الرسوم المسيئة والرد عليها ... السلوكيات المؤسِّسة

حسين عبدالعزيز
طرحت قضية الرسوم المسيئة التي نشرتها صحف دنماركية وأوروبية، ورد الشارع العربي عموماً والسوري خصوصاً، أسئلة صعبة ليس على سلوك الطرفين الأوروبي والعربي فحسب، بل أيضاً على المنظومة الفكرية المؤسسة لهذين السلوكين، ما يدفعنا الى تفحص المرجعية الفكرية الأوروبية والعربية – الاسلامية على السواء لفهم أقوى لهذين السلوكين. يتطلب فهم المجال الثقافي التداولي في العقل الأوروبي، العودة الى الصراع الذي حكم القارة الأوروبية طوال عشرة قرون بين السلطتين السياسية والكهنوتية. اذ أدرك الأوروبيون انهم لن يدخلوا بوابة الحداثة الا من خلال القضاء على الثنائية التي حكمت العصور الوسطى، والتي جعلت من المجتمع وحدة موحدة خاضعة لمركزية لاهوتية قسرية، ولنظام كلي مستقل عن الأعضاء الذين يؤلفونه. ووفق هذه الرؤية الايديولوجية، فإن الخير على سبيل المثال لا يفرض نفسه على الأفراد بصفتهم أفراداً، بل يصدر عن النظام المتعالي، وما على الأفراد الا أن يبذلوا جهداً للتصرف وفق المنظور الخاص لهذا النظام، ما يعني أننا نقف أمام ايديولوجية أو رؤية ميتافيزيقية لمذهب اجتماعي وأخلاقي وسياسي يقدم تصورات مسبقة للحياة المدنية. ويتطلب فك الارتباط عن الفكر القروسطي هذا فك ارتباط من نوع آخر بين الدين والسياسة أو الكنيسة والدولة، وهو فصل ما كان ليتم لولا المحاولات الفكرية المترافقة مع ثورات دموية. وليست عملية الفصل هذه، أو العلمنة، سوى محاولة لإنكار سلطة السماء المتسامية على الشؤون الدنيوية، تلك العملية التي بدأت مع دانتي، ودونس سكوت ومحاولته نسف التصور الثنائي القروسطي للوجود، الى مارسيل دوبادو ومحاولته فصل الدين عن الدولة، وارجاعه الجماعة السياسية الى جماعة اجتماعية لا يمكن فصل استقلالها السياسي عن استقلال المجتمع المدني كمقابل للمجتمع الديني، الى توماس مور والتشديد على القوة الطبيعية والعمل الانساني بصفتهما أساساً للترتيب السياسي، الى ديموقراطية الطوائف عند مارتن لوثر وأتباعه، الى القوة السيدة عند بودان، والجهاز السياسي المتسامي والعقد الاجتماعي عند هوبز ولوك وروسو، الى وسطية العقل عند ديكارت، وإفراغ التجربة من الظواهر عند كانط، الى شوبنهاور وإعادة توحيد مظهر الشيء مع الشيء نفسه، الى هيغل وفيبر وفوكو... الخ. باختصار ان الصراع الذي عرفته أوروبا في العصور الوسطى بين الكنيسة والامبراطور، ثم لاحقاً بين الكنيسة والنبالة الاقطاعية، ثم بين الكنيسة والدولة، ثم أخيراً بين الكنيسة ورجال الدين الاصلاحيين، أدت الى الفصل الحاد الذي نشهده اليوم في المنظومة الثقافية الأوروبية بين ما هو ديني وما هو دنيوي. لكن الأمر تطور الى أبعد من ذلك. فإذا كانت الحداثة الأوروبية أعلنت موت القداسة، فإن ما بعد الحداثة أعلن موت القيم من خلال تدنيس كل ما هو متسامٍ ومقدس، أي انها مرحلة العدمية التي تحول البشر فيها ذرات يلتمسون أقصى درجات الربح ليس في الاقتصاد فحسب بل في الاجتماع أيضاً. في الجانب المقابل، لا وجود لهذه الظاهرة في التجربة الحضارية العربية – الاسلامية، بل انها منبوذة تماماً. وهذا يعود ليس الى طبيعة الدين الاسلامي فحسب، بل أيضاً الى التجربة التاريخية التي تطور من خلالها الدين الاسلامي بالمقارنة مع التجربة الأوروبية: في أوروبا وجدت الدولة أولاً، ثم ظهر الدين في كنفها. أما في التجربة العربية فظهر الاسلام أولاً ثم وجدت الدولة ثانياً، أي أن الثانية أسست على الأولى، ما يعني أن الممارسة الدينية لم تكن ممارسة صوفية، بقدر ما هي ممارسة اجتماعية واقتصادية وسياسية في آن. ففي وقت كان الاسلام يبلور مجاله الديني كان يبلور بالتوازي منه مجاله السياسي، ولهذا يعيش المسلم الحال كحال انطولوجية، ومن هنا تبدو عملية التقديس للدين مضاعفة أكثر. لكن هذا التقديس لم يقتصر على الدين وحده، اذ كرست مركزية مقدسة في الفكر العربي الاسلامي بمختلف تياراتها الاسلامية والعلمانية على غرار تلك التي كرست في العصور القروسطية الأوروبية، مركزية هرمية غايتها تثبيت البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية القائمة منذ الاستبداد العربي الإقطاعي وحتى هذه المرحلة. لقد استبدلت الثنائية الأوروبية القروسطية هناك بأحاديات متعددة هنا مع الحفاظ على الغاية الايديولوجية، وهي تكوين رؤية ميتافيزيقية لمذهب اجتماعي وأخلاقي وسياسي يقدم تصورات مسبقة للحياة المدنية. واستبدلت قيم الشورى والعدالة والمساواة مع الموروث القرآني، بقيم أخرى وجدت معينها المعرفي والتاريخي من موروث آخر، جاء مع الدولة الامبراطورية (الأموية والعباسية)، ثم مع الدولة الاستبدادية الحديثة والمعاصرة. من هنا يمكن فهم ما شهدته العواصم العربية والاسلامية من احتجاجات خصوصاً في دمشق. صحيح ان ارادة المجموع بحسب السوسيولوجيين ليست نتاجاً حسابياً لإرادات الأفراد الداخلين في هذا المجموع، أي أن الجماعة تتخذ في لحظات معينة ارادة مختلفة عن الارادات الكامنة فيها، بحيث تسلك سلوكاً غرائزياً قطيعياً يحمل في طياته قوة من العنف أعلى بكثير من المعدلات التقليدية في الصراعات الاجتماعية والسياسية، وصحيح ان هذه الفئات أيضاً قد تعود في أكثريتها العددية الى تلك الفئات المهمشة من الحقل الاقتصادي، لكن الصحيح أيضاً أن هذا السلوك انما يعبر تعبيراً دقيقاً عن واقع هذه الشعوب وفضائها المعرفي ومخيالها الاجتماعي أيضاً، وعن تلك الثقافة العربية القروسطية والحديثة التي قامت بعملية قلب ايديولوجي لأبستمية المفاهيم الاسلامية. ظهرت هذه الثقافة القروسطية في أبهى صورها في تظاهرات دمشق، ولن نجد في المجتمع السوري تظاهرة للمطالبة بالحقوق أو المساواة أمام القانون، أو بتفعيل العمل الديموقراطي. اذ ان عقلوية الفرد السوري لا تقوَّم بمفاهيم الديموقراطية وحقوق الانسان والعدل والمساواة أمام القانون، بل بالمقولات الميتافيزيقية التي فرضتها مركزية السلطة – الدولة السورية: مقولات الدولة الأمنية، الوحدة الوطنية، الإمبريالية والصهيونية المتربصة بنا، ما يعني أن أي محاولة لكسر مركزية هذه المقولات ستعتبر تهديداً حقيقياً ليس للسلطة – الدولة، بل أيضاً لفعل الوجود ذاته على اعتبار أن الدولة في هذه المركزية ناموس أو عقل لكل ما هو موجود. * كاتب سوري صحيفة الحياة اللندنية
1
3984
تعليقات (0)