احميدة النيفر
تختزل قضية الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية وما انجرّ عنها من مضاعفات لا تكاد تنتهي أزمةً مركَّبةً وخانقةً بين أطراف واسعة من العالم العربي الإسلامي وجانب مهم من نخب الغرب الأوروبي. لذا يصعب القول إن الموضوع في حقيقته صراع بين حداثة غربية لا يمكن أن تتخلّى عن حرية التعبير والتفكير وبين شرق مسلم لا يريد التنازل عن مقدّساته ولا يسمح بإهانة رموزه الدينية.
عرض القضية بهذا التعميم لا يساعد على التوقّف للكشف عما يعتمل في الفضاءين (العربي - الإسلامي والغربي الأوروبي) من انسدادات وعوائق وما يثار بينهما في خصوص نظرتهما إلى العالم والذات والمستقبل.
لا يعني ذلك أن حريّة التعبير ليست من المحددات الحضارية في الغرب، كذلك فإن ليس من قصدنا دعم مقولة بعض النخب العربية التي لم تستهجن تلك الرسوم ولم تر فيها إساءة الى المسلمين.
ما نودّ لفت النظر إليه في المقام الأول هو أن لا تناقض البتّة بين حرية الصحافة والتعبير وبين احترام المعتقدات الدينية، ذلك أن ما أكّده أكثر من كاتب ومعلّق هنا وهناك اختار اتجاهاً معاكساً ينطلق من ضرورة تحديد موقف واضح: إما مع الحرية وإما مع التديّن.
لا أدلّ على تهافت مثل هذا الرأي مما وقع في الصحيفة الدنماركية ذاتها: الـ «يولاندس بوستن» التي كانت رفضت في نيسان (ابريل) 2003 نشر رسوم كاريكاتورية للسيد المسيح اعتبرتها مسيئة إليه وإلى أتباعه. إلى هذا نذكر أن هيئة تحرير الصحيفة قد وجدت نفسها في خريف 2005 عند الشروع في مناقشة نشر الرسوم الكاريكاتورية منقسمة بين مؤيد للنشر ومعارض له.
يُثبت هذان المثالان أن حرية التعبير تظل محكومة بضوابط حدود الحياة المدنية وما تتطلبه من توازن وتفاهم، تضاف إلى ذلك حالات أخرى كثيرة في «الغرب الديموقراطي» تؤكد ما أصبح يُعرف بـ «استبدادية الاتصال» التي تعرّي الواقع الفعلي للسلطة الإعلامية المتحكّمة في صنع الخبر وتبادله. ما نريده من هذه الأمثلة هو أننا نحتاج في حديثنا عن حرية التعبير إلى قدر أكبر من تنسيب في الرؤية والموضوعية في الأحكام.
الأمر، إذاً، أعقد من أن يُعرَض في صيغة «مانوية» تبسيطية تدفع إلى ضرورة الاختيار بين حرية التعبير وبين التديّن، أي ضرورة الإقرار بالتناقض الجوهري بين عالمين: «عالم التسامح والتحرر» و «فضاء الإيمان والتديّن».
على رغم هذا فإن ما نشره من أيام قليلة اثنا عشر كاتباً بينهم سلمان رشدي وتسليمة نصرين وبرنار آنري ليفي يؤكد في سذاجة مذهلة هذا التوجه وينافح عنه. في هذا البيان - النموذج الذي أصدرته صحيفة أسبوعية فرنسية أعادت نشر الرسوم الدنماركية دعوة منها للتصدي إلى «الشمولية الإسلامية» والوقوف إلى جانب «قيم العلمانية والحرية والدفاع عنها».
ان يقع هذا من جانب بعض مثقفي فرنسا المتشبثين إلى الآن بعلمانية استئصالية ترفض ما يعتبرونه «حرماناً للمسلمين من حقوقهم في المساواة والحرية والعلمانية باسم احترام الثقافة أو التقاليد»، مثل هذا الموقف يمكن أن يُفهَم من دون أن تكون له حظوظ في التفهّم. أما أن ينضم إليهم لفيف من كتاب وصحافيين تتحدر غالبيتهم من عالم إسلامي أحد إعاقاته الكبرى صنعتها نخبه التحديثية المكرّسة للقطيعة مع مجتمعاتها وثقافتها المحلية، فتلك هي الشناعة بعينها.
إن أول ما يثير الاستهجان في تلك الرسوم الكاريكاتورية وما تولّد عنها من ردود فعل بين «الشرق» و «الغرب» هو أن الذين يعتبرون أنفسهم خصوم العقائد الشمولية والأصوليات الأيديولوجية لا يفعلون شيئاً آخر سوى تقوية ذلك التيار ونشره. يحصل ذلك لأنهم يستميتون في الدفاع عن قضية تتوالى الأحداث موضوعياً في إثبات فشلها لكونها أفضت إلى أصناف من القهر والتعسف حالا دون أي إبداع أو تحرر.
لا غرابة إن شهدنا منذ عقدين من الزمن سقوط مقولة العلمنة اللادينية في العالم الإسلامي والغربي على السواء. ما جرى في إيران الشاه ثم ما تحقق في تركيا أتاتورك بعد ذلك بأسلوب آخر يقضي بنهاية العلمنة المناضلة كأحد أبعاد عملية التحديث.
على المستوى العالمي، كان سقوط الاتحاد السوفياتي في جانب من أهم جوانبه إلغاء للفكرة القائلة بأن التحديث يؤدي بالضرورة إلى إقصاء الدين. كيف – والحال هذه - لم ينتبه ناشرو الرسوم الدنماركية ومؤيدوهم الى أنهم يسيرون ضد حركة التاريخ وأن علاقة الدين بالسياسة علاقة تمايز ترفض القطيعة والإقصاء؟
من جهة أخرى، فإن الرسوم الكاريكاتورية تثير تساؤلاً آخر موصولاً بقضية الحدود الفاصلة بين المجتمعات والثقافات والأديان. ما تفضي إليه الثورة المعلوماتية ووسائل الاتصال المتطوّرة هو تغيير حتمي للعلاقات بين الدول والمجتمعات والثقافات والمعتقدات. من ثم، فإن الحديث عن عالم واحد وحضارة واحدة للجميع ليس شعاراً أجوف، بل هو حقيقة تفرض نفسها تدريجاً على الحواجز القديمة وما يرتبط بها من مفاهيم كالاستقلالية الكاملة والسيادة المطلقة والعوالم المنفصلة.
ضمن هذا السياق يكون السؤال الأنجع: كيف تساهم الخصوصيات العرقية والثقافية والدينية في التأسيس لعالم تصاغ فيه الحدود القديمة في شكل يحقق تعايشاً على رغم الاختلاف بل وبفضله؟إن ما تجاهلته الرسوم الدنماركية الأوروبية وأعرضت عنه غالبية ردود الفعل العنيفة هو أننا أصبحنا مدعوّين إلى أن نعيش معاً ومختلفين.
ما اقترفته الرسوم الدنماركية وأصرّ عليه أصحاب بعض الصحف الأوروبية هو رفض لواقع مستقبلي هو قيد التشكّل بخطى وئيدة وأكيدة تتجه نحو عالمية ثقافية تأسس لحداثات مختلفة وكونيات متحاورة، من أبرزها حداثة وكونية إسلامية. ما صنعه واضعو الرسوم وناشروها كان أكثر كاريكاتوريّة من الرّسوم نفسها لأنه كشف عن جهل فاضح وسوء تقدير لمسيرة التاريخ البشري في راهنيته.
ذلك أن معنى الرسوم – من الزاوية الحضارية المعاصرة – هو أن أصحابها يفكرون من داخل حصون افتراضية متداعية يعلو فيها بكاء على عالم يتجه إلى الانقراض، عالم شعاره: «الشرقُ شرقٌ والغرب غرب ولن يلتقيا». كاريكاتورية الرسوم أعادت السحرَ على الساحر لأنها عبّرت عن سذاجة القائلين بحداثة واحدة ووحيدة يسعى إلى النيل منها «البرابرة» من أبناء محمد وبناته.
منتهى ما يمكن أن نقترحه من جانبنا العربي الإسلامي كإضافة الى الرسوم وكتعليق عليها وعبارة نقتبسها من كتاب تداولناه قديماً بيننا: «حصوننا مهددة من الداخل».يبقى بعد هذا الطرف المقابل وكيف عبّر عن موقفه من الإساءة التي انضافت إلى سلسلة طويلة من الإهانات والاستباحات؟
غالب ردود فعل الطرف العربي المسلم كانت إما غير مقنعة وإما مثبتة لصفة الهمجية التي عمل على إلصاقها أصحاب الرسوم الدنماركية بالمسلمين.هذا الصنف الأول من المواقف والكتابات كان تعبيراً عن فجيعة قديمة –متجددة لقسم مهم من المسلمين. إنها – بحسب عبارة صاحب سراج الملوك - الفجيعة «من الدهر الخؤون، دهر ذهب صفوه وبقي كدره. فالموت تحفة لكل مسلم...». نسبةٌ أقل من ردود الفعل كانت مغايرة في طبيعتها ووجهتها لما انساقت فيه الجموع الغاضبة المفجوعة. من بين هذه الأقلية الواعدة ارتفع شعار: «... إلا رسول الله» تعبيراً واعياً عن رفض الإساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا أولاً.
ثم لأن في هذا الموقف قبولاً بحضارة كونية تعبُر الثقافات والمجتمعات لا ينبغي أن يفضي إلى التنميط وإلغاء الاختلاف. عبارة «إلا رسول الله» ترفض دخول الحداثة القهقرى، دخول السخط على الأزمنة الحديثة والتبرّم من الدهر الخؤون. إنها عبارة تعلن الاشتراك في صنع عالم حديث بمقاييس مرجعية مختلفة.
أخيراً، «إلا رسول الله» رفض للرسوم الدنماركية لأنها رسوم عنصرية - شيطانية. إن من أشد ما يؤذي في تلك الرسوم أنها ربطت ربطَ تأبيد بين العنف والعدوانية وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه. مؤدى الرسوم أن الإسلام شرٌّ محض وأن جوهر المسلمين لا يقبل ارتقاء أو تغييراً. إنه الخطاب ذاته الذي اعتمده إبليس حين تمرّد ورفض قبول الآدمي لكونه مخلوقاً دونيّاً لا يمكنه التغلب على جوهره الترابي. تلك هي الرسوم في رؤيتها الجوهرانية للإسلام ومؤسسه وأتباعه، إنهم جميعاً في حضيض التدنّي والهمجية لا يستطيعون منهما براحاً.
تأمّل الرسوم الدنماركية في ضوء مقولة: «إلا رسول الله» يوصلنا إلى جانب أساس من أصالة الرسالة المحمدية كما صاغها القرآن الكريم. أصالةٌ جاءت الرسوم لتطمسها، في حين أن الرسالة المحمدية ما تحققت إلا نتيجة ثقة في الآدمي وقدراته فاتحة آفاقاً غير محدودة للبشرية.
ما أبرزته الرسوم من عنف يقوم به بعض المسلمين فيه تجاهل لتداخل العناصر المؤدية إلى ذلك العنف بحصرها في جهة واحدة هي جهة المسلمين وحدهم. الأخطر من هذا هو هذه اللوثة الشيطانية التي تجعل ديانة كبرى مصدراً للشر الذي لا ينضب. يحصل هذا بينما يتميّز الخطاب القرآني برهان دائم على آدمي له من القدرات ما يتيح له أخطاء وصعوداً عبر الحرية التي أعطاه إياها الخالق.
هكذا تندرج عنصرية المركزيات الثقافية المعاصرة في جوهرانية البؤس الإبليسي، إنها في اعتقادها بتفوّقها الذي لا يُطاول لا ترى في الآخر إلا مجموعة من الثوابت والطبائع المتناقضة الحاجزة عن كل تغيير. في مواجهة هذا تأتي مقولة «إلا رسول الله» مع مواقف قليلة أخرى لتضيء دروب مستقبل للإنسانية أكثر رحابة وثراء.
باحث تونسي
صحيفة الحياة اللندنية