. باسم عبد الله عالِم
لم يكن بالمستغرب ولا بالمستهجن أن تتكالب الأمم علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها. واختلاق الأعذار لإيذاء المسلمين ومحاصرة الإسلام هو من أبجديات الصراع القائم حتى قيام الساعة. وأن يجد الغرب مدخلاً من صنيعته ويحيطه بإيحاءات تظهر وكأنه من أرباب العدالة أمرمتاحاً لأنه وببساطة يملك المعلومة والماكينة الإعلامية وأدوات الضغط السياسية والاقتصادية والعسكرية التي من شأنها أن تجبر الباقون على الانضمام على جوقة الشرف بقيادة الغرب على وجه العموم والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
وإن كنت ممن أسهم في تنفيذ الادعاءات الغربية فإنني إنما أقوم بذلك لفضح النوايا وتبيان الحقائق كي لا يغتر به المغتر أو يسير في ركابهم وهو يظن أنه يحسن صنعاً. أما الولايات المتحدة الأمريكية ومن دار في فلكها عن دراية وقناعة وإيمان، فهم جميعاً قد اختاروا لأنفسهم أن يكونوا في فسطاط همه الأكبر محاربة الله ورسوله والنيل من هذا الدين وأهله. ولا بأس في ذلك فوجود فسطاطين هو من صميم الاختبار الرباني للأمة وناموس من نواميس الكون الباقية إلى يوم القيامة ولكل أن يتحمل تبعية اختياره في الدنيا والآخرة.
وانتفاخ الباطل وصولته وظهوره و استعلاوه أمر دائم التكرار بل لعله من المتطلبات المهيئة والممهدة لكي يكون انهياره انهياراً مدوياً. فالسقوط من علٍِ أبلغ مثلاً وأمعن عقوبة من التعثر على قارعة الطريق. وعندما أقول بأن ما يحدث اليوم أمراً طبيعي إنما أجعل ذلك في إطار السنن لا في إطار القبول والخضوع له وشتان بين الأمرين.
والمؤلم أشد الإيلام هو أن نرى تخاذل وخضوع مراكز القوى المسلمة إفراطاً في حماية مصالحها وتفريطاً في حق الأمة، بينما الباطل يجتهد في إعلاء باطلة. بالرغم من تفوقه المادي. وقد راقبت ردود الفعل العربية والإسلامية على اتهامات الغرب للأمة بأنها موئل الإرهاب ومصدره فما كان من مراكز القوى إلا أن تسارعت ميممة نحو أعتاب الغرب كل يحاول أن يبرهن على براءته من هذه التهمة وأدى ذلك إلى المزيد من التدخل الغربي زاد مراكز القوى عناءً ورهقاً فلم يعد يكفي إعلان البراءة ولم يعد يكفي إعلان الولاء. لقد وجد الغرب ثغرة من خلال ضعف نفوسنا فزاد من مطالبه محاولاً الإملاء علينا ما يجب أن نقوله ومن يجب أن نتبرع له وكيف يجب أن نعلم أبناءنا ومن يجب أن نناصر ومن يجب أن نناوئ ومن يجب أن نسالم ومن يجب أن نعادي وجراء ذلك كله توقفت الإعانات والتبرعات وكل أعمال الخير في سرعة عجيبة وكأنها وافقت هوى في النفس عند البعض وظهر الضعف الذي جعلنا غثاء كغثاء السيل ومن تبقى منهم يغالب نفسه ويقدم النـزر اليسير على استحياء مشترطاً تارة ومرتجياً تارة أخرى أن يظهر اسمه وأن لا يذهب المال إلى أولئك الذين لا ترضى عنهم أمريكا ولا يرضى عنهم الغرب. ويتلفت أحدنا من حوله فيجد صورة بائسة لأطلال كانت يوماً ما مصدر إشعاع للخير، فالمساجد والمدارس والجمعيات الخيرية والمؤسسات التعليمية والأئمة والدعاة وهيئات الإغاثة ودور الرعاية للعجزة أو الأرامل أو اللقطاء والمستشفيات الميدانية كلها أصبحت اليوم رسما ومبنىً دون معنى، أصبحت كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة على فراش الموت. وما أن يستصرخنا مسلم ويهيب بنا بنداء واهٍ قائلاً (وا إسلاماه) حتى تتفاعل النفوس في لحظة من لحظات الصحوة، ولكنها في مواجهة ما حدث، لا تجد ما يحمل همها من تلك المؤسسات والهيئات بعد أن أدى تخوفها وتقاعسها فيما سبق إلى أن تموت الرواحل والمراكب عطشاً وجوعاً. وعلى النقيض من ذلك تتيه الجمعيات الغربية الإغاثية والخيرية وتتفاخر بأنها أول من أغاث المنكوبين وبأنها وصلت إلى المحتاجين من المسلمين قبل أن يصل إليهم أخوانهم من بني جنسهم ودينهم إن ذلك لعمري من السخريات التي ساهمنا في صناعتها وتحقيقها على أرض الواقع وكأننا ممثلون على مسرح ساخر هدفه التحكم والنيل من الإسلام والمسلمين درينا أم لم ندر.
واليوم ونحن في غاية الوجل والخوف بدأنا نلحظ مواقف كنا نظنها من المستحيلات. فالمواقف الأمريكية والغربية السابقة لم تكن لتنبئ بأنهما يستران خوفاً وجزعاً عميقين من الإسلام وأهله، فاليوم نجد الغرب بكل طغيانه وجبروته يساوم حماس وهي على ضعفها وقلة حيلتها وابتعاد مراكز القوى عنها ململمة أطراف أثوابها كي لا يتلطخ ثوبها بالدم المتطاير لما يعتقدونه من دنو أجل حماس على أيدي أمريكا والعدو الصهيوني. ولكن ظهور حماس معتدة بمبادئها عزيزة في مواقفها تتعامل مع العدو بالعزة والندية أربك العدو وأربك الغرب وأظهر عوار الهيمنة الغربية ومواطن ضعفها، فالغرب لا يهيمن أو يسيطر إلا من حيث يجد فينا خوراً أو ضعفاً ولا يتبجح ويصول وينتفخ إلا عندما نتوارى ونبتعد ونذل ونكسر كبريائنا وننهزم في داخلنا فيخلو له الأمر إذ لا يجد ما يهزمه فينا وقد كفيناه المؤونة في ذلك. وما ينطبق على حماس ينطبق على غيره من الكيانات المسلمة أو ذات التوجه الإسلامي رسمية كانت أو غير رسمية دولية كانت أو محلية.
واليوم أتسائل، ماذا لو أن رجال الأعمال قرروا مجتمعين أن يضربوا بعرض الحائط مخاوفهم ويعلنوا على قلب رجل واحد نصرتهم لقضايا الإسلام والمسلمين وتبرعهم المباشر دعماً لإخوانهم وأخواتهم في كل موطن من مواطن الاحتياج سواء كان ذلك في فلسطين أو العراق أو أفغانستان؟ وماذا لو أن الحكومات العربية والإسلامية قررت مجتمعة أن ترفض المطالب الأمريكية بتجميد الحسابات وحجز الأموال؟ وماذا لو قررت المصارف العربية والإسلامية حماية عملائها وسريتهم، فرفضت مراقبة حساباتهم أو الكشف عنها؟ وماذا لو تم تجنيد القوى الاقتصادية والقوى الشرائية في سبيل إملاء شروطنا ومطالبنا الأمنية والسياسية لنخفف عن أسرانا في السجون الأمريكية والأوروبية؟ ترى ماذا سيقول الغرب وكيف يصنع في مواجهة هذه المواقف؟ لقد من الله علينا ليرينا ما قدّر أن يكشفه ويظهره من إمكانيات كامنة فينا من جهة وضعف وهلع مستتر في الغرب من جهة أخرى. ولعلنا اليوم نشير إلى الحالة الحماسية عنواناً لمواقف حماس وردود الفعل الغربية المتحولة والمتغيرة بحسب صرامة رد فعل الشارع المسلم وقدرته في التأثير. إن هاتين الحالتين خير مثال وخير مؤشر وخير مرشد.
ولطالما بحثت الأمة عن تلكم الطليعة التي تقدم نفسها فداء للأمة، فقدر الله أن ينيط هذا الشرف بأخوة لنا في فلسطين يتمثلون في حركتي حماس والجهاد وفي كل من آمن بحقه في الذود عن مقدساته ومقاومة العدوان والاحتلال بكل الوسائل المشروعة التي أقرها الله سبحانه وتعالى القائل: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير). أما في محيط الأمة وهيمنة الحكومات ومراكز القوى فيها فقد أظهرت لنا الأحداث أن هذه الحكومات اندهشت من الموقف المتراخي للغرب أمام صمود حماس وصمود الشعوب الإسلامية في الحالة الدنماركية فمنهم من سارع أن يلملم ما تبعثر ويضمد الجراح وكأنه يقول لحماس ولشعبه على استحياء (إنه لم يكن يقصد القيطعة أو الطرد ولم يكن يقصد التسلط والتجبر) محاولاً البحث عن ثوب جديد يناسب الحالة الجديدة بعد أن اضطرت أمريكا نفسها، والغرب من ورائها، أن يجدوا لانفسهم ثياباً وأزياء تنكرية جديدة تناسب الحالة. وهناك آخرون استيقنوا أن الإذعان للغرب ومراده لم يكن في محله وأصبح غير مبرر، وعندما ضربت حماس مثالاً استيقظوا من سباتهم وأصبحت مواقفهم أكثر ملاءمة وألصق برغبات شعوبهم ومواقفها. إننا اليوم أمام مفترق طرق حقيقي ينبئ بصعود مؤشر الرفض الإسلامي واستقلالية القرار والأخذ بزمام المبادرة مروراً بالتأثير ثم الغلبة وانتهاء إن شاء الله بالتمكين ولكن كل ذلك لن يكون ما لم نعمل بسيرة الأولين في إطار المعطيات الراهنة كل حسب إمكانياته ولنا في حماس من جهة وباقي الشعوب الإسلامية من جهة أخرى قدوة ومثال على إنزال متطلباتنا منـزل التفعيل في كل زمان ومكان. إنني أدعو وبكل صدق أن يعيد كل منا النظر في ذاته وفي مواقفه وفي مخاوفه ومصالحه واضعاً الأولويات التي من شأنها في خاتمة المطاف أن تحافظ على هذه المصالح ومصالح الأجيال القادمة مهما ظهرت من خسائر أولية. إنها دعوة إلى كل إنسان مسلم من خلال إمكانياته سواء كان تاجراً أو مصرفياً أو إعلامياً أو سياسياً أو مستهلكاً لسلعة أو مربياً في مدرسة أو خطيباً في مسجد أو صاحب مهنة حرة أو فناناً مبدعاً أو صاحب حرفة يدوية أو حاكماً أو مسؤولاً لأن نعيد صياغة المواقف والمفاهيم وننفض غبار الذل والخضوع متحدين بذلك كل من أراد أن يفرض علينا رؤيته أو يجبرنا أن نشاركه ظلم إخواننا وبني ديننا. يمكننا اليوم, لما نراه من شواهد, أن نقول (لا) وأن نعمل بمقتضاها.
والله من وراء القصد,
E-mail: alim@alimlaw.com
نشرت بالعدد (15647) من جريدة المدينة، يوم الجمعة بتاريخ 25محرم 1427ﻫ الموافق 24 فبراير 2006م،