التجربة الدنماركية ... (العقلانيون الجدد) !!

د.خضر محمد الشيباني
أدري أن واقع الأمة الإسلامية واقع لا يسرّ الناظرين، وما تعانيه هذه الأمة من أزمات متفاقمة على الأصعدة التنموية والسياسية والاجتماعية يجعل تأثيرها على الساحة العالمية محدوداً وهشاً ومتهالكاً.أدري أننا عبر حقب متتالية لم نفلح بعد في صياغة ذلك المشروع القادر على النهضة بالأمة، وتفعيل قدراتها، وتحقيق طموحاتها، وفرض هيبتها.

أدري أننا، قبل أن نلقي باللوم على الشرق والغرب، يجب أن ندرك أن مستقبل الأمة أضحى فريسة يتجاذبها (متطرّفون) ينخرطون في العنف والإرهاب واستعداء العالم، و(مفرّطون) رضخوا لحالة انبهار طاغية، وارتموا في أحضان أهواء جارفة وتطلعات ساذجة.

أدري أن كل ذلك أضحى من البدهيات والمسلّمات التي تتجلّى في أبعاد فكرية وسلوكية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، والقارئ الكريم المتابع لهذه الزاوية يدرك أن كل ذلك يمثّل الهمّ الأبرز لها، والهاجس الأضخم بين طروحاتها.

ولكن...هل يمكن لتلك البدهيات أن تكون مبرّراً للهزيمة النفسية والاستسلام المطلق والانحناء، في ذل وخنوع، أمام أي عاصفة مهما كانت قوة اندفاعها ومحيط تأثيرها؟.

في محاولة للإجابة على هذا السؤال تبرز (القضية الدنماركية) كمثال ملائم لتمحيص الأبعاد النفسية والآفاق الفكرية والإجراءات العملية التي برزت على السطح في أشكال مختلفة، ومن المهم جداً أن نرصد تفاعلات هذه التجربة للاستفادة منها في تحركات المستقبل.

أن تغضب أمام الإساءة إلى نبيك ودينك أمر مشروع شريطة أن يسلك ذلك الغضب المسارات المشروعة في حدود الشرع والعقل والعرف، ولذا كانت الفئة الأبرز من مختلف شرائح المجتمع هي تلك التي طالبت بتفعيل القنوات المشروعة واستثمار غضب الأمة في طريق يحقق المصالح بحكمة، ويحدّد الأهداف بانضباط، وينأى عن التطرف والعنف والشغب.

ولكن.. فجأة أطلّ علينا بعض دعاة (العقلانية) ليسفّهوا تلك التوجهات المشروعة، وينتقصوا من شأن ذلك الحماس العفوي، في رغبة عجيبة لجرّ الأمة معهم إلى جحور انهزاميتهم ومخابئ انبطاحهم؛ تارة بحجة أن الأمة ضعيفة لا تستطيع الاستغناء عن أحد ولا تقوى على المقاطعة، وتارة بحجة التسامح والإيثار والصفح والعدل ومكارم الأخلاق!.

من بدهيات الأمور أن ''العقلانية''، في هذا الصدد، هي توظيف (العقل) لتحقيق

المصالح والدفاع عن الذات والدين والحق، عبر تقييم المصالح والمفاسد، والقدرة على تعظيم الاستفادة من المقدرات والإمكانات، والتعليل السببي، وتقليل المخاطر، والاستهداء بالقاعدة المعروفة: (مالا يدرك كلّه لا يترك كلّه).

أما (العقلانيون الجدد) فالعقلانية عندهم هي (الانبطاح الأفقي) ليسهل مرور عجلات كل من هبّ ودبّ أياً كان شأنه، وقلّت حيلته، وضعف تأثيره، والغريب أنهم جميعهم من المحسوبين على (التيار الليبرالي) الذي يحرص على حق الفرد في الاختيار، ويطالب بتفعيل وتطوير (المجتمع المدني)، ويندّد بأحادية الرأي.

ولكن..عندما يتحرّك غالبية أفراد المجتمع، في غضبة مشروعة، نحو (المقاطعة) التي تتلخّص في حرية اختيار ما يرغبون في أكله وشربه وشرائه، وعندما تنطلق غالبية الشرائح لتتواصل مع مؤسسات (المجتمع المدني) في الداخل والخارج لتنظيم تلك الغضبة وترشيدها، وعندما يبرز (الرأي الآخر) الذي يمجّد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستعدّ للتضحية برغباته الغذائية وأجبانه اليومية في سبيل قناعاته، فإن كل ذلك يصبح محلّ تسفيه وسخرية وتثبيط للمعنويات.

إن (التجربة الدنماركية) تقدّم للأمة فرصة تاريخية قابلة للإنضاج والتطوير لتوظيف قدراتها عبر رؤية مستقبلية وأدوات عملية وحضارية للتعامل مع تحديات واستفزازات (العولمة)، وأما (العقلانيون الجدد) فلا توجد لديهم أي رؤية مستقبلية أو مبادرات فاعلة سوى الانبطاح وسكّ الجمل الإنشائية، وللتذكير فقط فإن (الأسلوب الانشائي- الخطابي) والرؤية الأحادية هما ما ينتقده (العقلانيون الجدد) في غيرهم، ونجد هنا أن طبيعة (الثقافة العربية) الميالة إلى الكلاميات والرأي الواحد قد لمّت شمل الجميع: متطرّفهم ومفرّطهم.

جريدة "المدينة" السعودية

1
3846
تعليقات (0)