أزمة الرسوم الكارتونية والحل المشرف لكل الأطراف

محمد الهاشمي الحامدي
حان الوقت لعقلاء المسلمين والأوروبيين، للبحث عن حل منطقي ومقبول ومشرف للجميع من أزمة الرسوم الكارتونية التي نشرتها إحدى الصحف الدنماركية وتضمنت إساءة بالغة لشخصية نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، خاصة من جهة الربط بينه وبين الإرهاب.

أعيد نشر هذه الرسوم في بعض الصحف الأوروبية، بينما تظاهر المسلمون في عواصم وبلدان كثيرة، في شتى أرجاء المعمورة. واحتجت حكومات عربية وإسلامية، بالإضافة إلى علماء الدين ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية. كما انتقدت بعض الحكومات الغربية نشر هذه الرسوم أو إعادة نشرها، مثل الحكومتين الأميركية والبريطانية، وانتقدها الفاتيكان ايضا، والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان.

عكست الرسوم الكارتونية جهلاً حقيقياً بشخصية نبي الإسلام وبتعاليم الإسلام، فهو لم يكن إرهابياً بأي وجه من الوجوه، إنما كان داعية للحرية، ومجدداً ومتمّماً لتراث الأنبياء العِظام من قبله، إبراهيم وموسى وعيسى وسائر المرسلين عليهم جميعاً وعلى محمد أتم الصلاة وأزكى التسليم.

نزل الوحي على نبي الإسلام وهو في الأربعين من عمره، فقضى ثلاثة عشر عاماً يدعو أهل مكة للإيمان بالله الواحد والكفّ عن عبادة الأصنام والأوثان، والقبول بمبادئ المساواة بين البشر، وإقامة العدل، وتحرير المرأة، والكف عن كل أنواع الظلم السياسي والاجتماعي، والالتزام بمكارم الأخلاق.

لكن المستبدين من أصحاب النفوذ في مكة حاربوا النبي الخاتم واضطهدوا أصحابه وعذبوهم، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى المدينة، وهناك أسس النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة إسلامية في التاريخ، وبناها على دستور موثق ومحفوظ، يضمن العدل والمساواة لكل سكان تلك الدولة، من مسلمين ويهود.

إلا أن الطغاة المستبدين في مكة، الذين اعتبروا أن رسالة الإسلام تهدد مصالحهم السياسية والتجارية وتساوي بينهم وبين الطبقات التي كانوا يستغلونها ويستعبدونها، صمموا على مواصلة محاربة الإسلام وأهله حتى في المدينة. لذلك جندوا الجيوش، وعقدوا التحالفات العدوانية، وخاضوا أكثر من حرب لاستئصال الإسلام، لكنهم فشلوا في مسعاهم، مثلما فشل أعداء إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام من قبل في مساعيهم لإخماد شعلة الإيمان بالله في نفوس بني البشر.

وفي العام الثأمن بعد الهجرة إلى المدينة، تمكن نبي الإسلام وأصحابه من تحرير مكة، وإزالة الأصنام والأوثان في المسجد الحرام أول معبد بني في التاريخ الإنساني. ورفع الأذان للصلاة من فوق الكعبة المشرفة يشهد أن الناس جميعاً أحرار كرام، ليس لهم إلاّ إله واحد هو الله خالق السماوات والأرض وربّ الناس أجمعين.

على امتداد هذه السنوات، وهذه الحملات والمعارك المتصلة المتكررة على الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قتل قرابة ألف إنسان من المسلمين ومن أعدائهم. قارن هذا بعدد ضحايا الحروب الأخرى في أوروبا وآسيا قبل بعثة نبي الإسلام، وفي عهده، ومن بعده. وقارنه بعدد ضحايا الحربين العالميتين في القرن العشرين. وقارنه بأحدث حروب القرن الواحد والعشرين. والنتيجة أن المعارك التي اضطر الإسلام لخوضها من أجل حرية الناس وحرية العقيدة كانت أقل الحروب في التاريخ من جهة كلفتها البشرية، إذ قتل فيها عدد قليل جدا من الناس، من المسلمين ومن المعتدين عليهم.

السبب الرئيسي لهذه الظاهرة اللافتة، أن الإسلام دين للحياة، كرامة الإنسان فيه مقررة من عند الله، وهي ثابتة محفوظة للإنسان في كل زمان ومكان، بقطع النظر عن عقيدته ولونه وعرقه ولغته وجنسيته. والسلام هو الخيار الأول للإسلام، بتوجيه قرآني واضح. وقد جسد النبي محمد عليه الصلاة والسلام هذه المبادئ عندما حرر مكة، وبسط السلام والأمان لخصومه الذين اضطهدوه وقاتلوه وشردوه، قائلا لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء. وجسده قبل ذلك عندما اختار مواجهة الطغاة المتعصبين بالكلمة وبالصبر الجميل على ظلمهم. وثبت تاريخيا أنهم هم الذين تجاوزوا الظلم والتعذيب إلى التهجير والتشريد، ثم إلى إعلان الحرب على المسلمين وتبني خيار اجتثاثهم واستئصالهم.

إن الذين يتهمون الإسلام ونبيه بالتعصب والإرهاب ينقصهم العلم بحقيقة الإسلام وبسيرة نبيه، هذا إذا كانت نياتهم حسنة في الأساس. أما إن كانوا من ذوي النيات السيئة، من المتطرفين المتعصبين دُعاة الصراع والكراهية بين الثقافات والحضارات، فإن عليهم أن يكونوا أكثر مسؤولية، ويجنبوا العالم شر نزعات التعصب والتطرف. عليهم أن يعلموا ويتذكروا حجم الشر والدمار الذي ألحقه المتطرفون والمتعصبون بالعالم في التاريخ. ففي القرن العشرين تعمد النازيون بث ثقافة الكراهية بحق اليهود تمهيداً لجريمة الهولوكوست المروعة، ثم ادخلوا العالم كله في حرب كونية قتل فيها أكثر من خمسين مليون إنسان.

والمسلمون الذين يحترمون المسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين وسائر شعوب العالم الأخرى، لا يرغبون مطلقاً في أن يكونوا هم ضحايا هولوكوست جديد، ولا وقوداً لحرب عالمية ثالثة. ويكرهون نظرية الصراع والصدام بين الحضارات، ويؤمنون بأن البشر كلهم عائلة واحدة كبيرة وموسعة، يجب أن يعيش كل فرد فيها، وكل شعب، وكل أمة، في سلام وأمان وحرية من دون تمييز بينهم على أساس الانتماء الديني أو العِرقي أو الثقافي.

والمسلمون يزعجهم ويقلقهم أن تنخرط جهات كثيرة، بعضها عن جهل وبعضها عن مكر وسوء نية، لترويج ثقافة الكراهية بحق الإسلام ومعتنقيه، وتصوير رسول الإسلام على أنه داعية للإرهاب، وتصوير المسلمين على أنهم اتباع لشخصية إرهابية، وهذا كذب فاضح، وقلب للحقائق، وتشويه بالغ لسمعة ما يقرب من مليار ونصف المليار إنسان، وتحريض على الإسلام وأهله، وتبرير مباشر لما قد يصيبهم من عنف وعدوان، ومن ترسانة القوانين الجديدة التي تضيق عليهم وتصادر حرياتهم الدينية والشخصية.

يشعر المسلمون بالألم العميق لهذا التشويه المتعمد لسمعتهم، وسمعة نبيهم وتعاليم دينهم، لكنهم لا يقبلون أيضاً أن يعبّر بعضهم عن هذا الغضب برفع ساطور، أو إحراق سفارة، أو تبني شعارات وأفعال مخالفة للقانون وأخلاق الإسلام. وكل سلوك من هذا القبيل، مرفوض رفضاً تاماً، من دون أدنى تحفظ، ويجب على قادة المسلمين وعلمائهم التصدي له ورفضه وإدانته بشدة ومن دون تردد.

ويشعر المسلمون بالألم أيضاً عندما يتهمون بمعاداة حرية التعبير من طرف بعض الكتّاب والساسة الغربيين. الحقيقة أن حرية التعبير مبدأ شريف ونبيل ينحاز له المسلمون بأغلبيتهم الساحقة، ويكافحون ويقدمون التضحيات من أجله في بلدانهم وفي الساحة العالمية. والحرية أيضاً هدف من أعظم أهداف الإسلام، ومن عظم شأنها في الإسلام ان شرط قبول إيمان الرجل أو المرأة هو أن يكون هذا الإيمان على الإرادة الحرة لصاحبه، لأنه (لا إكراه في الدين).

لكن الحرية لا تعني الشتم وإشانة السمعة والتحريض على كراهية المسلمين، أو السود، أو اليهود، أو أي عرق آخر. وفي القوانين المعمول بها حالياً في العديد من الدول الغربية، تمييز واضح بين الحرية وبين التحريض على العنف والكراهية. والمسلمون لا يريدون التميز بحق أو معاملة خاصة على حساب الملل والشعوب الأخرى، انهم يريدون فقط أن تكون لهم نفس الحقوق وذات الحماية المكفولة للشعوب والديانات الأخرى.

هذا هو كل ما يريدونه.. لا أكثر ولا أقل.

وقد آن الأوان من أجل أن تتجاوب الأسرة الدولية مع هذه المطالب العادلة، فتسنّ قانوناً دولياً ملزماً يحمي الإسلام وسائر الديانات الأخرى في العالم من الحملات الظالمة التي تستهدف تشويه السمعة والتحريض على كراهية الشعوب بسبب انتمائها الديني. ولن يكون هذا القانون بدعة تخترع بسبب إلحاح المسلمين، إنما هو أمر معمول به اليوم في بريطانيا، حيث يوجد قانون يحمي المسيحية، وقانون آخر يضمن حماية اليهود والسيخ، ولن يضار أحد في العالم إذا استفاد العالم كله من التجربة البريطانية ووسعها لتكفل حماية الإسلام وسائر الديانات الأخرى.

هذا القانون أصبح اليوم مطلباً ضرورياً ومستعجلاً، ليس فقط من أجل حماية الإسلام والمسلمين من خطاب التحريض والكراهية ضدهم، لكن أيضاً من أجل حماية بقية الأديان، ومن أجل حماية حرية التعبير والحيلولة دون استخدامها شعاراً تتستر به النزعات العنصرية، وأيضاً من أجل السلام العالمي، ومن أجل إتاحة الفرصة لتنمية علاقات الصداقة والتعاون بين المسلمين وأوروبا، وبينهم وبين الغرب بشكل عام.

سن مثل هذا القانون على الصعيد الدولي، وتأييد الأوروبيين للمساعي الإسلامية المبذولة من أجل هذا الهدف، سيكون الحل المنطقي والمشرف لجميع الأطراف، وسيكون دليلاً على انتصار خطاب العقل والاعتدال والحرية على حساب خطاب التعصب والعنف والكراهية.

* كاتب وإعلامي تونسي

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

1
3851
تعليقات (0)