوامر القرآن وما هو معلوم لكل مسلم مثقف من سيرة رسول الله. اذ كيف يتأتى طيّ الدعوة إلى الحوار أمام قول الله تعالى: «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»؟ وفي القرآن مشاهد كثيرة للحوار العقلاني مع الآخرين، لا يجهلها من هو على صلة مّا بالقرآن. بل كيف يتأتى الإعراض عنه والتهوين من شأنه وقد علمنا أن رسول الله ضحى بسبعة من عيون أصحابه يوم الرجيع في سبيل الحوار مع المشركين، ثم ضحى في العام ذاته بسبعين من أخلص أصحابه على طريق الحوار مع المشركين في نجد، لم ينج منهم إلا واحد أبقاه الله ليعود إلى رسول الله بخبر ما جرى لإخوانه؟
وقد دل عمله عليه الصلاة والسلام على أنه لم يكن يشترط لمشروعية الحوار أن يكون ناجحاً أو يغلب عليه النجاح، بل كان ينطلق إليه استجابة لأمر الله، بصرف النظر عن النتائج. إنّ نجاح الحوار مع الآخرين، في يقينه، أن يتم على النهج الذي أمر الله به، سواء هدي الآخرون إلى الحق بسببه أم أصرّوا على باطلهم وتمسكهم به. إنه الإبلاغ الذي لا بديل عنه، وهو الواجب المراد لذاته، بصرف النظر عن النتائج. ثم إن الإعراض عن الدعوة التي توجه إلى المسلمين للتلاقي من أجل الحوار، لا بدّ أن يحمل في طياته الدلالة على أن كلاً من الاستنكار والتنديد مطلوب لذاته، وليس وسيلة لحل مشكلة أو أداة للإقلاع عن منكر. ومعاذ الله أن يحتضن الإسلام مثل هذه الدلالة.
وصفوة القول أن محاورة الآخرين هو العمود الفقري لسائر أعمال الدعوة إلى الله، وحسبك من قدسية أعمال الدعوة إليه عز وجل قوله في محكم تبيانه: «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين». فمن وقف في وجه الحوار أو فنّده أو استخف به، فليعلم أنه إنما اتخذ هذا الموقف من واجب الدعوة إلى الله عز وجل.
على أن تلاقي علماء المسلمين ودعاتهم مع الآخرين أياً كانوا على مائدة المباحثة والحوار، له آثار ونتائج أخرى ذات أهمية بالغة. اذ يزيل كثيراً من اللبس الذي يرسخه ويضخمه تجافي الأطراف عن اللقاء، ويكشف عن كثير من النقاط الغامضة والأمور المجهولة التي تسبب الوحشة وتفتح أمام العدو المشترك مجالاً رحباً للإيقاع بين الأطراف. وعلى سبيل المثال، فإن الالتباس القائم بين حرية التعبير عن الرأي والمعتقد، وحرية إيذاء الآخرين بالهمز واللمز وتمزيق الكرامة، في ذهن كثير من الناس في الغرب، إنما يزيله التلاقي والحوار. وعلى سبيل المثال أيضاً من المفيد جداً أن يستبين لكل من الجالية الإسلامية في أوروبا والقائمين بالحكم وإدارة الأمور السياسية فيها، ما يلعبه طرف ثالث من دور خفي وخطير للإيقاع بين تلك الجالية والممْسِكين بأزمّة الحكم هناك. وقد كان هذا الدورُ إلى الأمس القريب خفياً، وكان أبطاله يتوارون عن أعين الرقباء في الظل. لكن كُلاً من الدور وأصحابه باتا اليوم جليين ومكشوفين، ويتلخصان في ما أقدمت عليه الصهيونية العالمية من سلسلة محاولات، إثر النتيجة التي انتهى إليها الاستفتاء في المجتمعات الغربية كلها قبل خمس سنوات، والذي كانت نتيجته أن إسرائيل هي الدولة الإرهابية الأولى في العالم، وهي أيقنت أن ما جاء بهذه النتيجة غير المتوقعة إنما هو نشاط الجاليات الإسلامية المتزايد في أوروبا عددياً وتغلغلاً حضارياً.
وسرعان ما وقعت إسرائيل على العلاج الذي يدرأ هذا الخطر الكبير عنها. إنه علاج واحد لا ثاني له، هو العمل بكل الوسائل الممكنة على الإيقاع بين دوائر الحكومات الأوروبية والجاليات الإسلامية فيها. كانت الوسيلة الأولى إلى ذلك إثارة مسألة الحجاب الإسلامي وتحريك أصحاب القرار للعمل على منعه، ثم أعقبتها الوسيلة الثانية اليوم، وهي استثارة غيظ المسلمين عن طريق دفع بعضهم إلى التطاول على شخص رسول الله عن طريق الرسوم. والكشف عن هذه الحقيقة لا سبيل له إلا الحوار، مشفوعاً بعرض الوثائق والدلائل. وسيتضح حينئذ أن الطرفين، الأوربيين والمسلمين، إنما يراد لهما أن يكونا ضحيتين لهذا المكر. ومعرفة الخفايا في مثل هذه الحال هي السبيل إلى حلّ المشكلة وإنهاء التوتر.
هذا هو الافتراض الأول في السبب الذي دعا أولئك الناس إلى أن ينكروا على إخوة صالحين لهم استجابتهم للدعوة التي تلقوها من كثير من المسؤولين الدنماركيين للتلاقي على مائدة الحوار. أما الافتراض الثاني فهو قناعة أولئك أن الذين هَبُّوا للاستجابة، وتوجهوا، من دون أي استئذان منهم إلى مائدة المناقشة والحوار، غير مؤهلين لذلك، وأن القيام بمثل هذا العمل ينبغي أن يكون وقفاً على جماعة أو منظمة بخصوصها، ومن ثم فإن تجاوزها شق لعصا الجماعة وعقوق لمقتضى الانتماء. ونقول تعقيباً على هذا الافتراض: لو كانت الخلافة الإسلامية بأيامها المزدهرة ممتدة إلى يومنا هذا، إذن لقلنا: إن خليفة المسلمين وإمامهم هو المرجع الأول في معالجة هذه المشكلة واتخاذ القرار المناسب لحلّها، وإن على سائر العاملين في الحقل الإسلامي من علماء الإسلام والداعين إليه، أن يهتدوا بهديه وأن يلتزموا تعاليمه، ولقلنا إن أي شرود عن تعاليم الخليفة شقٌ لعصا المسلمين حقاً وفتح لثغرات الخلاف في بنيان الوحدة الإسلامية.
لكن عصور الخلافة الإسلامية طويت -كما هو معلوم – عن حياتنا اليوم، وعادت الدولة الإسلامية دويلات شتى، وأصبح علماء المسلمين والدعاة إلى الإسلام جماعات متنوعة. ولا يتأتى في هذه الحال أن تزعم جماعة منها أن لها سلطة القيادة والتوجيه على الجماعات الأخرى. ومهما تمكنت من جمع شتات العلماء وضفرهم في جماعة واحدة، فإن عليّ أن أعلم كما قال الإمام مالك للمنصور: ان من وراء جماعتي هذه علماء أفذاذاً كثيرين منتشرين في أصقاع الدنيا كلها، لا سلطان لي على شيء من أفكارهم واجتهاداتهم، وليس لي من سبيل إليهم إلا الأُخوة في سبيل الله والتعاون على مرضاة الله، بل عليّ أن أعلم أيضاً أن ليس لي من سلطان على الناس الذين انضووا في جماعتي. إن لهم أن يكونوا أعضاء في جماعتي اليوم، وأن يتحولوا عنها غداً، وإن لهم أن يتّفقوا اليوم معي في اجتهاد رأيته، وأن يخالفوني إلى اجتهاد آخر يرونه غداً.
فإن أنا أبيت إلا اتباع الناس كلهم للجماعة التي اصطفيتها، وأصررت على أن أتهم المخالفين لي بشق عصا المسلمين، لا سيما في أمر لم يشرد المخالفون فيه عن أمر الله ورسوله، بل انقادوا فيه لأمر كل منهما، فذلك دليل ناطق بأني اتخذ من عصبيتي الفردية أو الجماعية حاكماً على شرعة الله وهديه. ولا أعلم في الدنياكلها ابتلاءً يطوف بالفئة الداعية إلى الله، شرّاً من الابتلاء بمشاعر العصبية للذات أو الجماعة، إنها إن هيمنت على صاحبها أحالت شرعة الله وأحكامه إلى مطية ذلول تدار على خدمتها، أي خدمة العصبية وتغذيتها بغذاء الاستكبار والاعتداد بالذات.
أخيراً، وبصرف النظر عن هذين الاحتمالين والتعليق عليهما، فإن الحوار الذي دعت إليه فئات من المسؤولين وغيرهم في الدنمارك تم كما هو معلوم، وحقق كثيراً من ثماره. وإنه لَعبادة مأجورة حتى ولو لم يحقق شيئاً من ثماره، فكيف وقد حقق الكثير منها. ولَتمنيت أن لم تَحُلْ موانع دون اشتراكي مع الذين تقربوا إلى الله بهذا الجهاد الفكري المبرور. ولقد عشت حياتي الغابرة كلها وأنا أقدس الحوار وأدعو إليه واستجيب له، ورأيت بعيني آثاره الحميدة، ودوره في تبديد غاشية الوحشة مع الآخرين، ومدً نسيج الأنس في مكانها معهم.
لقد استنكرت الكفر الذي تنطوي عليه المادية الجدلية، ولكني ترجمت استنكاري لها بدرسها وهضمها والتأمل في قوانينها ومقولاتها، ثم أقبلت إلى قادتها ومنظّريها أناقشهم فيها، على ضوء موازين العلم وحده، فكان من وراء ذلك الخير العظيم والتلاقي على الحق. واستنكرت الكفر الذي تنطوي عليه الفلسفة الوجودية، وجربت حظي في التطاول على الآخذين بها والمنتسبين إليها، وفي تسخيفهم والاستهانة بأفكارهم، فلم أعد من تلك التجربة إلا وقد حُمِّلت أضعاف ما اتهمتُهم به من السخافة في الفكر والضياع في الانتماء. عندئذ أقبلت إلى الوجودية أعكف على درسها، وأحمّل نفسي وعقلي أثقال سخافتها، ثم عدت إلى الذين أوسعوني اتهاماً بالجهل والتخلف والفكر المشيخي الضيق، أحاورهم فيها وأجادلهم في مقولاتها، فكان أن تحول التقاذف بيننا بتهم السخافة والكفر والجهل، إلى التواصل والتآنس من خلال جسور الحوار العقلاني، ثم تفتحت خلال الحوار فرص الحديث عن الإسلام وحقيقته ومصدره، وتجلى للجميع في أكثر من لقاءٍ مصداق قول الله تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق».
شرط واحد ينبغي أن يلاحظه ويلتزم به المسلم الداعي إلى الله عند محاورته للآخرين، هو أن يقف منهم موقف الندّ من الندّ، ولا يجوز أن يتعالى عليهم أو أن يقف منهم موقف المرشد من مريده أو موقف الناصح من المتنكب عن الجادة. وحصيلة القول أن واجب التنديد والاستنكار لا يغني عن واجب التبصير والحوار. وإذا كان الإخلاص لله هو السائق والحادي، فلسوف ينبثق من تلاقي هذين الواجبين خير كبير يعم سائر الأطراف.
صحيفة الحياة اللندنية