فاينانشال تايمز
بايفي مونتر - - 20/01/1427هـ
الدنمارك، الدولة الأوروبية الشمالية الصغيرة المعروفة تقليدياً بملاذ الليبرالية، تكافح للتوصل إلى استراتيجية تواكب القرن الحادي والعشرين، للتعامل مع الهجرة الضخمة من البلدان الإسلامية. واستجاب الشعب الاسكندنافي لذلك بأن اختار زعيما "دنماركيا" لحماية دنماركيتهم.
وفي تناقض صارخ مع الصورة المتأصلة والأنيسة التي يحملها الاسكندنافيون عن أنفسهم، فإن أندريز فوج راسموسن رئيس وزراء متوحد وصارم، ومع هذا- أو ربما لهذا السبب - يعتقد معظم مواطني بلاده أنه الرجل المناسب للدفاع عن تماسك أمة صغيرة ومتجانسة تواجه أقلية كبيرة تتحدى ثقافة الوطن الجديد.
وفي نهاية أصعب أسبوع في الحياة السياسية لراسموسن، ابن الثالثة والخمسين، الذي ناشد العالم الإسلامي بأسره وضع حد للعنف الناشئ عن رسوم كرتونية دنماركية (مسيئة) للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ظهرت بعض الشروخ في التأييد لرئيس الوزراء على الصعيد المحلي. ففي مواجهة أخطر أزمة دولية تضرب الدنمارك منذ الاحتلال الألماني - حين حموا بحماية الأقلية اليهودية في بلدهم بنجاح – يقف الدنماركيون اليوم وراء الزعيم الذي يحترمونه، وإن لم يكونوا يحبونه.
ظلت شعبية راسموسن الذي انتخب عام 2001، فوق 50 في المائة، متفوقاً بذلك على أي سياسي معارض، وبالكاد تراجعت هذه الشعبية منذ كانون الثاني (يناير) عندما نشب الصراع حول الرسوم الكرتونية التي نشرت للمرة الأولى في الصحيفة الدنماركية "يلاندز- بوستن"، ليصبح الصراع مواجهة عالمية بين الغرب والعالم الإسلامي.
وصل راسموسن إلى السلطة وفق برنامج تحدّى الحدود اليسارية - اليمينية التقليدية في بلد يحتكم إلى حد كبير للمبادئ الاجتماعية الديمقراطية. وبنى تحالفه من يمين الوسط مستندا إلى برنامج من نقطتين رئيسيتين: تجميد الضرائب وفرض قيود صارمة على الهجرة. وهذان الأساسان اقترنا بتعهد بالحفاظ على الرفاه الاجتماعي من المهد إلى اللحد، وشكلا نهجاً راديكالياً جديداً في السياسة الدنماركية ضمن لحزب راسموسن من يقفون في الوسط بين اليسار واليمين.
وأثبت تجميد الضرائب شعبيته في بلاد تفرض ضرائب عالية، لكن السياسة الصارمة إزاء الهجرة هي ما اشتهر به راسموسن. فبعد انتخابه مباشرة انطلق بشكل قوي نحو تقليص عدد المهاجرين الأجانب، فأصدرت الحكومة قوانين تجعل من الصعب على السكان أن يحضروا زوجاتهم من خارج الاتحاد الأوروبي - الذي كان حتى ذلك الوقت طريقاً يستخدم بشكل شائع لهجرة الأقليات العرقية، وأكبرها الأتراك والعراقيون واللبنانيون.
وبالنسبة للمقيم الذي يسعى إلى إحضار زوجة أجنبية عليه الآن أن يكون فوق الرابعة والعشرين من العمر، وفي وضع مالي مأمون ويملك عقد إيجار شقة، بينما يتوجب على الزوجين أن تكون لهما "علاقة" واضحة بالدنمارك. وهذه المتطلبات تجعل قوانين الهجرة الدنماركية أشد القوانين صرامة في الاتحاد الأوروبي، وهي تشكل خروجاً صارخاً على التقليد الليبرالي للبلاد.
وحقق القانون هدف الحكومة الرامي إلى تقليص الهجرة بشكل كبير، لكنه خلق ضغينة في نفوس المهاجرين الذين يقولون إن القيود تعكس تعصباً متزايداً نحو الأقليات العرقية وثقافاتها وأديانها.
وأضرّ قانون الهجرة بمكانة الدنمارك الدولية، إذ اضطر السكان المتزوجون من أجنبيات - وبعضهم دنماركيون أصليون يرون نظام التصاريح الصارم مذلاً- إلى الهجرة أو البقاء خارج البلاد، لكن أغلبية الدنماركيين مؤيدون بشدة للسياسة، وهو أمر انعكس على شعبية راسموسن العالية بعد مضي سنة على ولايته الثانية.
في التسعينيات بدأ الدنماركيون يرون في الهجرة تهديدا للانسجام الاجتماعي. فقد برز حينها العدد المتزايد بسرعة من المسلمين، الذي كان يقارب 200 ألف، في بلد متجانس تقليدياً ظل يعيش على الزراعة حتى الستينيات. وشعر الدنماركيون بالقلق من أن جزءاً كبيراً من الأقلية الجديدة كان بطيئا في تبني اللغة الدنماركية ويعيش على إعانات الدولة على هامش المجتمع.
ووجدت المخاوف المتزايدة إزاء تأثيرات الغرباء على المجتمع الدنماركي صدىً لدى راسموسن، وهو ابن مزارع مكافح من جوتلاند، قلب الدنمارك الزراعي، التي تظل اجتماعياً أكثر التزاماً بالتقاليد من كوبنهاجن الليبرالية.
ويبدو أن الحنين إلى الفترة التي سبقت الهجرة الضخمة دفع الحكومة لإطلاق واحدة من مبادراتها الأخيرة أيضاً: سيحدد تشريع ثقافي يرمي إلى تحسين معرفة الدنماركيين بتراثهم، الأعمال الفنية التي يتعين على جميع طلاب المدارس أن يدرسوها.
ويرى ناقدو راسموسن أنه لم يتخل أبداً عن ضيق أفق بداياته المتواضعة في الريف. فقد يكون حظي باستحسان كبير على قيادته الكفؤة لرئاسة الدنمارك للاتحاد الأوروبي قبل أربع سنوات، لكن المثقفين الدنماركيين يحبون إطلاق النكات عن افتقار راسموسن إلى الحنكة والانفتاح على العالم الخارجي.
ويقول بيتر موسي مؤلف "دليل لرؤساء الوزراء" Handbook for Prime Ministers، أن محدودية راسموسن في السياسة الخارجية ربما أسهمت في أزمة الرسوم الكرتونية التي كانت تتخمر منذ أيلول (سبتمبر) 2005. فمع أن نشر الرسوم اجتذب في البداية انتباهاً ضئيلاً، إلا أنها فرخت جدلاً بعد أن رفض راسموسن الاجتماع مع مجموعة من سفراء الدول الإسلامية الذين كانوا يسعون إلى التعبير عن قلقهم إزاء الصور التي تعتبر تجديفاً من جانب المسلمين.
ويقول كثير من المراقبين إنه كان على راسموسن أن يستجيب للقلق في وقت مبكر حتى يستبق الأزمة، في وقت وترت فيه مشاركة الدنمارك في حرب العراق العلاقات مع جاليتها المسلمة، وبدلاً من ذلك دافع بقوة عن حق الدنماركيين في حرية التعبير.
يقول موسي: "إنه جيد فعلاً في السياق الأوروبي، لكنه خارج الاتحاد الأوروبي محصور أكثر، وهذه مشكلة تبرز في الوقت الذي تنتهج فيه الدنمارك سياسة خارجية أنشط، وحرب العراق أفضل إشارة عليها".
لكن هذا النقد مكبوت حتى الآن، فالدنماركيون يعتقدون أنه الشخص المأمون أكثر من غيره لقيادة بلدهم في عالم متعولم، حتى وإن رأى البعض أنه غريب الأطوار.
تقول آن سوفي كراج مؤلفة السيرة الذاتية لراسموسن، إن رئيس الوزراء "واحد من أغرب الناس الذين التقيته". ووفقا لكتابها، كان له أصدقاء قلائل عندما كان طفلاً، لكنه كان يحمل طموحاً موطّدا بأن يصبح سياسياً قبل بلوغ العاشرة من عمره.
وتقول كراج: "نحن في الدنمارك نحب أن تكون الأمور على سجيتها، حميمية ولطيفة، بينما يسعى هو إلى النظام والكمال. إنه طموح جداً بشكل لا يجعله دنماركياً مثالياً, وهو السبب وراء اعتباره زعيماً قوياً".
المصدر:جريدة الاقتصادية