السـر العصيّ

د. باسم عبد الله عالِم
منذ الانتفاضة الأخيرة للعالم الإسلامي في مواجهة الاعتداءات الأخلاقية والإنسانية التي حاولت النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم والغرب في حالة من الانزعاج والقلق تجاه هذه الانتفاضة وما تضمنته من مؤشرات توحي إلى الغرب بوجود خطأ فادح في خطوتهم المشؤمة ونتائجها المتوقعة. ويعني ذلك اضطرار الغرب الأطلسي إلى إعادة تقييم خططه في مواجهة العالم الإسلامي بعد أن ظن أن هذه الانتفاضة يمكن احتوائها من خلال تصريحات فضفاضة ومجاملات دبلوماسية. وسرعان ما أكتشف الاتحاد الأوربي أن الأمر أكبر من ذلك فندب إلينا السيد/ خافيير سولانا الذي زار المنطقة بصفته الرسمية وباعتباره المسئول الأوربي الأول عن الشئون الأمنية والسياسية. ولكنه ما أن حط رحاله حتى راح يتصرف كعامل الصيانة الذي انتدبته شركته ليفهمنا كيف يجب أن نتعامل مع الجهاز المعقد المركب الذي اشتريناه منهم ولم نعرف بعد أسرار تشغيله أو نتمكن من حسن استخدامه. راح يشرح مفهوم الحرية وكيف أن سباب الآخر حق مشروع وكيف أنه منطقي وطبيعي أن يفحش الغرب القول لنا ولنبينا ولديننا مع البقاء على احترامه لمعتقداتنا وكيف أن انزعاجنا دليل على عدم قدرتنا على التفاعل مع الآخر وتفهم منطلقاته وتقبل الإختلاف معه.

وفي هذه الفترة الوجيزة تتابعت الاتصالات والاستفسارات من قبل الإعلام الغربي لمحاولة فهم ما يجري وقد أبدى الكثيرون اندهاشهم، فهم لم يتوقعوا رد فعل واسع النطاق وشديد التعبير عن التأثر والغضب الذي اجتاح العالم الإسلامي. وكانت تساؤلاتهم تحمل في طياتها الكثير من الاستفهام الممزوج بالاستنكار وكلاهما يعكس نفسية مضطربة قد دبت فيها الحيرة جراء ما يحدث. إن ما حدث يعتبر فشلاً حقيقياً يستدعي إعادة تقييم وتغيير جذري للخطط الغربية تجاه العالم الإسلامي، فالحملات العسكرية والغربنة والعولمة والهيمنة السياسية والهيمنة الاقتصادية والتوجيه الإعلامي. وجميع محاولات إعادة صياغة العقل العربي المسلم جميعها باءت بالفشل الذريع حيث انهارت أمام أول اختبار من شأنه أن يثبت انفصال المسلم عن ثوابته وذلك في مراحل متقدمة في المسيرة التي رسمها له الغرب تجاه التبعية الفكرية والهيمنة الحضارية المطلقة. وزاد من حيرتهم الخلل الذي وجدوه حاضراً جلياً من خلال تباين ردود فعل العالم الإسلامي تجاه الكثير من الأحداث الدموية التي أقترفها الغرب وذلك مقارنة برد الفعل الناجم عن المساس بمقام صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم. وقد يعتقد الغرب أن ردود الفعل السابقة تمثل ضعفاً وانهياراً لمقومات الأمة وقدرتها على المواجهة الجماعية كما تعكس (بحسب ظنهم) ما أعتبره الغرب نجاح مخططاتهم التي استهدفت تدجين ومسخ العقل العربي المسلم. ولكنه فوجئ بهذه الهبة الجماعية فأخذ يبحث عن أسبابها بل وأسرارها. وقد سُئلت عما حدث وأنتظر القوم مني جواباً فرحت أقلب الأمر وأتدبره محاولاً معرفة الجواب ومنطقته. فأخذت أقلب في صفحات التاريخ القريب لمعرفة أسرار التحرك الجماعي وآلياته فإذا بي أمام حالة فريدة لم توجد خارج عالمنا العربي والإسلامي من قبل، وهي غضب الإنسان المسلم والعربي لأجل مبدأ أو مفهوم روحي يخرج عن إطار الحسيات والماديات التي تمس الإنسان مساساً مباشراً في حياته اليومية أو مصادر الرزق أو الأنظمة الحاكمة التي تحد من حركته أو تؤثر في مستقبله. بل ويزيد على ذلك أن هذه الحالة إنما طرأت على أمر غير ملموس إذ ليس أمامنا ما نشهده من انتهاك مباشر للإنسان العربي المسلم على غرار ما نراه في العراق وفلسطين وأفغانستان وغوانتانامو وغيرها من البؤر المظلمة في تاريخ الإنسانية المعاصرة.

أن الحقيقة، في ما أرى، تكمن في السر الإلهي الذي وضعه رب العباد في كتابه وشرعته (سواء أنزله وحياً أو أنطقه وحياً على لسان نبيه) فالإسلام في إطار وجوده كدين إلهي للبشرية جمعاء غُرِس فيه سر الهي يدخل في تكوين الشخصية المسلمة التي تستصحب معها هذا السر مهما ابتعدت عن الجادة ومهما تنكبت الطريق. فالدين ورموزه يشكلان لدى الشخصية المسلمة طوق النجاة والملاذ الآمن. ومهما غامر المسلم وذهب بعيداً عن الشاطئ فإنه وطالما بقي يقبض على طوق النجاة يشعر أن بإمكانه العودة سالماً أن شاء. وهذه الشخصية في أسوأ ظروفها وأحلك لحظاتها يمكنها أن تتحمل الأذى الشخصي والرهق الذي يسومه لها الغرب كما يمكنها السكوت على مضض في بعض الأحيان أو الانخداع في أحيان أخرى لنصائح الغرب ومحاولاته للظهور بمظهر الناصح الأمين ليعلمنا كيفية الإمساك بطوق النجاة أو ضرورة تحديث طوق النجاة من خلال محاولاته لتحوير ديننا وتدجينه. ولعل المسلم إن سكت على ذلك أو قبل به سواء كان على مضض أو منخدعاً فإنما يشعر بأن ثمة ورقة توت لا تزال تغطي عورة الحقيقة التي تفضح نوايا الغرب وتجسدها دونما تورية. أما في الحالة الراهنة فإن ما حدث يوازي محاولة الغرب انتزاع طوق النجاة أو تحطيمه ظناً منه بأن المسلم لم يعد بحاجة إليه و لم تعد له رغبة في أن يعود يوماً ما إلى بر الأمان و لم يعد يعتمد بعد اليوم في عقله الباطن على طوق النجاة الذي لا يزال يمسك به بيده. وفي هذه اللحظة الحرجة الحاسمة تكشفت الحقائق وظهرت الحسابات الحقيقية لدى كل طرف. ولعلها ملائمة هذا الدين بل وتطابقه تطابقاً تاماً مع الفطرة السليمة هو الذي يجعل الإنسان المسلم يقاتل بشراسة منقطعة النظير إذا ما كان الهدف هو الاجتثاث الكامل لكيانه ووجوده بل ولأمله وطوق نجاته في دنياه وآخرته. ويزيد على ذلك أن وسائل الاستهداف هذه المرة لم تكن وسائل مبطنة أو محاطة بزخرف من القول يغررون به. فقد كانت الوسيلة واضحة مباشرة وكان الهدف واضحاً فلم يكن بالإمكان للمعتدي أن ينكر استهدافه ولم يكن بالإمكان للمعتدي عليه أن يدفن رأسه في التراب أو يعلل أو يجد العذر.

ولأن الأمر كله جاء على حين غفلة فلم تستطع وسائل الإعلام المحلية والعالمية كما لم تستطيع الحكومات أن تحتوي الأزمة من خلال إسباغ صبغة سياسية عليها أو فذلكة في إخراجها، فيتم التفريق بين الحكومات ووسائل الإعلام الغربية أو حتى التوجيه بمنع وسائل الإعلام العربية ومنابر المساجد من التطرق إلى هذا الأمر. لقد وجدت الفكرة أمثل وسيلة لتبنيها وأمثل أداة لتحريك الأمة وذلك من خلال المساجد والتي استتبعها تحرك جماهيري على نطاق واسع مستخدمين جميع الطاقات والإمكانيات الحديثة بعد أن تم تقعيد الأمر توطئته من قبل المسجد ومن على منبره. وهنا مكمن الحقيقة في أسباب التحريك الجماعي وإنجاحه إذ أن مؤسسات المجتمع المدني في صياغتها الحالية منفصلة عن إرث الأمة الحضاري والإنساني فلا تقوى على تعبئة الشارع وتحريكه ولم يبق في المجتمع المسلم مؤسسة مدنية منبثقة من عمق إرث الإنسان المسلم سوى المسجد.

وإنني أدعو اليوم كما دعوت سابقاً إلى وجود مؤسسات مدنية تشكل في مجملها أعمدة المجتمع المدني و بأن هذه المؤسسات يجب أن تبنى على قواعد راسخة من تراثنا وأن تصاغ في إطار مفاهيم مستمدة من هذا التراث بحيث لا تبدو لرجل الشارع العربي المسلم أمراً غريباً أو مستهجناً يصعب قبوله أو تفهمه بفطرة وتلقائية ودون عناء. إذ يبدو اليوم أن مؤسسات مجتمعنا المدني (إن وجدت) قد صيغت في إطار غريب عن مفهوم رجل الشارع فانحصرت في إطار المثقفين أو أولئك الذين جاءوا بها ومعها من الغرب فظنوا أنها سوف تلاقي رواجاً وقبولاً في المجتمع ولكنهم كمن يحدث القوم بلغة لا يفهمونها ولا يتقبلونها مهما اشتد حماس المتحدث ومهما صحت نيته فالمجتمع ليس مطالباً بأن يتحدث باللغة التي يخاطبه بها المثقف ولكن المثقف هو المطالب بأن يتحدث إلى قومه باللغة التي يفهمها المجتمع ويتقبلها ويتفاعل معها.

والله من وراء القصد,

E-mail: alim@alimlaw.com

نشرت بالعدد (15661) من جريدة المدينة، يوم الجمعة بتاريخ 10 صفر 1427ﻫ الموافق 10 مارس 2006م، بصفحة الرأي.

1
4000
تعليقات (0)