خالد محمود عبداللطيف
إذا كانت أمتنا الإسلامية تريد فعلاً الخروج من هذا المأزق الحضاري الذي تمر به الآن فإن هنالك ضرورة ملحة تحتم عليها بلورة آفاق وملامح ظاهرة الانفتاح الحضاري تطبيقياً عبر مسيرة التاريخ الإسلامي وذلك حتي يتسني لهذه الأمة فهم مدي ديناميكية هذه الظاهرة في واقعها التاريخي، ومن ثم تنطلق نحو المستقبل بثبات وثقة.
ولعل العامل الحيوي الذي حدا بنا إلي اختيار الهجرة المباركة علي النبي أفضل صلاة وأزكي سلام. في يوم هجرته كمرحلة أولي من مراحل التاريخ الإسلامي لتطبيق هذه الظاهرة تطبيقاً مثالياً لا نظير له في التاريخ البشري قاطبة هو أن الهجرة قد شهدت علي المستوي التطبيقي العملي، البلورة المثالية لظاهرة الانفتاح الحضاري في كل خطواتها، ومن هنا تعد الهجرة ولا ريب بمثابة نقطة تحول حضاري حاسمة ليس علي المستوي الإسلامي فحسب بل علي المستوي الكوني بأسره.. ولذا فإنه جدير بالدرس التاريخي الواعي أن يستهلم منها كل القيم المشعة التي يمكن أن تسهم اسهاماً حيوياً في إعادة صياغة الإنسان المسلم في هذا العصر الراهن علي ضوء نسق إيماني معجز تسهم الهجرة في إضفاء الطابع التكاملي علي تكوينه العضوي الحي.
ومن هنا فإن الهجرة النبوية المباركة كانت بمثابة النافذة التي أطل من خلالها سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ومعه الرعيل الأول من المسلمين علي الدنيا و ذلك لكي يعلن للكون انبثاق التحولات الجذرية في تكوين البشرية وجودياً وحضارياً وذلك بعد استلهام القيم الحضارية السامية التي جاء بها الدين الجديد، وهذه القيم لن تؤتي فعاليتها المنشودة إلا عبر الاستيعاب الموضوعي لها. فضلاً عن الانفتاح علي الآخرين أياً كانت وجهتهم: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات .
وتتبلور هذه المظاهر الانفتاحية في الهجرة من خلال سلوكيات سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم التي جعلت من الهجرة حركة تاريخية رائدة فضلاً عن كونها المحك الإيماني الفذ الذي صنع الرجال، والبوتقة التي انصهرت فيها جميع التيارات الحضارية السائدةآنذاك، ولن يتحقق التجسيد الحيوي لأبعاد هذه المظاهر إلا من خلال معرفة أكيدة بأن رسولنا صلي الله عليه وسلم قد وضع خطواته الأولي في الدرب صوب يثرب المدينة وقلبه يخفق بهذا الدعاء: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً . وكان يعلم جيداً أن حركة الإنسان في التاريخ لا تستقيم وتصل إلي هدفها إلابأن يرفع الإنسان بصره وفؤاده وعقله وسمعه وحسه إلي السماء يتلقي عنها الصدق والنصر، صدق الحركة وانتصار قيمها لكنه لم ينس لحظة أن هذا التوجه إلي السماء يجب أن يقترن بثبات الخطي علي الأرض وبتحمل مسؤولية البصر والسمع والفؤاد بأمانة كاملة وبصياغة الحرية الإنسانية بما ينسجم في المدي القريب والبعيد مع قدر الله ونواميسه وسننه، ومن دون هذا التناغم بين مشيئة الله وحرية الإنسان بين نور السماء وشفافيتها، وبين كثافة الأرض ووعورة الطريق من دون هذا الحوار الدائم الفعال بين الإنسان وخالق الإنسان، بين انطلاق الروح وشد الجسد، من دون هذا التواصل الدائم بين الحضور والغياب بين عالم المشاهدة المباشرة والغيب البعيد من دون هذا وذاك، لن تكون هناك حركة جادة ولا مصير عظيم.
وفي ضوء هذا المنطلق الإيماني الراشد يمكن القول:إن الالتحام العضوي الحي بين الإرادة الإلهية العليا والإرادة البشرية السوية هو الذي ساعد علي نجاح حركة الهجرة التي قلبت موازين التاريخ البشري رأساً علي عقب حيث تولد عنها قيام الدولة الإسلامية ذات الطابع العالمي في المدينة المنورة لأول مرة في تاريخ شبه الجزيرة العربية ثم الحضارة الإسلامية بنزوعها الكوني والإنساني. كما يمكننا التأكيد علي أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد انفتح علي جميع التيارات السائدة في عهده وذلك من خلال الاستيعاب الموضوعي لمعطيات العصر آنذاك، فضلاً عن أنه صلي الله عليه وسلم لم ينس الاستضاءة بوحي السماء المسدد لخطاه علي درب الهجرة الطويل الذي جاءه الأمر الإلهي بالقيام بها، بعد أن تكالبت عليه كل قوي البغي و العدوان، وعلي كل المسلمين في مكة.
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي
صحيفة الراية القطرية