د. عبد الوهاب المسيري
المختصر/ المركز الفلسطيني للإعلام / لا يملك الدارس للمشروعين الفرنجي والصهيوني إلا أن يُلاحظ عمق التشابه بينهما، وهو أمر متوقع لأن كليهما جزء من المواجهة التي تتفاوت في حدتها بين التشكيلين الحضاريين السائدين في الغرب والشرق العربي. فحملات الفرنجة التي يقال لها الحملات الصليبية، هي نقطة انطلاق أوروبا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج. وعلى حد قول أحد مؤرخي حملات الفرنجة الغربيين إن حملات الفرنجة احتوت بذور كل أشكال الإمبريالية الأوروبية التي حكمت فيما بعد حياة جميع شعوب العالم. ولعله لهذا السبب أصبحت حملات الفرنجة صورة مجازية أساسية في الخطاب الاستعماري الغربي، وأصبحت ديباجاتها هي نفسها ديباجات المشروع الاسـتعماري الغربي.
وقد رأى كثير من المـدافعين عن المشروع الصهيوني، من اليهود وغير اليهود، أنه استمرار وإحياء للمشروع الفرنجي (أي الصليبي) ومحاولة وَضْعه موضع التنفيذ من جديد في العصر الحديث. فلويد جورج رئيس الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور، صرح أن الجنرال أللنبي الذي قاد القوات الإنجليزية التي احتلت فلسطين شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصاراً. ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الفرنجي بعد أن تمت علمنته، وبعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية التي تم تحديثها وتطبيعها وتغريبها وعلمنتها محل المادة البشرية المسيحية.
ولنحاول الآن أن نبين بعض نقاط التشابه الأساسية بين المشروعين، ويبدو أن فلسطين مستهدفة دائماً من صناع الإمبراطوريات إذ أنها تُعَدُّ مفتاحاً أساسياً لآسيا وأفريقيا، وتُعدُّ معبراً على البحرين الأحمر والأبيض، وتقف على مشارف الطرق البرية التي تؤدي إلى العراق وإيران، وهي أيضاً معبر أساسي لشطري العالم الإسلامي. ولذا نجد أن المشروعين الفرنجي والصهيوني قد جعلا من فلسطين مسرحاً لأطماعهما ونقطة ارتكاز لانطلاقهما باعتبارهما مشروعين استعماريين.
ولكن المشروعين لم يكونا مشروعين استعماريين فحسب، وإنما كانا مشروعين من النوع الاستيطاني الإحلالي. فالمشروع الفرنجي كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية داخل العالم الإسلامي ولكنها تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي. ولذا جاءت جيوش الفرنجة ومعها كتلة بشرية من الغرب المسيحي لتحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي. والمشروع الغربي في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل. فغزو فلسطين تم أولاً على يد القوات البريطانية، ثم حَضَر المستوطنون الصهاينة بعد ذلك بوصفهم عنصراً يقوم بالزراعة والقتال. وقد كانت المؤسسات الاقتصادية للفرنجة، مثلها مثل قرينتها الإسرائيلية، تتسم بطابع عسكري، كما أن التنظيم الاقتصادي التعاوني لم يكن مجهولاً لدى الفرنجة. ويمكن القول إن دويلات الفرنجة، مثلها مثل الدولة الصهيونية، كانت ترسانات عسكرية في حالة تأهب دائم لـ"الدفاع عن النفس" وللتوسع كلما سنحت لها الفرصة.
ومن المعروف أن الغزاة الاستيطانيين عادة ما يسلكون طريق البحر ثم يستقرون على الساحل أو يحتفظون بركيزتهم الأساسية فيه (كما حدث في جنوب إفريقيا والجزائر) حتى لا يفقدوا صلتهم بالوطن الأم فهم يعتمدون عليه اعتماداً يكاد يكون كاملاً. وهذا يعود إلى طبيعتهم الاستيطانية الإحلالية، فقد طردوا السكان الأصليين وحلوا محلهم ومن ثم خلقوا مشكلة لاجئين، وتحولوا إلى وقود يجند سكان المنطقة ضدهم.· لهذا يضطر المستوطنون دفاعاً عن أنفسهم وضماناً لبقائهم واستمرارهم أن يستمدوا مقومات بقائهم واستمرارهم من دعم عسكري ومالي وهوية ثقافية ومادة بشرية من وطنهم الأصلي. وهذه سمة أساسية في الكيانين الفرنجي والصهيوني، مع تنويعات فرعية تنصرف إلى التفاصيل لا الجوهر.
والغزوتان الفرنجية والصهيونية كانتا تهدفان إلى حل بعض مشاكل المجتمع الغربي وتخفيف حدة تناقضاته. فالمجتمع الوسيط الغربي كان يخوض عملية بَعْث اقتصادي فتحت شهيته للاستيلاء على طرق التجارة المتجهة إلى الشرق. وهذا يشبه من بعض الوجوه، وإن كان بدرجة أقل، انفتاح شهية رجل أوروبا الشره في القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم يهدأ له بال إلا بعد أن وقع العالم كله في قبضته. وقد استخدمت أوروبا كلا المشروعين، الفرنجي والصهيوني، في التخلص مما أطلق عليه في القرن التاسع عشر الميلادي "الفائض البشري"، أي العناصر التي لم تستطع أن تحقق الحراك الاجتماعي داخل مجتمعاتها، ولذا كانت تهدِّد السلام الاجتماعي، ولم يكن هناك مفر من تصديرها للشرق حتى يحقق الغرب سلاماً اجتماعياً داخلياً، كما هو حال المشروع الفرنجي. وكلا المشروعين يستخدم الديباجات الدينية الإنجيلية والتوراتية لتحقيق أهداف مادية إمبريالية علمانية. فالمشروع الصليبي جرد الحملات العسكرية باسم أمير السلام (المسيح) وقام باحتلال الأرض وذبح الآلاف من سكانها. والمشروع الصهيوني هو الآخر جرد حملاته العسكرية باسم الوعد الإلهي وقداسة الشعب اليهودي فقام بإهدار قداسة وإنسانية الفلسطينيين وطردهم من أرضهم. وكلا المشروعين رغم ادعاءات المستوطنين الدينية الصاخبة لا يمكن أن يقبلا أن يُحاكما من منظور المعايير الأخلاقية لعقائدهما الدينية.
ويبدو أن أزمة التجمُّع الفرنجي لا تختلف عن أزمة التجمع الصهيوني. فيُلاحَظ أن الكيان الفرنجي كان يعاني من أزمة سكانية، وذلك نظراً لانخفاض عدد سكان أوروبا عام 1300 بعد انتهاء فترة تزايد السكان، الأمر الذي أدَّى إلى عدم مجيء المزيد من المادة البشرية، كما كان الكيان الفرنجي يعاني من تناقص نسبة المواليد. وهذا لا يختلف كثيراً عن أزمة المستوطَن الصهيوني السكانية، بعد أن جفت ينابيع الهجرة اليهودية من شرق أوروبا، لأن يهود غرب أوروبا والولايات المتحدة لا يهاجرون إلى الدولة الصهيونية.
ويلاحظ أن كلا من المجتمع الصليبي والصهيوني كان يتسم بتقسيم ثلاثي، ففي القمة كان يأتي الفرنجة في الممالك الصليبية، يقابلهم الأشكناز في التجمع الصهيوني، وفي الوسط كان يوجد بعض المسيحيين الشرقيين الذين تعاونوا مع الفرنجة يقابلهم السفارديم في التجمع الصهيوني، وفي القاع كان يوجد المسلمون في كلا المجتمعين.
ومن المعروف أن الجيوب الاستيطانية التي لا تبيد السكان الأصليين مآلها إلى الزوال، لأن السكان الأصليين يستمرون في مقاومتهم حتى ينهكوا عدوهم تماماً. وهذا ما حدث بالنسبة لممالك الفرنجة فقد تم القضاء عليها، لأسباب عديدة، من أهمها أن الشعوب الإسلامية لم ترض بوجود الفرنجة، فاستمرت عملية المقاومة زهاء قرنين حتى انتهى المشروع الفرنجي ولم يبق منه سوى بعض الخرائب الصليبية. وبالنسبة للصهيونية، فمازال العرب يقاومون والحمد لله، وأعتقد أن مدريد وأوسلو وقبول الكيان الصهيوني للسلطة الفلسطينية هو تعبير عن الإرهاق الصهيوني. فقبول "إسرائيل" بالسلطة الفلسطينية هو بدايات الهزيمة، وكما يقول بعض المتطرفين الصهاينة إنه لأول مرة تم تعريف حدود الدولة الصهيونية، وفي هذا اعتراف ضمني بالوجود الفلسطيني. ولأول مرة توجد داخل الدولة الصهيونية كتلة بشرية ضخمة تطالب بحق تقرير المصير، كما توجد مناطق فلسطينية محررة، بل إن مجرد دخول مصطلح "فلسطيني" في المعجم الصهيوني هو انتصار ضخم، لأنه يهز الخريطة الإدراكية الصهيونية. والله أعلم.