الرابحون والخاسرون من قضية الكاريكاتير

د. عبدالله بن إبراهيم العسكر
لم يكن في نيتي العودة إلى موضوع رسومات الكاريكاتير المنشور في الصحيفة الدنماركية يولاندس بوستن لولا استمرار تصاعد تداعيات الحدث، وتأثر الدين الإسلامي والمسلمين سلباً بتلك التداعيات. وكنت أشرت في مقال الأسبوع ماقبل الماضي إلى أن جهات سياسية وتجارية إسلامية ودنماركية استثمرت الحدث لمآربها الخاصة. وهذا وأيم الحق هو الضرر الكبير الذي يضر بالدين الإسلامي والمسلمين في كافة أرجاء المعمورة، وبالمسلمين في الغرب على وجه الخصوص.

وقرأت مقالة جيدة للسيد عادل درويش في صحيفة الشرق الأوسط ليوم السبت 11/2/2006م ينقل فيها أخباراً لا تسر عن قيام جماعة مجهولة في أحد بلدان العالم الإسلامي، نسقوا مع أمثالهم من مسلمي الدنمارك لإدارة حملة إعلامية، قامت تلك المجموعتان بتمويل وطبع وتوزيع منشورات عليها رسومات كاريكاتيرية تسيء إلى الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. ثم أخذوا في توزيع تلك المنشورات في بلدان العالم الإسلامي من المغرب إلى الفلبين، زاعمين أنها رسومات تم ارسال الآلاف منها لكل الدنماركيين بالبريد. وهو خبر كاذب، يتحمل وزره تلك المجموعات المجهولة. لكن ضرره كبير، إذ ألب آلاف المسلمين في افريقيا وآسيا الذين وصلتهم تلك المنشورات.

وقلت في مقالتي السابقة أن بعض قادة العمل الإسلامي استثمروا الحدث بصورة لا تنم عن سلامة طوية أو حق وصدق. واليوم اطلعت على خبر رواه لي من أثق به، وفيه أن أحد زعماء الجالية الإسلامية في الدنمارك ظهر على محطة تلفزيون الجزيرة يؤيد ويدعو المسلمين إلى مقاطعة المنتجات الدنماركية، ثم ظهر هذا الزعيم على محطة تلفزيون دنماركية يدين فيها المقاطعة الإسلامية، ويصفها بالغوغائية، ويقول أنها لا تمثل الإسلام في شيء. فتأمل رعاك الله كيف تدار أمورنا الدينية والسياسية بيد مسلمين يجلبون الشر والضرر.

على أن أخطر ما يمكن توقعه هو أن تكون القاعدة في أوروبا قد اخترقت بعض الجماعات الإسلامية في الدنمارك وقامت بنشر أكاذيب وتأليب الرأي العام الأوروبي من أجل هدفها المتمثل في توسعة الشق بين المسلمين والغرب، أو ما يسمى بصدام الحضارات. وهو هدف طالما نادى به الظواهري. لهذا ليس بعيداً أن تكون الأخبار صحيحة تلك التي تسربت من مصادر مخابرات أوروبية، وفيها أن ناشطين من الدنمارك يتعاونون مع بلد أفريقي من أجل زعزعة أي تعاون أو تفاهم غربي - إسلامي. على أن السؤال الكبير الذي لازال عالقاً هو: من أين جاءت الأموال الطائلة التي صرفها (أئمة كوبنهاجن) على حملة طباعة المنشورات ومن ثم توزيعها في عرض البلاد الإسلامية وطولها. هذا سؤال لا نجد له اجابة شافية من قبل دوائر العمل السياسي في العالم الإسلامي..

ومثل هذا السؤال يمكن أن يُقال عن التظاهرات السياسية والتدمير الذي طال بعض السفارات أو المصالح الغربية. من الذي يقف وراءها، خصوصاً في بلدان إسلامية لا تسمح أنظمتها بالتظاهرات السياسية، ناهيك عن أعمال التخريب والتدمير. هل نقول ان أجندة سياسية محددة أرادت استثمار الرسومات الكاريكاتيرية لأغراض سياسية دنيئة.

إنه ليحزنني أن تُستغل قضية دينية لمآرب سياسية. وهذا ما حدث بالضبط، فبعض المعارضين السياسيين والاقتصاديين في أوروبا، لم تكن معارضتهم نابعة عن صدق، بل لمنافسة حزبية قميئة، ومنافسة تجارية واضحة، لا تنطلي إلاّ على السذج. ولهذا كان على حكماء المسلمين أن لا ينخدعوا بخطط الصاعدين على أكتاف الحدث، والذين يطمعون في تحقيق مصالح مادية أو شخصية. كان على حكماء الأمة الإسلامية توضيح ذلك لعامة الشعوب الإسلامية. من ذلك مثلاً تزويدهم بمعلومات صادقة وحيادية، ونشر ثقافة الاحتجاج السلمي، بدل العنف الذي ظهر على شاشات التلفاز البريطاني، حيث صُور المسلمون وهم يحملون الفؤوس والسواطير، ويحملون شعارات الموت الزؤوم للنصارى، ويدعون لقتل عدد كبير من النصارى على حد تعبير شعاراتهم المسيئة للإسلام والمسلمين. كان على علماء المسلمين التصدي للفتاوى التي تسيء للدين الإسلامي، مثل فتوى عويلم كويتي قال فيها باستباحة دم رسام الكاريكاتير الدنماركي.

إنني والله لأعجب أشد ما يكون العجب من أمة كرمها الله بالقرآن، وأرسل إليها رسول الهدى والحكمة أن تنجرف إلى هذا القدر من غياب العقل والحق. فما كان يجب تعميم الذنب ومعاقبة الكل. وما كان يجب أن تصدر ردود أفعالنا السياسية بناء على عواطف شعبية، لا نعرف من يديرها ويثيرها، وما كان يجب أن تُغيّب الحقائق هكذا. لماذا لا تنشر الصحافة الإسلامية مقابلات مع مسلمين من أوروبا لنعرف موقفهم، لأنهم هم مع الإسلام في أوروبا هما المتضررون أولاً وأخيراً من ردود أفعالنا. لماذا لا نسأل هذا السؤال البسيط: من الذي أثار الرأي العام الإسلامي بخصوص الرسومات بعد نشرها بثلاثة أشهر. نعم ثلاثة أشهر لم يعرف عنها المسلمون في آسيا وأفريقيا وبعض بلدان أوروبا شيئاً يذكر. وهي نشرت في صحيفة لا يقرؤها إلا من يجيد اللغة الدنماركية، وهم قلة مقارنة بمن يقرأ بالانجليزية أو الاسبانية أو الفرنسية .من وراء الحدث يا ترى؟

أسئلة كثيرة عالقة. ويهمني أن أقول بصراحة ان المتشددين والمتطرفين في أوروبا والعالم الإسلامي سواء بسواء هم من يغذي مثل هذه المواقف. والحق أن هذا الحدث المشين لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فمنذ بزوغ الإسلام ونبيه يتعرض في كل عصر ومصر لحملات هوجاء، ولم يضره في حياته، ولن يضره في مماته. وأنبياء الله يتعرضون لسخرية واسعة في الإعلام الغربي والسينما الغربية والمؤلفات الغربية. ولن تقف تلك السخرية إلا بسن قوانين صارمة من قبل المشرعين الغربيين، تُجرم تلك الأفعال. أما تأليب الرأي العام الإسلامي بهذه الصورة، فلا أظن أنها مفيدة، ولن تحقق ما نرجوه، بل أضرارها كثيرة، وقد تكون قاتلة وتؤدي إلى صدام حضاري بيننا وبين الغرب. وهو ما يسعى إليه المتطرفون الجاهلون من قبل الطرفين. والله أعلم.

صحيفة الرياض السعودية

1
3836
تعليقات (0)