بيئة العنصرية وكراهية الآخر ... هل نحن في مواجهة مع الغرب؟

عبد الحسين شعبان
اثار نشر صحيفة دنماركية صور مسيئة للرسول محمد (ص) استياء ملايين المسلمين في العالم، خصوصاً انه عكس الأجواء السلبية المشحونة بالتوتر وبرائحة العنصرية التي سادت لدى بعض الاوساط في اوروبا واميركا والتي اتخذت اجراءات «قانونية» وغير قانونية استهدف بعضها مباشرة الجاليات العربية والاسلامية، حيث شكلت مرتعاً خصباً لنزعات الكراهية والعداء للآخر وعدم التسامح، والتي تعاظمت إثر تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية وراح ضحيتها أكثر من 3 ألف انسان بريء، وكذلك ما أعقبها من تفجيرات حصلت في العديد من البلدان الاوروبية.

ومعروف ان العنصرية بيئة مشجعة على الارهاب، لأنها لا تتسم بالعدل والمساواة والاقرار بالحقوق واحترام التنوع والاختلاف، فهي بيئة إلغائية استئصالية اقصائية، لتغذية العنف والعنف المضاد وردود الافعال والانتقام. واذا كان المتهم الاساسي الذي أدين في مؤتمر ديربن العالمي حول العنصرية 2001، هو «السياسة العنصرية» ومن يقف وراءها، حيث كانت سياسة اسرائيل العنصرية والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني واعمال الابادة والارهاب الرسمي هي التي وقفت امام المساءلة وحظيت بحيز كبير من هذه الادانة، فإن وجهة الإتهام تحولت الى «العرب والمسلمين»، حين ظهر إنتماء من نفذوا العمليات الارهابية اليهم.

ولم يشفع لهم ادانتهم الشديدة لتلك الاعمال الارهابية وتعاونهم من اجل استئصال شأفة الارهاب، كما لم يغفر لهم انهم كانوا ضحية الارهاب على مدى يقارب عن ستة عقود من الزمان، سواء الارهاب الموجه من الخارج ضدهم، او الارهاب الداخلي الذي اشتد في الربع الأخير من القرن الماضي على يد جماعات متطرفة ومنغلقة وتدعي امتلاك الحقيقة، فكانت تنتهج نهج الارهاب والعنف واستخدام القوة وسيلة لاملاء ارادتها وفرض رأيها القائم على تحريم الاخر وتجريمه وتأثيمه، سواء كان هذا الاخر داخلياً ام خارجياً، فلا فرق لديها.

وهنا لا بد من الاشارة الى ان بعض هذه الجماعات المتطرفة كانت تحظى بتأييد ودعم من «الغرب» بصورة معلنة او مستترة، بل إن بعضها جرت محاولات لتصنيعه، وتلك احدى مفارقات الصراع في منطقتنا وعلى ضفافها اذا جاز التعبير، سواء شمال المتوسط أو عبر القارات.

المعركة حالياً لا تدور بالجيوش وحدها، وسيلة للصراع، وليس الاقتصاد والايديولوجيا وحدهما علامات أساسية لهذا الصراع، بل امتد الصراع وشمل على نحو أوسع وأعمق تأثيراً الحقل الثقافي. وليس عبثاً أن يعبر الرئيس الفرنسي جاك شيراك في حفل افتتاح مؤتمر اليونسكو الـ33 في تشرين الأول (اكتوبر) 2001 عن ذلك حين قال «ان القرن التاسع عشر شهد صراعات القوميات والقرن العشرين شهد صراع الايديولوجيات، اما القرن الحادي والعشرين فقد شهد صراع الثقافات».

لقد جعلت «العولمة» العالم كله «قرية كونية» وان كنت من الذين ينددون بالعولمة ويلحظون سلبياتها الكثيرة، الا ان للعولمة ايجابياتها غير القليلة ايضاً، وعلى النخب الفكرية والثقافية العربية والاسلامية والعالمثالثية ومعها نخب أوروبية وغربية متنورة، ان تسعى لعولمة حقوق الانسان والمعرفة وثقافة التسامح والعدل والاستفادة من المنجز العلمي - التقني على المستوى العالمي لما فيه خير البشرية وسلامها وتقدمها ورفاهها.

واذا كان رد الفعل شديداً وسريعاً ازاء ما نشرته الصحيفة الدنماركية وعدد من الصحف الاوروبية، فإن ردود الفعل العربية والاسلامية ازاء ما صدر من قوانين لمكافحة الارهاب رغم انها كانت مفصلة عليهم لم تكن بالمستوى المطلوب. ان بعض التصرفات العنصرية تثير العديد من التساؤلات القديمة الجديدة: هل نحن في مجابهة مع الغرب؟ وهل ثمة مواجهة بين الغرب والاسلام؟ هل هي مشكلة الحداثة او ما بعد الحداثة؟ هل في الاعلان عن دخول عالم «ما بعد التاريخ» الذي دعا اليه فرانسيس فوكوياما بإقرار ظفر الليبرالية على المستوى الدولي كنظام سياسي واقتصادي، يوصل العالم الى شاطئ السلام؟ أم الاقرار بـ «صراع الحضارات» الذي دعا اليه صموئيل هنتنغتون حين طلب شحذ جميع الاسلحة لمواجهة الخطر الراهن؟ وقصد به الاسلام بعد انهيار الشيوعية على المستوى الدولي.

اين هي حدود الوصل والفصل بين الدعوة الى التعددية واحترام حقوق الانسان وحرية السوق، ازاء محاولات فرض الاستتباع والهيمنة؟ وكيف السبيل الى اجراء اصلاحات ضرورية في العالم العربي والاسلامي كتعبير عن استحقاق وحاجة ماسة داخلية أولاً وقبل كل شيء وليس ارضاء لأحد أو استجابة لطلب خارجي!

ثمة وجهتا نظر مخطوءتان في رؤية كل من الغرب الى العرب والمسلمين وفي رؤية العرب والمسلمين الى الغرب بشكل عام، وان كنت لا أنفي التمايز في المواقف لكلا الفريقين، الا انه السائد بل اليومي الذي يحدد علاقة السياسة بالثقافة احياناً وبالعكس.

وكمقدمة لهذه الفقرة اقول إن هناك نحو بليون وأربعمئة مليون مسلم أو ما يقارب ذلك متوزعين على أكثر من 60 بلداً بينهم 57 دولة اسلامية (عضو في المؤتمر الاسلامي) اضافة الى بلدان يشكل المسلمون جزءاً كبيراً من سكانها (اقلية عددية كبيرة) مثل الهند واثيوبيا، وهناك 16 مليون مسلم في روسيا وحدها. ان سكان العالم الاسلامي يؤلفون نحو خمس سكان العالم، كما تؤلف البلدان الاسلامية نحو ثلث دول العالم البالغة 190 دولة.

لقد ظل الفهم قاصراً في النظر الى المسلمين باعتبارهم «كتلة واحدة». و»الاسلام شيء واحد». بل هناك ادغام وتشوش احياناً بين الجماعات الاسلامية والاسلام أو بين المسلمين والاسلاميين والاسلامويين. وذلك في حمى الحديث عن «التهديد الاسلامي» و «الخطر الاسلامي»، وبإستعادة لغة الحرب احياناً عند الحديث عن الاسلام باعتباره «عدواً» وليس المكون الثقافي لمئات الملايين من البشر، وبذلك تكاد تكون غالبية المسلمين حسب وجهة النظر هذه «مجبولة» على الارهاب وعلى «العدوانية» التي تدمغهم دون تمييز او تمحيص او محاولة للفهم بأصول الدين وبالقانون والانظمة السائدة وبالسياسة المتبعة وبالعلاقات الدولية، ناهيكم عن التنوع والاختلاف التي تمتاز به المجتمعات الاسلامية مثل غيرها من المجتمعات.

فللإسلاميين وللمسلمين وبشكل عام آراء مختلفة في السياسة والمجتمع والعلاقات تبعاً لاختلاف المصالح والأهداف والتصورات. والاسلام ليس كله ولا حتى المسلمين كلهم أو معظمهم او حتى جزء مؤثر منهم يؤيدون تنظيم «القاعدة» أو رؤية حكومة «طالبان» الأفغانية أو نموذج اسامة بن لادن ولعلهم لا يرحبون بقيام دولة دينية لما أفرزته التجربة المريرة في أفغانستان أو غيرها من «الأنظمة الإسلامية»، بل ان قسماً كبيراً وحاسماً من الاسلاميين ناهيكم عن المسلمين لم يؤيدوا اجراءات حكومة «طالبان» وتعصب تنظيم القاعدة والتوجهات الارهابية التي اعتمدها، بما فيها تحطيم التماثيل البوذية في باميان باعتبارها «غير اسلامية» وهو موقف فيه الكثير من انعدام الذوق والحس الجمالي ناهيكم عن كونه تفريط بثروة تاريخية عالمية ذات قيمة لا تقدر بثمن، وكذلك الموقف من المرأة و قضايا التقدم الاجتماعي والمجتمع المدني والتفاعل مع الحضارة الانسانية.

المجتمعات العربية والاسلامية مثل غيرها من المجتمعات الانسانية تمثل حضارة وتاريخاً وقيماً وتوجهات فكرية وقومية وثقافية واختلافات سياسية ومدارس نظرية بخصوص التنمية والتطور، وهي تتأثر بالعالم وبكل ما يجري حولها من تقدم وعلوم وتكنولوجيا وافكار ومتغيرات. ومع ان هويتها العامة هي الاسلام، فهو ليس دين حسب، بل هو في نهاية المطاف حضارة لأمم وشعوب وتكوينات عرقية وأثنية ولغوية وأصول متنوعة، ساهم الاسلام في حياتها من دون ان يضع حاجزاً امام انخراطها في الركب الحضاري نحو الحداثة والديموقراطية وحقوق الانسان، وهو ما يتم التطلع نحوه بشكل كبير وهو ما يجري الصراع حوله بشكل أكبر بين التيار التقليدي والتيار الحداثوي.

واذا كانت نظرة «الغرب» الى الاسلام قاصرة وان كانت بالطبع نظرة غير موحدة بحكم وجود تيارات وتوجهات فكرية وثقافية مختلفة، إلا أن هذه هي نظرة الغرب السياسي، وبخاصة ازاء التيارات الاسلاموية التي قد تنسحب احيانا الى الاسلام ككل لأسباب سياسية، فإن النظرة السائدة في العالم العربي والاسلامي الى «الغرب» هي الاخرى نظرة «كلانية» او كلية، أي شمولية مستندة الى التاريخ أحياناً بل تلجأ الى استحضاره بشأن الصراع بين «الغرب» و»الاسلام» كلما وجدت حاجة الى دعم وجهات نظرها الراهنة، فهو صراع تاريخي، حتمي منذ حروب الفرنجة» ولا أقول الحروب الصليبية» وقبلها في الفتوحات الاسلامية، بل انها حرب «صليبية جديدة» كما يذهب البعض.

الصراع اذن حسب وجهة نظر بعض المتطرفين والمتعصبين في العالمين العربي والاسلامي هو صراع متوارث، قيمي وديني وأخلاقي، لا سبيل للتلاقي أو التعايش معه، لأن الحضارة الغربية هي حضارة مسيحية - يهودية ، ويتم دمغها احيانا «بالكافرة» وحسب هذا المفهوم فهو صراع تناحري لا سبيل الى حله سلماً او اعترافاً بالآخر. وذلك من دون النظر الى المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة والمشتركات الانسانية.

واذا كانت السياسة هي في المحصلة تعبير عن صراع واتفاق المصالح وليس اختلافات عقائدية حسب، فإن الثقافة هي جسر التواصل بين البشر والكيانات بحثاً عن المشتركات الانسانية وفي اطار حقول المعرفة. والثقافة في نهاية المطاف معرفة، والمعرفة سلطة على حد تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، وعلى العرب والمسلمين تنمية سلطتهم بالمعرفة. وكان تقرير التنمية البشرية لعام 2004 الصادر عن الامم المتحدة قد كشف حجم النقص الفادح في المعرفة والحريات التي تعتبر من اهم معوقات التنمية في البلدان العالمثالثية ومنها البلدان العربية والاسلامية، اضافة الى تهميش دور المرأة وعدم الاقرار بحقوق الاقليات.

المداولة والشراكة والحوار وسيلة للتواصل الحضاري ولتعزيز وتطوير جسر الثقافة، الذي يمكن استخدامه سلباً أو ايجاباً، فـ «الغرب» ليس وحده مسؤولاً وإن كانت مسؤوليته اساسية ولا يمكن تخفيفها تحت أي مبرر كان، في الاجابة عن بعض الاسئلة التي تضعها تحديات العولمة في اطار الثقافة الكونية متعددة المشارب والاصول والتكوينات، ومن هنا يتعاظم القلق المشروع لدى مئات الملايين من المسلمين حين تنتشر وتستشري بعض النزعات العنصرية في الغرب ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الثقافي ايضا» تلك التي تستخف بمقدسات الآخرين.

باحث وكاتب عراقي

صحيفة الحياة اللندنية

1
3920
تعليقات (0)