عبد الباقي صلاي
الحرب على الإسلام وعلى المسلمين ليست وليدة الساعة، كما أنها ليست بالجديدة أو بالأمر الغريب المستهجن، فالتاريخ حافل بكل صنوف التآمر والاعتداء على الإسلام سواء ما تعلق منه بتشويه صورته، والطعن في تعاليمه السمحة، والحط من قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بتمزيق أوصال الأمة المسلمة، باحتلال أراضيها عنوة تارة، وبكسر إجماعها ونقض غزلها عن طريق إحياء القديم من عصبيات الجاهلية الأولى تارة أخرى.
ولاتزال الشواهد كثيرة على أن الاستعمار الصليبي الحاقد، هو نفسه لم يغير نمط تفكيره التوسعي الظالم، ولم يغير من خططه واستراتيجيته قيد أنملة، في تعامله مع الإسلام وأمته الممتدة على طول خط طنجة - جاكرتا، وإن أخذ لنفسه صورة عصرية، مستعملاً لغة فيها الكثير من المفردات الجميلة المحببة للنفس، كحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية تقرير المصير وحوار الحضارات وتقارب الأديان وتواصل الثقافات، وشتى المصطلحات المثخنة برنين العصرنة التي يحويها القاموس الاستعماري.
لكن رغم كل ما يتميز به هذا الاستعمار الصليبي الحاقد، ورغم معرفة هذه الأمة بكل تحركاته وأطماعه، فإنه لايزال يتغلغل للأسف الشديد في رقعتها الجغرافية، ولايزال محافظاً على موقعه الاستغلالي، مستحوذاً على نفس الامتيازات التي كان يمتلكها، عندما كان هو الآمر والناهي على معظم الأراضي العربية والإسلامية.
ومن السذاجة بمكان أن نقول إن الاستعمار الصليبي قد رحل من غير رجعة، ولم يعد له وجود أو أثر على الأراضي العربية والإسلامية التي كانت تحت طائلته، وإن غيابه الفعلي الميداني يعني عدم حضوره في كل كبيرة وصغيرة من حياة العرب والمسلمين، ومن يريد أن يتأكد من ذلك فلينظر إلى حال العرب والمسلمين، ويستحكم عقله في كل ما يجري داخل الدول العربية من جمود وخنوع واعتماد شبه مطلق على سواعد نفس الاستعمار الصليبي، وما تجود به هذه السواعد من منتجات غذائىة، وأشياء أخرى تستعمل كلية في معاش هذه الشعوب العربية والإسلامية، وقد قالها صريحة ومن دون مواربة السفير الدنماركي في الجزائر، على خلفية مقاطعة المسلمين للمنتجات الدنماركية، ولو من باب المزاح - وهذا جزء يسير من مكنونهم الحقيقي تجاهنا - إن العرب والمسلمين إذا قاطعوا منتجاتنا فماذا سيأكلون؟ وقد كان السفير محقاً في ما يقول، بل منصفاً كونه نبّه العرب والمسلمين، وحاول إيقاظهم من سباتهم الطويل، وإن كانت لفظته مجرد زلة لسان، تعبر عن فكر رجل يدرك مغزى ومعاني ما ينطق به من كلمات.
وتحضرني مقولة قالها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في محاضرة له، إن نفس الاستعمار الصليبي لو أخذ منا منتجاته، بالجملة والمفرق، لوجدنا أنفسنا نحن العرب والمسلمين جياعاً وعراة حفاة، لأننا ببساطة شديدة لا نزرع ما نأكل ولا ننتج ما نلبس.
هذه هي الحقيقة التي ينبغي التسليم بها، واحترام كل من يواجهنا بها، أو ينبهنا إليها، سواء كان صديقاً أو عدواً، كما يتوجب علينا أن نقر بأن الأمة العربية والإسلامية تعيش عالة على غيرها، ولاتزال مقيدة بأغلال الاتكالية، وأغلال فكرة تغليب الاستهلاك على الانتاج، وعدم التفكير في المستقبل، وإن كانت هي التي لاتزال تمد استعمار الأمس بكل متطلبات الانتاج والمواد الخام.
ولقد أتيحت للأمة الإسلامية على خلفية الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، الفرصة كي تراجع نفسها، وتعرف قيمتها، بأن تنظر إلى ما تحسنه، ولا تعتمد على ما يأتيها عبر بحارها وأجوائها، كما أتيحت لها الفرصة بأن تستجمع قواها المهدرة في ما لا فائدة منه، وتتقارب فكرياً ومفاهيمياً ما دامت العاطفة الإسلامية استطاعت أن توحد الجميع من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
المسلمون على تعدادهم الكبير قادرون اليوم أن يقلبوا الكفة لصالحهم، ويحققوا الخطوة المعجزة نحو المستقبل غير المقيد بما يجود به الاستعمار الصليبي من سلع تكاد تقترب من النفايات، وبتكنولوجيا تلبي فقط النهم الاستهلاكي.. وبما أن الإجماع حاصل على مقاطعة كل منتجات الدنمارك التي لم تقبل أن تتنازل عن كبريائها مثقال ذرة، كي تعترف بجريمتها النكراء، وتعتذر للمسلمين على ما بدر منها من تلك الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإن مواصلة حملة المقاطعة تصبح في حكم الفرض الشرعي، ولايجوز لأي كان أن يشق هذا الإجماع مهما كانت صفته، ومهما بلغ مقامه.
وقد كنا نأمل من الدكتور طارق سويدان، الذي كان أكثر حزماً في مؤتمر كوبنهاجن عندما طالب بحرية التعبير حول المحرقة اليهودية الهولوكوست ومعاداة السامية، ألا يستدرج للحوار مع الدنمارك قبل أن يكتمل الحوار مع بقية علماء الأمة القادرين على استنباط الحكم في مثل هذه المسائل الحساسة، ما دامت الجماهير المسلمة لاتزال تعيش حالة من الحراك والديناميكية، ولاتزال على أهبة الاستعداد لأن تقبل بأي توجيه يؤدب المستهترين من الدنماركيين ومن حالفهم على مسلكهم الوضيع، لأن هذا الحراك الجماهيري الإسلامي العريض في واقع الأمر والحال يعتبر ظاهرة صحية، يكشف واقع هذه الأمة المترامية الأطراف، بأنها أمة وإن كانت مريضة لكنها ليست أبداً أمة ميتة.
فالمسلمون أثبتوا من خلال مقاطعة المنتجات الدنماركية - والحقيقة ليست الدنمارك منذ خلت فقط على خط نار المواجهة العلنية، فلقد نسينا على سبيل المثال إسبانيا وألمانيا ونيوزلندا والنرويج، وهذه الدول معظمها لم تتعرض منتجاتها للمقاطعة كما تعرضت منتجات الدنمارك - إنهم يمتلكون القدرة الفعلية على خلخلة الموازين، وزعزعة اقتصاديات الدول مجتمعة بدلاً من دولة واحدة، وهذه تعتبر الخطوة الأولى في طريق الاعتماد على النفس.
وإذا ما سمحنا لأنفسنا وعاتبنا الذين زاروا الدنمارك، فذلك من باب الحرص على عدم تشتيت جهود الجماهير المسلمة العريضة التي عبرت بعفوية شديدة عما تشعر به، وتتحسسه من عاطفة دينية متقدة، وكذا الدخول في متاهات الجدل العقيم الذي لا يخدم أحداً من الأمة العربية والإسلامية في هذا الوقت الحساس والعصيب، ولكن يخدم الاستعمار الصليبي الحاقد، ومخططاته الجهنمية، لكي يبقى على نفس الإيقاع الاحتلالي الذي تعود عليه منذ عدة قرون.
مؤتمر كوبنهاجن كان من الأحرى له ألا يكون، لسبب واحد ووحيد، كونه جاء في وسط قمة ردود فعل المسلمين على ما تسببته الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، اضافة الى ضبابية الرؤية حول مغزى الدنماركيين - الذين كانوا في موقفهم أعزاء، ورحماء في ما بينهم، لم يقبلوا حتى بالاعتذار ولو نفاقاً أو دبلوماسية - من هذا المؤتمر ولو أنه كان من الوهلة الأولى يهدف إلى زعزعة الصف الإسلامي، وتفريق الجهود الإسلامية من جديد، بعد أن استطاعت الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل رعاع الصحافة الدنماركية، أن تجمعها على قلب رجل واحد، وتحرك شيبها وشبابها، ونساءها، وأطفالها من المحيط إلى الخليج.
وليست هذه المرة الأولى الذي يحاول فيها الاستعمار صرف الأحداث عن مسارها الطبيعي عندما يشعر بالخطر يداهمه، ألم يدوسوا على المصحف الشريف بنعالهم، ألم يستبيحوا حرمات هذه الأمة ولايزالون في العراق وفلسطين، ألم ترفع بريطانيا العظمى، من شأن ومقام صاحب آيات شيطانية سلمان رشدي، وهو المخربش الذي لم يكن له اسم يذكر في سجل الكتاب الفاشلين فضلاً عن وجوده ضمن الكتاب المرموقين، كل هذه الأحداث تمكن الاستعمار من إخراجها عن مسارها، وبقيت بعد ذلك مجرد ذكرى مأساوية!!
الحوار الذي تمنينا أن يكون قبل مؤتمر كوبنهاجن، هو ذلك الحوار الذي يكون بين كل القوى العاملة في الحقل الإسلامي، التي تؤمن بأن التغيير الحقيقي ينطلق من مثل هذه الأحداث، كما يعبر على ذلك الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل «ربما كان الأولى أن نبدأ حواراً مع النفس نعرف فيه بالضبط من نحن، وأين نحن؟ وماذا نريد»؟
فكان أولى أن نتفق ومن غير تدخل طرف آخر، دنماركي أو غيره، على جملة منطلقات نأخذ بها في هذه المرحلة الحرجة التي تعيش فصولها الأمة العربية والإسلامية، لنعرف الخطوات الكفيلة اتخاذها في المستقبل، ومختلف الميكانزمات الملائمة لذلك، وحتى لايتكرر سيناريو الحمار الذي كان يضرب على بطنه فكان يقول إنني أسمع صوت طبل قريباً مني، ولما جاءته الضربة على أم رأسه نهّق وقال: لم أكن أعلم أن صوت الطبل انتقل إلى رأسي.
لأن الاستعمار الصليبي الحاقد هو نفسه لم يتغير، كما لايزال على حقده التاريخي الصليبي الدفين، ومن الصعب جداً معرفة خططه الماكرة بهذه البساطة التي يدعو لها بعض من تبوءوا منبر الدعاة، ولم أجد صراحة تعبيراً بليغاً قيل في الاستعمار كالذي قاله المفكر الجزائري مالك بن نبي «في الواقع عند الاستعمار معلومات عنا، أكثر بكثير مما عندنا، إنه يكيف بكل بساطة موسيقاه وفقاً لانفعالاتنا، ولعقدنا، ولنفسيتنا، إنه يعرف مثلاً أننا تجاهه لا نفعل، وإنما ننفعل، وهو عندما يكون قد دخل مرحلة التفكير في مشاكل الغد، في الحفر الموحلة، التي يريد أن يوقعنا فيها، نكون نحن لانزال نفكر في مشاكل الأمس، في التخلص، من الحفر الموحلة التي أوقعنا فيها فعلاً.
في ضوء كل ما سبق كان الأجدر ألا يمس الجدار الإسلامي بأي زعزعة سببه الخلاف والاختلاف، حتى لا يجد الطرف الآخر الفرصة مواتية لهدمه نهائىاً بعد ذلك، كما كان الأجدر بالذين زاروا كوبنهاجن حتى لو أحسنوا الكلام والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يقبلوا حوار النفس والذات أولاً، قبل أن يطالبوا بالحوار مع الآخر، خاصة أن الآخر وجه استعماري معلومة مطامحه ومطامعه، حتى لو كان دولة الدنمارك التي لم يذكرها التاريخ بكثير من السوء، في علاقتها مع العرب والمسلمين.
والاستعمار ليس فقط من عرف بالوحشية، واستبعاد الشعوب، واستغلال خيراتها في الماضي، بل الاستعمار هو كل سياسة ماكرة تطبق على الشعوب عنوة، وتحرمهم من النهوض ليتملصوا من كل أشكال التواكل والتبعية، لكن هل يجرؤ هذا الاستعمار على التوسع والسيطرة لو لم تكن هذه الشعوب تسكنها وجدانياً القابلية للاستعمار بتعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي؟؟؟
صحيفة الشرق القطرية