الرسوم الكاريكاتيرية في سياسة الشرق الأوسط

جيمس بيتراس وروبن إيستمان- أبايا

إن البؤرة المركزية للمواجهة المتفجرة التي تدور رحاها الآن بين المحتجين المسلمين والعرب، والزعماء السياسيين والحكومات العربية والإسلامية من جهة، والأنظمة ودور النشر الأمريكية والغربية من جهة أخرى، تتركز في الجهود الإسرائيلية الرامية إلى استقطاب العالم لصالحها، وتشجيع العزلة والعقوبات الاقتصادية و/أو الهجوم العسكري ضد إيران. هنالك عدد من الأسئلة الهامة، فشل الكثيرين من المعلقين والمحللين في الإجابة عليها. ومن هذه الأسئلة:

·       لماذا تم نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية في الدنمارك ؟

·       وماهي الخلفية السياسية "لفيلمينج روس" المحرر الثقافي لصحيفة يولاندز بوستن، ومن الذي حث على هذه الرسوم واختيارها ونشرها؟

·       وماهي القضايا الرئيسية التي تزامن توقيتها مع توقيت نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية؟

·       ومن هو المستفيد من نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية وإذكاء نار المواجهة بين العرب والمسلمين من جهة والغرب من جهة أخرى؟

·       وما هو السياق السياسي الحالي لإحتجاجات العرب والمسلمين ؟

·       وكيف تورط جهاز الأمن الإسرائيلي السري، الموساد، في إشعال النزاع بين العرب والمسلمين من جهة والغرب من جهة أخرى؟ وكيف يمكن احتساب النتائج التي ترتبت على هذه الخطوة قياساً على النتائج التي كانت متوقعة؟

إن نقطة الانطلاق الأولى لتحليل جدلية هذه الرسوم الكاريكاتيرية، والتي تم التركيز عليها لمهاجمة المسلمين والدول الإسلامية على أنها غير متسامحة مع حرية التعبير الغربية، هو الدور القديم للدنمارك كأهم مركز لنشاط الموساد في أوروبا. بعبارة أخرى: كيف يمكن لبلد اسكندنافي صغير كهذا، لا يتجاوز عدد سكانه 5.4 مليون نسمة (عدد المسلمين منهم 200 ألف نسمة أي أقل من 3%) يشتهر بقصص الحواري ولحم الخنزير والجبن، أن يصبح هدفاً لغضب الملايين من المسلمين من أفغانستان إلى فلسطين، ومن إندونيسيا إلى ليبيا، وفي شوارع جميع مدن العالم التي يتواجد فيها أعداد مقدرة من المسلمين؟ ولماذا بعد ضرب بغداد، وبعد التعذيب في سجن أبو غريب، والمذابح التي ارتكبت في الفلُّوجة، والفقر المدقع والفاقة اللذين يعصفان بشعبي العراق وأفغانستان.... يقوم المسلمون بتحويل غضبهم إلى رموز الدنمارك من معلباتها إلى سفاراتها وشركاتها العاملة في الخارج؟

والقصة، كما رواها مقدمو البرامج الإخبارية في محطات التلفزة بحقائقها الكاملة، هي قصة فلمينج روز، المحرر الثقافي المصادم لصحيفة يلاندز بوستن الدنمركية اليومية واسعة الانتشار، والذي أراد الحد من "التصويب السياسي" المتنامي بين الأوربيين حول انتقاد المسلمين، والذي شبهه "بالرقابة الذاتية" التي شهدها في بلده الأصلي الاتحاد السوفيتي. إن مدير الصفحة الثقافية هذا، غريب الاسم، أوكراني المولد، طلب من بعض الرساميين الدنماركيين تقديم سلسلة من الرسوم الكاريكاتيرية تصور النبي محمد كما يتخيله رسامو الكاريكاتير الدنماركيون. غير أن أربعة من الرسوم الكاريكاتيرية الاثنا عشر التي تم اختيارها، بما فيها اكثر هذه الرسوم إثارة للجدل، والذي وضعت فيه القنبلة على العمامة، قام برسمها رسامو الكاريكاتير العاملين مع روس نفسه.وفي تحد منه للقوانين الدنماركية التي تمنع الإساءة إلى الأديان، قام روس بنشر هذه الرسوم في 30 سبتمبر 2005، وما حدث بعد ذلك أصبح معروفاً لدى الجميع.

هجمة عنيفة اندلعت على مستوى العالم الإسلامي ضد "حرية التعبير المقدسة" لدى الغرب، فهب الملايين من الأوربيين والأمريكيين الشماليين للدفاع عن حرياتهم العزيزة على أنفسهم في هذا "الصراع المستعر بين الحضارات". لقد أُلقي باللوم بشكل بارز على سوريا وإيران على إخراج المؤمنين الغاضبين إلى شوارع دمشق وطهران وبيروت والأحياء الفقيرة في قطاع غزة. وحسب رايس وزيرة الخارجية الأمريكية "أن إيران وسوريا قامتا بإلهاب المشاعر لتوظيف ذلك لمصالحهما الخاصة، وعلى العالم أن يمنعهما من ذلك". بينما السلطات الباكستانية والليبية الحليفة للولايات المتحدة، قامت بإطلاق النار على المتظاهرين فقتلت وجرحت عدداً منهم وقامت باعتقال عدد كبير من الزعماء الدينيين. وطالبت الحكومات الغربية حلفائها العرب والمسلمين بمنع المزيد من الهجمات على المصالح والممتلكات الدنماركية، وألقت باللائمة على أولئك الذين لم يتمكنوا من قمع هذا الغضب بالتواطؤ والتحريض.وقد كان كل ذلك حول مجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية، أو هكذا قيل لنا.

وأما المحرر الثقافي، فلمنج روس، فقد تعب من إحاطته بفريق من أفراد الشرطة والأمن الدنماركيين لحمايته من الاغتيال، ومن غيابه عن أعماله اليومية في ضاحيته الهادئة في كوبنهاغن، فاختار أن يجد ملجأ آمناً في ميامي بولاية فلوريدا (بدلاً من أوكرانيا، بلده الأصلي) بين المنفيين الكوبيين والسيانيم (sayanim) الإسرائيليين ومتقاعدي موها جونغ، بينما المسرحية لاتزال مستمرة.

الدنمارك مركز لنشاط الموساد

لماذا الدنمارك؟ وهل كان من الممكن افتعال هذا الجدلية الرديئة الصنع من خلال إحدى الصحف الكبرى في لندن أو نيويورك؟ ومن الذي أراد وضع الدنمارك في قلب هذا "النزاع بين الحضارات" – حينما ظهرت على أنها جزء من قصة من الدرجة الثانية تعبر عن كراهية الإسلام؟

هنالك فصل عجيب في كتاب فيكتور أوستروفيسكي، عميل الموساد الإسرائيلي السابق، بعنوان "عن طريق الخداع"(مطبعة سانت مارتن 1990)، يلخص العلاقة الوثيقة بين أعمال جهاز المخابرات الدنمارك وجهاز الموساد الإسرائيلي التي تمتد إلى عدة عقود:

"العلاقة بين الموساد وجهاز المخابرات الدنماركي عميقة جداً إلى درجة مخلة بالأدب. ولكن ليس هذا لصالح الموساد، بل هي لصالح الدنمارك. وذلك بسبب الانطباع الخاطئ بأن الدنماركيين أنقذوا الكثير من اليهود في الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن الإسرائيليين ممتنون لذلك، وهم يثقون في الموساد".

وجهاز الموساد باستطاعته مراقبة جميع السكان العرب، وخصوصاً الفلسطينيين (ومن المفترض أن يتضمن هؤلاء كل من يحمل الجنسية الدنماركية) من خلال علاقاته الخاصة مع الدنماركيين:

"... أحد رجال الموساد يقوم بمراقبة جميع الرسائل الخاصة بالعرب والفلسطينيين (من الجالية العربية الدنماركية) والتي تأتي إلى مكتبهم الرئيسي (جهاز الأمن المدني الدنماركي)...وهو ترتيب استثنائي لجهاز المخابرات الأجنبية".

إن الاحترام الكبير الذي يكنه ضباط المخابرات الدنماركيين لزملائهم الإسرائيليين في الموساد، ليس متبادلاً على ما يبدو، حسب أوستروفيسكي.

"حيث أن رجال الموساد يحتقرون نظرائهم الدنماركيين، فيصفونهم بأنهم "فيرتسالاش fertsalach" وهي كلمة عبرية تدل على الانفجار الصغير للغاز، ... أي أنهم يخبرون الموساد عن كل ما يفعلون". الصفحات 231-232.

ومقابل إذلالهم هذا يحصل الدنماركيون على التدريب من الإسرائيليين:

" ضباط المخابرات الدنماركيين يذهبون مرة كل ثلاثة أشهر إلى إسرائيل لحضور سمنار يعقده الموساد" ... وهو بدوره يخلق علاقات مفيدة للموساد "بترسيخ الانطباع بأنهم (أي الموساد) أفضل من غيرهم في التعامل مع الإرهاب".

وفي أعقاب الكارثة الأمريكية في العراق، ومقاومة العالم لشن هجوم عسكري استباقي كبير، أو فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وهو ما قد يرفع أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل، كان لابد لإسرائيل أن تدير حرب الأفكار في مخيلتها. وأدركت أن حملة تهدف إلى إثارة المزيد من المبررات لمهاجمة بعض الدول مثل إيران وسوريا (عدوتي إسرائيل)، ستنطلق من أحد أقوى حلفاء الولايات المتحدة الأوربيين في غزو وتدمير العراق وأفغانستان، والتي لن يتأخر جهاز مخابراتها (fertsalach) عن خدمة مصالح إسرائيل.

فليمينج Flemming (أو المُشْعِل Flaming) روز Rose: صحفي موجه

وإذا نظرنا إلى اختراق الموساد لوكالات المخابرات الدنماركية منذ القدم، وعلاقات العمل الوثيقة التي تربطها بوسائل الإعلام اليمينية المتطرفة، نجد أنه من غير المستغرب أن يكون هذا اليهودي الأوكراني الذي يعمل تحت اسم فليمنج روز، وتربطه علاقات عمل وثيقة بدولة إسرائيل (وبحزب الليكود اليميني على وجه الخصوص)، في مركز هذه الجدلية حول الرسوم الكاريكاتيرية.روابط روس بدولة إسرائيل تظهر من خلال المقابلة الترويجية المشهورة التي أجراها في عام 2004م، مع دانيال بايبس الصهيوني سيء السمعة المعادي للعرب. وقبل تعيينه محرراً للصفحة الثقافية في هذه الصحيفة اليمنية الدنماركية، عمل روز مراسلاً للصحيفة في موسكو في الفترة بين عامي 1990 و1995، حيث كان يقوم بترجمة السيرة الذاتية لبوريس يلسن، ابن أحد مؤيدي إسرائيل، وأحد أعضاء حكومة القلة الروسية بعد الحكم الشيوعي، وأغلب هؤلاء كانوا يملكون جنسيات مزدوجة وكانوا يتعاونون مع جهاز الموساد في غسيل الملايين من الأموال المحظورة. وبين عامي 1996 و1999، عمل روس صحفياً بدائرة واشنطن (حيث سافر مع كلينتون إلى الصين) قبل أن يعود إلى موسكو ليعمل مراسلاً فيها لصحيفة يلاندز بوستن في الفترة بين 1999 و2004م. وفي عام 2005 أصبح المحرر الثقافي، وذلك بالرغم من معرفته المحدودة أو المعدومة في هذا الميدان، وعلى رأس صحفيين دنماركيين آخرين. وجد روز في منصبه الجديد مجالاً قوياً لإشعال الكراهة المتنامية للمحافظين الدنماركيين ضد المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً المسلمين الملتزمين بدينهم. مستخدماً في ذلك كل ما ورد في المقابلة التي نشر فيها الحقد الأعمى الذي يعاني منه دانيال بايبس ضد المسلمين، ربما "ليسبر غور المياه" قبل أن ينتقل إلى المرحلة التالية في إستراتيجية الموساد الإسرائيلي لإشعال المواجهة بين الغرب والشرق.

السياق السياسي لهذا العمل

هنالك كم هائل من الأدلة التي تشير إلى أن الحرب على العراق كانت نتيجة حملة كبيرة من التضليل قام بها خبراء مدنيين مختصين في الشأن العسكري بالبنتاغون، والصهاينة داخل وخارج المناصب العليا في البنتاغون والمجتمع المدني، وذلك بالتنسيق مع دولة إسرائيل، والتي أرادت تدمير العراق بصفتها دولة فعالة. وليس هنالك من دليل على أن شركات النفط الأمريكية الكبرى مارست ضغوطاً على الكونغرس أو روجت للحرب على العراق أو المواجهة الحالية مع إيران. بل هنالك عدد كبير من الأدلة على أنهم قلقون جداً من الخسائر التي قد تنجم عن أي هجوم إسرائيلي على إيران.

لقد نجح الصهاينة في تحقيق أهدافهم في العراق: حيث قاموا بإنشاء موطئ قدم لهم في الجيب الكردي الشمالي (كردستان)، وضمان بعض العملاء داخل النظام العراقي من أمثال الجلبي وغيره.

المنظمات اليهودية الصهيونية قامت بالتعبئة لمقاومة أي انتقاد يوجه إلى صناع القرار من الصهاينة، من خلال التلويح بتهمة معاداة السامية. ولكن بمرور الوقت، أشارت تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى أن هنالك نشطاء إسرائيليين كبار ومعاونيهم المحليين يعملون جواسيسي لصالح إسرائيل. وفي الوقت الذي استفادت فيه إسرائيل من غزو بوش – بلير للعراق، إلاّ أن الشيء نفسه لا ينطبق على الولايات المتحدة. حيث سقط آلاف الضحايا، وتصاعد الإنفاق على الحرب إلى مئات المليارات من الدولارات، مع تصاعد المعارضة للحرب.

الخطط الإستراتيجية الإسرائيلية لتوسيع العمليات العسكرية الأمريكية باتجاه إيران وسوريا واجهت تحديات كبيرة، من داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية والرأي العام، وحتى بعض وسائل الإعلام. حيث أن عملاء الموساد في صحف نيويورك تايمز وولستريت جورنال وغيرها، كان عليهم نشر المقالات الملتهبة حول تهديد السلاح النووي الإيراني، الغير موجود أصلاً، خصوصاً بعد أن تبين أن المؤامرة نفسها التي تم تلفيقها للعراق كانت محض افتراء. وعليه كانت هنالك حاجة ماسة إلى خط آخر للدعاية الإعلامية لإسكات الذين يعارضون الحرب، وتصعيد العداء ضد المسلمين والعرب بشكل عام، وضد إيران على وجه الخصوص. ولهذا ظهرت عملية فليمنج روس في الصورة. فتم نشر الرسوم الكاريكاتيرية المعادية للإسلام في الدنمرك في سبتمبر 2005، بينما استمر الصهاينة الإسرائيليين والأمريكان في الدعاية لحربهم ضد إيران. غير أن الرد الأولي من الدول الإسلامية كان محدوداً. ولم يتم تناول الموضوع في صحيفة هيرالد تريبيون الدولية حتى ديسمبر 2005. ولكن في بداية يناير 2006 قام ضباط جهاز الموساد الإسرائيلي بتنشيط (السيانيم Sayanim)، وهم المتطوعون اليهود خارج إسرائيل، في وسائل الإعلام الأوربية الغربية والشرقية، لتتزامن في إعادة نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية في اليومين الأول والثاني من فبراير 2006. ومن بين عمليات السيانيم هذه، كان قرار أرنود ليفي، كبير المحررين بصحيفة فرانس سواغ، ورئيس التحرير سيرج فوبرت، بنشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية. حيث قام مالك الصحيفة الفرنسي مصري الأصل بإقالة مدير التحرير، جاك لوفرانس، والذي اعترض، حسب محطة CNN على نشر هذه الرسوم، دون أن يتعرض لليفي وفوبيرت.

لقد اندلعت حملة شديدة في وسائل الإعلام المؤيدة للغرب لإدانة الاحتجاجات الإسلامية الأولية، التي كانت معتدلة نسبياً، والتي حدثت بين شهري سبتمبر وديسمبر 2005، وسرعان ما أدت إلى تصاعد الغضب الذي تم تأجيجه دون شك بفعل العملاء السريين للموساد بين الشعوب العربية. كما أن عميل الموساد الصغير، جهاز الاستخبارات الدنماركي صب الزيت على النار عندما نصح رئيس الوزراء اليميني أندريه فوغ راسموسن، برفض تقديم الاعتذار الذي طالبت به الدول العربية الموالية للغرب، وحتى رفض الاجتماع الذي دعاه إليه مجموعة من دبلوماسيي الدول الإسلامية والعربية في الدنمرك لمناقشة الوضع.

لقد حاول فلمنج روز وكذلك الموساد إلى تصعيد التوتر بين الشرق والغرب. عرض علناً أن يقوم في صحيفته بنشر أي رسوم كاريكاتيرية يرسمها الإيرانيون للسخرية من المحرقة اليهودية. ولكن يبدو أن كبير المحررين في بصحيفة يلاندز بوستن فطن بعد فوات الأوان إلى الأجندة الخفية لفيلمنج روز، وقام بإلغاء العرض، وطلب من روس أن يحصل على إجازة. وسافر روز إلى ميامي، وليس إلى تل أبيب- حيث أن بقاؤه هناك قد يثير الشكوك حول إدعائه بأنه أراد أن يكون مجرد خصم للرقابة الذاتية. وفي ميامي، لا شك في أنه سيحصل على حماية السيانيم، العملاء المحليين اليهود، المسلحين والمدربين للدفاع عن الصهاينة المهددين.

السيانيم Sayanim – حماة الحضارة الغربية

كلمة سيانيم Sayanim حسب فيكتور أوستروفسكي مشتقة من كلمة عبرية معناه "المساعدة" وهي شبكة كبرى من اليهود حول العالم يحتل أفرادها مواقع إستراتيجية وهامة (كالعقارات ووسائل الإعلام والأموال وتجارة السيارات وغيرها) والذين وافقوا على مساعدة نشاطات جهاز الموساد الإسرائيلي في بلدانهم التي ينتمون إليها. ويعود هذا إلى الولاء الأعمى الذي يدين به السيانيم لإسرائيل، على حساب مصالح البلدان التي ينتمون إليها، وهو دائماً لا يصب في مصلحة هذه البلدان. وحسب غوردن توماس ومارتن ديليون، في السيرة المفصلة التي قاما بإعدادها:

روبرت ماكسويل أكبر جاسوس لإسرائيل (دار كارول وغراف للنشر، 2002)، روبرت ماكسويل مالك وسائل الإعلام سيء السمعة، كان من أهم السيانيم، حيث كان يوفر مكاتب تشكل واجهات للعلاقات السياسية وخدمات غسيل الأموال، والقصص المفتعلة لصالح إسرائيل بإيعاز من الموساد. كما أن جوناثان بولارد الأمريكي الذي كان يعمل باحثاً في القوات البحرية، والذي تم سجنه بتهمة التجسس، هو عميل آخر ذو سمعة سيئة من السيانيم. وتتراوح نشاطات هؤلاء "المساعدين" السيانيم بين نشاطات مدهشة وأخرى ذات منافع دنيوية خاصة، وحسب فيكتور أوتروفسكي في كتابه "عن طريق الخداع" الذي صدر عام 1990، السيانيم يمثلون مجموعة تتكون من آلاف الأفراد الناشطين وغير الناشطين الذين يمكنهم تقديم خدمات تخلو من الولاء لقضية إسرائيل، كما يتم تحديدها في العملية الحالية للموساد. حيث أن الطبيعة السيانيمية لهذا الترتيب واضحة للغاية: إذا أن الأمر لن يختلف كثيراً لدى الموساد إذا ما أدت عملية ما، كالتي قام بها فليمنج روس إلى تعريض المصالح الوطنية والاقتصادية للبلد الذي ينتمي إليه السيانيم، ولو تم الكشف عنها، ربما تضر بوضع اليهود في الخارج. وسيكون الرد القياسي من الموساد على النحو التالي: إذاً ما هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث لهؤلاء اليهود؟ هل سيأتون كلهم إلى إسرائيل؟ هذا عظيم". وهذا التهور له نتائج واضحة على اليهود الذين رفضوا تجنيدهم كعملاء للموساد في الدول المتأثرة.

دعاية الموساد للحرب و"جدلية الرسوم الكاريكاتيرية"

أعرب الزعماء الإسرائيليين عن معارضتهم للمساعي الدبلوماسية لإدارة بوش الرامية إلى إشراك الأوربيين في المفاوضات مع إيران. وتلقائياً وبدون أي مقدمات قامت المنظمات الصهيونية واليهودية في الولايات المتحدة (AIPAC، ورؤساء المنظمات اليهودية الكبرى، وADL وغيرها) بشن حملة وطنية شاملة لتعبئة الكونغرس وأصدقائهم في السلطة التنفيذية للقيام بعمل عسكري عاجل ضد إيران أو فرض عقوبات اقتصادية عليها. غير أن إدارة بوش بالرغم من موافقتها على ذلك، إلاّ أنها لم تجد التأييد اللازم، لا في الولايات المتحدة ولا بين حلفائها الأوربيين. وكانت سياسة الموساد تسعى لإيجاد ذريعة تمكنها من خلق حالة من الاستقطاب للرأي العام بين الشرق الأوسط (وما يليه) من جهة، والغرب من جهة أخرى، من أجل تصعيد التوتر لتشويه سمعة الإسلاميين لتتمكن من السيطرة على الشرق الأوسط. والرسوم الكاريكاتيرية التي نشرها روز قدمت خدمة عظيمة للموساد. حيث أن الأمر يمكن تقديمه على أنه قضية تتعلق بحرية التعبير، وعلى أنه نزاع بين "القيم" وليس "المصالح"، وبين "ديمقراطية الغرب" والإسلاميين "الأصوليين المستبدين" (كما جاء في وصف بايب- روز). لا شيء يمكن أن يكون بعيداً عن الحقيقة. قام روز بطلب هذه الرسوم الكاريكاتيرية واختار منها الرسوم الإسلامية، بينما قامت صحيفته في وقت سابق برفض نشر رسوم كاريكاتيرية مشابهة لهذه عن يسوع المسيح. وصورة روز التي ظهر فيها بمظهر "المثقف المهاجم للمقدسات الدينية" في الوقت الذي يعمل فيه لصالح صحيفة يمينية مواضيعها اليومية معادية للمهاجرين من منطقة الشرق الأوسط، وتنشر مقابلات مع صهاينة متطرفين، لا ينم عن المصداقية، ومع ذلك، انتشر هذه الصورة في كافة وسائل الإعلام الرئيسية. وبينما قام روز بإثارة التوتر في العالم، قام زملاؤه من الليبراليين والمحافظين الجدد وكذلك رفاقه داخل وخارج الموساد الإسرائيلي بنشر تجاوزاته وأثاروا بها غضب العالمين العربي والإسلامي.

الرسوم الكاريكاتيرية، وما تلاها من الإهانات التي هاجمت المحتجين المسلمين، وحلفاؤهم العلمانيين في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، تسببت في إثارة المزيد من المظاهرات السلمية، ثم إلى مظاهرات عنيفة قام بها الملايين من المحتجين. وقامت وسائل الإعلام الجماهيري في الغرب بعرض صور الاحتجاجات والمظاهرات العنيفة، ونجحت في خلق حالة من التخوف من الدول الإسلامية والأقليات المسلمة في أوربا، وهو ما كانت تهدف إليه هذه العملية. وحصلت كراهية الإسلام على زخم هائل. وقام أبواق الدعاية الإعلامية من الصهاينة في أوربا وأمريكا بالربط بين الدفاع عن حرية التعبير والسياسات الأمنية الإسرائيلية. وبينما قام الغرب بتوجه غضبه إلى المحتجين المسلمين، قامت إسرائيل بمحاصرة قطاع غزة، وقامت الولايات المتحدة وأوربا بوقف التمويل عن الفلسطينيين، مهددة الشعب الفلسطيني بالموت جوعاً لأنه مارس حقه الديمقراطي في انتخاب قادته! بينما تمثيلية روز التي سماها حرية التعبير قامت بإنعاش نظرية "صراع الحضارات" التي يروج لها الصهاينة والمحافظين الجدد.

ومن خلال اللعب على الخوف الأوربي من الإسلام، وحساسية المسلمين المتزايدة تجاه الانتهاكات الغربية، من المحتمل أن يكون خبراء الحرب النفسية الإسرائيليين قد نصحوا بموضوع "حرية التعبير" باعتباره مفجراً مثالياً لهذا النزاع.

النصر الذي حققته حركة حماس –التي يصفها الإسرائيليون بأنها حركة إرهابية- في الانتخابات الديمقراطية، أدى إلى مضاعفة الجهود الإسرائيلية الرامية إلى إقناع الحكومات الغربية للإصرار على أن النظم الحاكمة في العالم الإسلامي تقوم بقمع "الشعوب الإسلامية اللاعقلانية" أو تواجه اللوم الغربي أو منع المساعدات. (وإن الفشل في منع المتظاهرين بالقوة فسرته وسائل الإعلام بأنه موافقة أو تحريض رسمي) المنظمات الصهيونية الأمريكية الكبرى استطاعت أن تؤثر على وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، حينما ألقت باللائمة على إيران وسوريا في إشعال المظاهرات في مختلف أنحاء العالم، من غزة إلى الفلبين. وكانت الخطة الإسرائيلية ترمي إلى استغلال الغضب الأوربي لإضعاف أي معارضة يمكن أن تظهر ضد أي عمل عسكري أو عقوبات اقتصادية ضد إيران وسوريا.

ما وراء التعدي على المقدسات الدينية

في حين أن أغلب التحليلات لم تركز على موضوع الرسوم الكاريكاتيرية على أنه المصدر والهدف للمظاهرات التي تعم أنحاء العالم، إلاّ أنه في الواقع وفي أحسن الأحوال هو المفجر الأساسي لسلسة الأحداث الحالية ذات الأهمية السياسية الكبرى. فمن "الصدمة والرهبة" التي سببها القصف الشامل للعراق، إلى التعذيب الجماعي والإذلال الروتيني اليومي في الدول المحتلة، ومن الدمار الماحق الذي لحق بالفلوجة (وهو المثال الأمريكي لما فعله النازيون بغرونيكا) إلى الخراب الذي عاثه الإسرائيليون في مخيم جنين في فلسطين، ومن الاغتيالات اليومية التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين إلى تلويث القرآن بالقاذورات في معتقل غوانتنامو، حاولت إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا أن تبين بأنه ليس هنالك أمان للمسلمين في أي مكان، لا في مدارسهم أو مزارعهم أو مصانعهم أو مساجدهم، وأنْ ليس هنالك شيء مقدس.

والسبب الذي يجعل ملايين المسلمين يحتجون ضد رسم كاريكاتيري تم نشره في صحيفة يمينية تافهة في إحدى الدولة الاسكندينافية، هو أن هذا الأمر هو بمثابة القشة الأخيرة لتفجير سلسلة من الانتهاكات المتعمدة للحقوق الأساسية الاجتماعية والسياسية للمسلمين والعرب والشعوب المستعمرة. وبينما ركزت وسائل الإعلام الغربية بشكل خاص على الخلفية الدينية للمتظاهرين، إلاّ أن كل الدول تقريباً التي حدثت فيها المظاهرات العنيفة، قد تعرضت لتدخلات غربية مؤخراً، حيث تعرضت لعمليات سلب واسعة النطاق للمواد الأولية، أو شهدت دماراً لحقوقها العلمانية: فقد احتلت الدول وهدمت المنازل والمدارس والمستشفيات والأنظمة الصحية وأنظمة مياه الشرب، ودمرت المزارع والموارد الطبيعية، ونهبت المتاحف والمكتبات العامة والمواقع الأثرية، ودنست المساجد. إن الوضع الحالي للوجود المادي الحالي هو الجحيم الغربي الذي أصاب كل الناس على حد سواء (العلمانيين منهم والمتدينين) الذين يعيشون في العالمين العربي والإسلامي. وأما الآن وقد صار النبي محمد، مرجعهم الروحي والتاريخي، وأعظم الشخصيات التاريخية التي تستحق الإعزاز، عرضة للإساءة مراراً وتكراراً من بعض الإمبرياليين المتغطرسين، وخدمهم في أجهزة الإعلام الذين تحرضهم إسرائيل وعملائها في الخارج من "السانيم". ولكن من السخرية القول أن المسلمين الملتزمين سيسيئون إلى شخص يسوع المسيح، لأن ذلك أمر يحرمه القرآن أيضاً.

وكما كان الإستراتيجيون الإسرائيليون يعلمون مسبقاً أن الطعن في الإسلام لم يحدث في فراغ سياسي: حيث أن الشروط المادية لقيام الانتفاضة الإسلامية كانت مهيأة: حيث أن حماس اكتسحت الانتخابات الفلسطينية، والجيش الأمريكي أدرك بأنه سيخسر الحرب في العراق لا محالة، وإيران رفضت الاستسلام، وبوش بدأ يفقد التأييد الشعبي على الحرب القائمة والمستقبلية في الشرق الأوسط، والأيباك AIPAC أو اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الوسيلة الإسرائيلية الرئيسية للتأثير على السياسة الأمريكية يخضع للتحقيق الجنائي.... وإستراتيجية إسرائيل لدفع الولايات المتحدة لخوض حروبها نيابة عنها بدأت في التراجع. لقد كانت هنالك حاجة إلى إنعاش التوترات السياسية التي استغلوها بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 لصالح إسرائيل: وهكذا جاء استفزاز فليمنج روز، وتم التنسيق للترويج لهذا العمل على نطاق واسع، وأثير موضوع حرية التعبير بين عملاء إسرائيل في الغرب واللبراليين والمحافظين، والمحافظين الجدد، وانفجرت الاحتجاجات التي كانت متوقعة، وردة الفعل على التوتر في الشرق الأوسط ... ومن ثم تمرير أجندة إسرائيل.

ومن الواضح أن هذه المجابهة المتنامية الآن، هي أكبر من أن تتعلق بالدين أو بحرية التعبير، وهي أكبر من استفزازات سمجة لمحرر ثقافي حاقد ومدلل لدى وكالة المخابرات الدنمركية المخترقة. وإن ما في المحك الآن هو الأفكار العنصرية المسبقة عن المسلمين والعرب من شعوب العالم الثالث، من أجل إدامة وتعميق الظلم والاستغلال الذي يتعرضون له.

وإن المصدر الأكثر تأثيراً وانتشاراً للأفكار العنصرية المسبقة عن العرب هي إسرائيل وعملائها في الخارج (خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا) من الأكاديميين والخبراء في شؤون الإرهاب وعلماء النفس في أرقى الجامعات والمراكز الفكرية الذين قدموا "الصورة النفسية" للتعذيب والإذلال، وإثارة وقمع الملايين ممن يطالبون بتقرير المصير من الهيمنة الاستعمارية والإمبريالية.

ومرة أخرى، وضعت إسرائيل وعملائها في الخارج المصالح التوسعية والعسكرية لإسرائيل فوق مصالح الشعوب الأوربية والشعب الأمريكي. والمعيار الذي تتبعه دولة إسرائيل "هل هو من مصلحة اليهود؟"، قاد إلى التأييد الأعمى للمواجهات الشاملة التي تسعى لتعميق العداوة بين الشعوب العربية والإسلامية من جهة، والأنظمة الغربية من جهة أخرى. ولكن الشيء الذي بدا ذكياً للغاية فيما فعله روز وأمثاله من عملاء إسرائيل في العالم، في إشعال المواجهة التي قد تتراجع مرة أخر: هو أن هذه المظاهرات تذهب إلى ما هو أبعد من الاحتجاج على الإساءة للرموز، إلى مهاجمة أدوات السلطات، بما في ذلك العرب والمسلمين الموالين للقنصليات والمتعاونين مع القوة الاقتصادية والسياسية الأوربية والأمريكية. وبينما كان الموساد ذكياً للغاية في اختراق وإثارة الأقليات المضطهدة، إلاّ أنه كان غبياً إلى حد كبير في احتواء النتائج التي ترتبت على هذه الإثارة كالانتصار الأخير الذي حققته حركة حماس ونجاح المقاومة العراقية. ولعل الرسوم الكاريكاتيرية القادمة تكون عن موسى وهو يقود شعبه إلى الصحراء.

الخاتمة

بينما جدلية حرية التعبير مقابل إهانة المقدسات التي فجرها الموساد لازالت مستمرة في التفاقم بين الغرب والشعوب الإسلامية، تمضي إسرائيل في فرض حصار اقتصادي على أربعة ملايين فلسطيني، وهو حصار يشبه حصار النازيين، تهدف من خلاله إلى تجويعهم حتى يتخلوا عن حقوقهم الديمقراطية. والمقصود هو التعبير المختصر الذي نقله جيديون ليفي المراسل اللامع لصحيفة هاأريتز في 19/2/06 عن دوف ويسجلاس، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو يتحدث إلى كبار المسؤولين ويتهكم قائلاً "إنه (تجميد اقتصادي – وهو ما قد يتضمن الكهرباء والماء بالإضافة إلى الغذاء) وهي مثل مقابلة أخصائي الحمية. فالفلسطينيون سيعانون من النحافة ولكنهم لن يموتوا". فضج المسؤولون الإسرائيليون حينئذ بالضحك. وكما يشير ليفي "إن أكثر من نصف الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر... حيث أنه في العام الماضي 37% منهم واجهوا صعوبات في الحصول على الطعام .. و54% من سكان غزة قللوا من استهلاكهم للطعام... ومعدل وفيات المواليد زاد بنسبة 15% ومعدل البطالة بلغ 28%". إن التجويع الجماعي المخطط له مسبقاً لهذا الشعب، والذي يطرح بسخرية من قبل جلاديه على أنه زيارة لأخصائي الحمية، هو نسخة طبق الأصل من المناقشة السياسية للقيادة النازية العليا لمصير السكان في غيتو وارسو. إن قدرة إسرائيل على تبني وتطبيق سياسة الإبادة الجماعية قد تم التمهيد لها بالعروض الجانبية الرمزية التي تم تدبيرها بواسطة "الموساد- روز" في أوروبا الغربية. إن فكرة "النزاع الثقافي" في خدمة الإبادة الجماعية، من الصعب أن تكون حيلة ذكية أو مجرد انتهاك واضح للمشاعر الإسلامية، بل هي جريمة في حق الإنسانية.

المصدر :

http://peacepalestine.blogspot.com/2006/02/james-petras-and-robin-eastman-abaya.html

1
3893
تعليقات (0)