محمد جابر الأنصاري
من الواضح أن الرسوم المسيئة لم تفد أصحابها في أوروبا... فمن المستفيد من الجريمة؟
لا بد أن يقرّ في ضمير العالم أولاً إنها جريمة بكل المعايير الدينية والدنيوية. فالإساءة إلى نبي عظيم وإنسان كبير مثل محمد بن عبدالله عليه السلام يجب أن يرفضها المتدينون وغير المتدينين من المنتمين للإسلام، وأن يشارك في رفضها غير المنتمين إليه ممن يحملون ذرة من الإنسانية الصافية في نفوسهم سواء كانوا من أهل الأديان أو ذوي الفكر الحر، فهذه الإساءة لإنسان بلّغ رسالة السماء وجاء لإتمام مكارم الأخلاق وسعى للأخذ بيد الإنسان في كل مكان، وعمل على تحريره وإخراجه من ضيق الدنيا إلى سعتها، وغير مسار التاريخ إلى ما هو أرقى وأنبل، لا يمكن أن تصدر إلا ممن يريدون إعادة البشرية إلى الوراء، وزرع الكراهية في ما بينها، وتحويل أمل الإخاء الإنساني إلى حروب كونية مدمرة، وإعادة المسلمين بالذات إلى «الغيتو» التاريخي الذي يحاول آخرون الخروج من أسره!..
إن رفض هذه الإساءة للرسول البشر محمد بن عبدالله يجب أن يلتقي حوله مختلف أطياف الفكر والاجتهاد في العالم الإسلامي والعالم أجمع، لا فرق في ذلك بين إسلامي وليبرالي، سلفي أو عصري، لأن النبي الأعظم ملك للإنسانية جمعاء وتراثه ورسالته السمحة من أغلى ما تملك في معترك تقدمها الحضاري الذي هو معركة المسلمين اليوم... معركة تقرر مصيرهم في وجه هذا الشر اللامسؤول وإن كان مصدره الغباء الأهوج رغم أنه لا يبدو أن الغباء وحده قادر على صنع مثل هذه الأزمة وإشعال كل هذه النار. فعندما تحدث أي جريمة، ناهيك بجريمة بهذا الحجم، يأتي السؤال دائماً: من المستفيد من الجريمة؟ وفي هذه الحالة، من وراء دخان الحرائق المتصاعدة، ألا يجدر بنا أن نستعيد لحظة هدوء وتعقل لنسأل أنفسنا: من المستفيد من الجريمة حقاً؟!
فبدايةً لم تستفد منها الدنمارك التي تضررت مصالحها وطورد رعاياها. كما تبرأت من أوزارها ونأت بنفسها عنها قوى أوربا الكبيرة كألمانيا وبريطانيا وفرنسا وشاركتها الولايات المتحدة وروسيا والأطراف الآسيوية والمحافل الدولية في هذا الموقف.
الغريب أن إسرائيل المحاطة بأمة محمد والمجاورة لها والمحتلة لبعض أراضيها ومقدساتها بقيت صامتة عن الجريمة رغم مطالبتها الجميع بإدانة كل ما لا يرضيها. والأدهى رغم انتمائها الديني السامي وانتماء يهودها بعامة إلى «التراث الابراهيمي»، نسبة إلى تراث سيدنا إبراهيم الخليل الذي يمثل النبي محمد خاتمته وذروة عطائه لبني الإنسان، مع إخوته من الأنبياء كافة بما فيهم أنبياء بني إسرائيل، كما تؤكده الآية القرآنية الكريمة: «قولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحدٍ منهم، ونحن له مسلمون) – البقرة/ 136.
فهل بإمكان الفكر الديني اليهودي التحرر من فكرة شعب الله المختار والاحتكام إلى هذه الآية العظيمة تأكيداً لايمانه بالتراث الابراهيمي وانتمائه إليه إن أراد سلام الشجعان لا سلام الساكتين عن الحق؟ السكوت علامة الرضا... والسكوت في جريمة كهذه يحيط هذا الرضا بعلامات استفهام لا نهاية لها، مع أن إسرائيل تملك «الصوت العالي» في كل مكان من العالم الفاعل والمنفعل – على السواء – وها هو ذا صوتها يطال روسيا لأنها لم تفعل أكثر من الاعتراف بإرادة الشعب الفلسطيني في اختيار «حماس»!.. واصفةً هذا الاعتراف الروسي الواقعي بأنه «طعنة في الظهر لها»... فلماذا تصمت عن «طعن» مقدسات من تقول أنها تسعى لتحقيق السلام معهم؟
لو كان في إسرائيل اليوم قادة تاريخيون كبار ذوو رؤية – كما تأسّى لغيابهم أحد آبائها وهو ناحوم غولدمان قبل عقود – لبادروا إلى إدانة هذه الإساءة لشخص النبي الكريم محمد من زاوية الضمير الديني المحض، قبل أن يطالبوا رجال الدين الإسلامي والمسيحي بحضور منتديات حوار الأديان معهم... فحيال هذا الصمت الإسرائيلي تجاه الإساءة للنبي الكريم، ما قيمة أي «حوار ديني» كان أو سيكون... بمشاركة رجال دين يهود... خصوصاً من إسرائيل؟
أم إنه «سكوت الرضا» الذي لا يشرف إسرائيل، إذا افترضنا براءتها، في هذا العصر الذي أصبح عنوانه حوار الأديان والثقافات؟
* * *
وأياً كــــان الأمــــــر، فإن «تـــوقيـــت» هـــــذه الإساءة يطرح علامات اســتفهام كبرى في اتــــجــــاهات عدة:
أولاً: أن الدنمارك والنرويج ودول الشمال الأوربي الاسكندنافية بعامة هي الأكثر اقتراباً وتفهماً لمعاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي المتطاول والأبعد عن التعصب ضـد العرب والمسلمين... أن تأتي «الرسوم المسيئة» في هذه الآونة يعني أن ثمة محاولة لإعادة عقارب الساعة الأوربية إلى الوراء، وتأخير اللقاء التاريخي المنتظر بين أوربا والإسلام. وهذا التلاقي التاريخي حتمي ولا مفر منه، بحكم الجوار والتفاعل البشري والفكري، وبحكم ما مرت به أوروبا من تجارب الانفتاح على المعتقدات والأديان الأخرى، وما يتهيأ له العالم الإسلامي من عودة إلى روح الإسلام الحق في التعايش الديني والفكري مع العشيرة الإنسانية.
ثانياً: تجاوزت أوروبا – كحضارة وثقافة – صراعاتها الدينية الدامية عبر تطورها التاريخي بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس. كما تصالحت – بمبادرة من الفاتيكان – مع اليهود بعد أن ظلت ملايينها تعتقد أن يهوذا الاسخريوطي باع المسيح عليه السلام، إلى الرومان بحفنة من فضة. ولم يبق أمام أوروبا غير الاستحقاق التاريخي الديني الأخير: ماذا عن الإسلام؟ هل يستمر إرث الحروب الصليبية معه؟ أم تستعاد معه – شراكة العقل والتحضر... الشراكة التي كانت في قرطبة وغيرها من حواضر العرب والمسلمين في الأندلس؟.. وهؤلاء الذين نشروا الرسوم المسيئة... هل لديهم حقاً في تنشئتهم وتربيتهم أية فكرة عن هذه الشراكة الراقية مع العرب والمسلمين التي يعود فضلها إلى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام؟ إذن ففكرة الرسوم المسيئة لا تبعد شعوب إسكندنافيا عن قضايا العرب والمسلمين فحسب، وإنما تؤخر عقارب الساعة الأوروبية كلها لئلا تدق لحظة الانفتاح الحتمي على الإسلام!
ثالثاً: يسهم انتشار الرسوم المسيئة إلى نبي الإسلام في إحراج تركيا المسلمة التي اختارت الانضمام بحكمة إلى جوارها وجارها القريب منها «الاتحاد الأوربي»، بما سيتيحه من فرص التطور الاقتصادي العلمي والمدني. وبلا جدال فإن بعض المتعصبين المتاجرين باسم المسيحية واليهودية لا يريدون انضمام سبعين مليون تركي مسلم إلى أوروبا. ومع انتشار هذه الرسوم فإن تركيا توضع بين خيارين أحلاهما مر فإن أدانت الرسوم التي زعموها تعبيراً عن حرية الرأي قامت عليها قيامة المتعصبين في أوروبا وإن سكتت فإن شعبها المسلم ينتظر كلمة دولته ولن يسكت، وللأمانة فإن رئيس حكومتها اتخذ موقفاً ضد هذه الرسوم. ولكن الأوساط الإسلامية في تركيا تطالب الرئيس التركي نجدت سيزار نفسه بصفته رئيساً للجمهورية تحديد موقف من تلك الرسوم المسيئة. فإلى جانب ما ناشد به حزب السعادة الإسلامي المعارض رئيس وزراء تركيا بالكف عن السعي للالتحاق بأوروبا، بعبارة دالة ومثيرة خلاصتها: «عد لأصلك، وابتعد عن الاتحاد الأوروبي»، فإن ناطقاً باسم ذلك الحزب وصف عدم تطرق رئيس الجمهورية التركية – حتى الآن – لموضوع الرسوم المسيئة بمثابة «عيب كبير على تركيا»... (راجع: الأهرام 12/2/2006).
لا جدال إن هذا الإحراج لتركيا يمثل «هدية مجانية» لمعارضي دخولها الاتحاد الأوروبي. وإذا كانت أكثر القوى الأوربية المحافظة قد أفصحت بجلاء عن هذه المعارضة لأسباب لا تخفى على المتابعين، فإن السؤال الكبير يبقى ما حقيقة موقف إسرائيل من مشروع دخول بلد إسلامي كبير، مثل تركيا، إلى أكبر وأقوى تجمع اقتصادي عالمي ستصل حدوده، بانضمام تركيا إليه إلى حدود سوريا والعراق وإيران... هل ترتاح إسرائيل لمثل هذا الجوار الأوربي - الإسلامي المشترك؟ (خصوصاً بعد فتور علاقاتها بأنقرة في ضوء دعم إسرائيل لانفصال أكراد العراق؟).
الحقيقة الكبرى وراء هذا السؤال هي أن إسرائيل ودوائرها – منذ إنشائها – راهنت على تخريب العلاقة بين الغرب والإسلام بأي ثمن... وعلينا أن نعترف أنها حققت نجاحات خطيرة بهذا الشأن ليس آخرها اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة التي صبت في النهاية لصالحها من دون أن ندخل في أية اتهامات ضدها. ويبدو مرة أخرى قد لا تكون أخيرة أن الآثار المدمرة الناجمة عن نشر الرسوم المسيئة للنبي العربي تصب في هذا المجرى عن قصد أو عن غير قصد. ومن غير المستبعد أن تنشط جهات لها مصلحة أكيدة في ذلك لتستفيد من الجريمة وإن غسلت يدها منها وابتعدت عن مسرحها – ويبقى أن « الضمير «الديني في إسرائيل مشارك، أقلها في ظاهرة «الصمت» حيال هذه الجريمة!
... نحن لا نتهم ، نحن فقط نسجل «ظاهرة»!
* اكاديمي ومفكر من البحرين.
صحيفة الحياة اللندنية