عبثية الصراخ في وجه الريح

د. باسم عبد الله عالِم

بسم الله الرحمن الرحيم

مَنطَقَة الأحداث فزعاً من وخز الضمير أصبح فناً احترافيا يتقنه أولئك الذين اثاقلوا إلى الأرض وكرهوا أن ينغص عليهم في نومهم ما يضطرهم لمواجهة حقائق دامغة ناهيك عن مواجهة النفس بما تكره. وكأنهم ساخطون على الأقدار والأحداث وعلى كل من أسهم في التنغيص على مخططاتهم وأحلامهم في عيش هانئ رغيد أهم عناصره رضا الغرب عنهم ليمّكن لهم وليحمي مصالحهم وليستمتعوا بأجوائه ومصايفه على ضفاف بحيراته وشواطئه صيفاً وفي منتجعاته الجبلية شتاءاً. إن هذا لعمري منتهى الأنانية وتكريس الذات ورغبة الإنسان في أن يسّوغ لنفسه براءة مواقفه وعقلانيتها وهي في حقيقتها لا تصب إلا في إطار مصالحه الشخصية وهوى النفس التي لا تأبه بالخير والشر أو الصواب والخطأ، فهي كالطفل العنيد يصرخ ويبكي لتقدم له ما تشتهي نفسه دون النظر إلى مآل هذه الشهوة وهذا المراد أوليس هذا تفسيراً لمفهوم المترفين وتحقيقاً لمعناه.

منذ أن وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من تفاعلات كنت أراقب المواقف المتباينة بين جمهور الأمة من جهة ونخبها الحاكمة والمتنفذة من جهة أخرى فإذا بالأخيرة تؤمن على اتهامات الغرب بمواقفها المستخذية وتصطف معه عن دراية أوعن جهل في حربه الشعواء التي تستهدف إعادة صياغة هذا الدين وتدجينه بغرض السيطرة الكاملة والدائمة على هذا العالم الذي لم يبق فيه ما يقف عائقاً دون هذه السيطرة سوى منعة الإسلام وأهله وحفظ الله لهذا الدين ونصره بعز عزيز أو ذل ذليل، وكل ذلك هذا الإستخذاء يؤطر اليوم في اطار من خداع وزيف أصبح يعرّف بمحاربة الإرهاب. وإن كان رد فعل الغرب العنيف قد وجد من يمالئه ويناصره من أولئك المتذرعين بنبذ العنف ومحاربة الإرهاب، فإننا اليوم نشهد تحولاً خطيراً في مستوى التعامل النفسي. فأولئك الذين وقفوا مع الغرب وحملوا في أيديهم سيفاً بتاراً لمحاربة ما أسموه بالإرهاب والعنف فضربوا بهذا السيف كل طالح وصالح مبررين مواقفهم بضرورة الحزم والأخذ على يدي المعتدي والظالم، أولئك هم أنفسهم من يقف اليوم خافياً حقيقة نفسه خلف ابتسامة صفراء وروح نخرة ونفس مستخذية مهزومة لا تريد بل لا تقوى أن تواجهه الحقيقة الكبرى وحقيقة ذاتها وما آل إليها حالها من تردي وانهيار. فأولئك الذين صالوا وجالوا بالأمس، انبروا اليوم لتهدئه النفوس والخواطر محاولين تعليمنا وتدريسنا مفاهيم حرية الرأي والصحافة وحق التعبير وبأن ما حدث ويحدث في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو جزء من الحركة الثقافية الغربية والتراث الغربي الذي ينفي وجود مقدسات ومحرمات فوق مستوى الشبهات والمناولة الوضيعة. لقد أثارت ردة الفعل الإسلامي العالمي إنزعاج هؤلاء القوم الذين عملوا بكل تؤدة وصمت لرأب الصدع من خلال التبعية وتقريب وجهات النظر من خلال الإذعان إذ هب العالم الإسلامي ليقف وقفة رجل واحد في مواجهة تدنيس مقدساته والمساس بها لتنهار جهود أولئك المتغربنين الأدعياء والدخلاء الذين حاولوا إيهامنا بأنهم أصحاب منطق ودراية وفطنة وسياسية وبأن ما يفعلونه إنما يصب في صالح الأمة.

أن الحقيقة المؤلمة لهؤلاء التابعين للغرب، هي أن الحضارات لا يمكن أن تخضع لبعضها البعض فالتلاقح والتواصل والتبادل المعرفي والاحترام، كل ذلك، ممكن جداً ولكن، خضوع حضارة لأخرى لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل نظام يقبل بالحكمة والحقيقة ويهيئ لها التربة والمناخ المناسبتين لتترعرع وتنمو ولم يتحقق ذلك عبر التاريخ البشري إلا في ظل الإسلام الذي استطاع أن يستوعب جميع الحضارات البشرية ابتداءا بالصين مروراً بالهند وبلاد فارس وافريقيا وبلاد البربر والمغول والترك والرومان ناهيك عن بلاد العرب الذين هم مادة الاسلام ووعائه.

لقد تعلم هؤلاء المتغربنبن فن الرقص الغربي وأتقنوه ودعوا العالم الإسلامي بأسره ليشاركهم متعة الرقص على إيقاعات صيغت في أوروبا وأمريكا ويتوهمون بأن الأمة إذا ما ارتقت إلى المستوى الحضاري المنشود فسوف يتفهمون الموقف الغربي ويقللون من تجاوزات بعض صحفهم فثمة هنالك رغد العيش ومنتهى الآمال فلا يحاولن أحد أن يفسد عليهم حلمهم بغضبه لله ورسوله تحت أي مسمى ولأي سبب.

إلى كل هؤلاء المرتدين لقبعات رعاة البقر أو قبعة البولر الإنجليزية أو البيريه الفرنسية، أقول لهم أتركونا وشأننا فلم تعودوا تمثلونا ولم نعد نقبل بكم ناطقين رسميين بإسمنا في الغرب والله أسأل أن يحكم بيننا وبينكم يوم العرض الأكبر إنه سميع مجيب.

ولعلي أدلو بدلوي مفنداً ما حدث في ضوء القانون وحماية حرية التعبير الغربية. إن حرية التعبير قد وجدت في رحم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً قبل أن يدعيها الغرب إبان الثورة الفرنسية. لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بهذه الحرية حتى ترك الإنسان يختار بين الكفر والإيمان وهذا منطلق الإسلام في مفهوم حرية الإختيار. كما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يدعو مخالفيه بالحكمة والموعظة الحسنة وهذا منطلق الإسلام في أدب الحوار. وأخيراً أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم أن يدعو أهل الكتاب والمعادين لدين الله إلى كلمة سواء وهو لعمري قمة من قمم الإسلام الشامخة التي لا ترتقي إليها أو تدنو منها أي حضارة عرفت في الاتريخ البشري مهما أدعت وصلاً ورقياً، والكلمة السواء هي حرية التعبير وحق تباين الموقف والرأي الآخر. وهذا الدين العظيم الذي فتح باب الحريات ليكون أداة للهداية هو نفسه الدين العظيم الذي أمر باحترام الآخر ونهى عن سب آلهتهم أو تدنيس مقدساتهم أو المساس برجالاتهم وما ذلك إلا صيانة للدين وأهله في المقام الأول، فأمرنا ألا نسب آلهتهم فيسبوا الله عدواً بغير علم، كما أمرنا باحترام بِيَعِهِم وصوامِعِهم ورهبانهم وربّييهم. لن يعلمنا أولئك المتغربنين كيف تكون الحرية أو حق التعبير أو حق الاختيار على مذهب أسيادهم في الغرب، ولكننا من هذا المقام نعلمهم حقيقة الحرية وإحترام الآخر وحفظ حقوق من تخالفه. إنهم كاذبون منافقون فيما ذهبوا إليه من حريات وما ذلك إلا لتسترهم وراء قوانين وأنظمة ابتدعوها ما كتبها الله عليهم.

إن الدول الغربية قد أقرّت في ظل قوانينها الكثير من محددات الحريات، فقد منعوا الخمر عن من هم دون سن الثامنة عشر أو الواحد والعشرون ومنعوا التدخين في الأماكن العامة وذلك حفاظاً على صحة الناس ومنعوا العري في الأماكن العامة لأن في ذلك خدشاً للحياء ومنعوا التظاهرات في أوقات من ليل أو نهار بالقرب من المستشفيات أو المدارس والمرافق الحساسة حماية لراحة الناس ومصالحهم كما حرموا القذف والسباب والتشهير وفرضوا على ذلك أقصى العقوبات وذلك لحماية الفرد من تجاوز الآخر تحت أي ذريعة وإن كانت هذه الذريعة هي حرية التعبير والرأي. وللغرب إرث مظلم من انتهاكات حقوق الإنسان، فما قام به هتلر وحزبه النازي من نشر الدمار في أوروبا ليس بالأمر البعيد عن الأذهان أو بالذي مرت عليه القرون لينسى. ولكي لا يتكرر ما حدث في الحرب العالمية الثانية فقد حرّمت ألمانيا إقامة حزب نازي وأصدرت الكثير من الدول الغربية قوانين تمنع الترويج للنازية أو التشكيك في جرائمهم أو الإشادة بمنجزاتهم وكل ذلك حداًَ قانونياً من حرية الرأي والتعبير. وفي المملكة المتحدة لا يجوز المساس برمز الدولة (الملكة) في أي مكان ومن خلال أي واسطة باستثناء قارعة حديقة الهايد بارك في لندن. وفي أمريكا كما في أوروبا حرم تعدد الزوجات نظراً للمصالح العامة بالرغم من وجود مذاهب مسيحية تؤمن بها وتطبقها. كما حدت القوانين بتحريم تشغيل الأطفال أو سحبهم من مقاعد الدراسة أو ضربهم ضرباً مبرحاً أو منعهم من العلاج حتى وإن كان الدافع لذلك دينياً أو ثقافياً. إن القائمة السابقة من الممنوعات ليست إلا نزراً يسيراً من القوانين الغربية المحددة للحريات، ومع ذلك يأتي من يتشدق بالتبرير لهم محاولاً إفهامنا ما يسميه بالأبعاد الثقافية الغربية ومفهوم الحريات المطلق لديهم.

إنني كنت أتمنى أن يحترم الغرب ديننا ونبينا في نفس سياق مفهومه الذي اضطره إلى تحديد بعض الحريات للمصلحة العامة كما يدعّي، ولكنه أبى بل وأمعن في الإيذاء وتنادى الباطل لحماية باطله وأثبتت الأيام واقعاً ملموساً أن ملة الكفر واحدة وأن الحرية والإخاء والمساواة لهم وحدهم دون غيرهم وليس للأخرين سوى التبعية والانصياع. أما الحكومات فلم يكن ينتظر منها أن تسن القوانين الفورية في التو والحال ولكنّا كنا نتمنى أن تتبرأ من هذه الأعمال المشينة وتشجع العقلاء في بلادها للاعتذار وتبيان عوار ما قامت به صحفهم ولكنها هي أيضاً أبت واستكبرت. لقد فضحت المواقف والأحداث خبايا أنفس قادة الغرب، فمنهم من حذر من خطر المسلمين ومنهم من دعا إلى التعامل معهم بعنف ومنهم من طالب الاتحاد الأوربي بإتخاذ موقف موحد ضد العالمين العربي والإسلامي والأمثلة في هذا السياق كثيرة لا تحصى.

وإن كان لهم كما يدّعون حق سبابنا وشتمنا فلنا أن نقوم بمقاطعتهم ونبذ سلعهم مهما كان ذلك قاسياً على أولئك النفر المتغربنبن الذين يتألمون على ما يمكن أن يصيب الغرب من أضرار ويخشون أن يعقب ذلك نظرات من اللوم والعتاب من سكان مصايفهم ومنتجعاتهم أو أرباب نعمتهم في العواصم الأوروبية المختلفة. والله أن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها إن رضينا بجريمة التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان للغرب منطلقاته وخطوطه الحمراء التي سوغ لنفسه بها غزو أفغانستان والعراق وضرب هيروشيما ونجازاكي، فإن للمسلمين أيضاً خطوطهم الحمراء ومقدساتهم التي لا تقبل المساومة. إنني أرى جداراً يرتفع في أوروبا رويداً رويداً في وجه الإسلام والمسلمين كما حدث من قبل في أمريكا، جدار ينبئ عن حقيقة وخبايا أنفسهم وما تخفى صدروهم تجاهنا. وكأني بالله سبحانه وتعالى يدفعنا دفعاً لموقف حضاري موحد ولنعيد اكتشاف ذاتنا وقدراتنا وإمكانيات تكاملنا إقتصادياًً وسياسياً وعسكرياً. أإهم يمكرون ويمكر الله بهم، فيجعل من غباء الغرب وكبريائه وصلفه محفزاً للأمة للقيام من سباتها والامساك بزمام اموره ونفض غبار الذل عنهاا.

إن محاولة التفاهم مع الغرب اليوم بغير اللغة التي يفهمها أو تلك التي تؤثر فيه هو ضرب من العبث ومضيعة للوقت.

الله من وراء القصد,

الزاوية: صناعـة الحيـاة E-mail: alim@alimlaw.com
نشرت بالعدد (15633) من جريدة المدينة، يوم الجمعة بتاريخ11محرم 1426ﻫ الموافق 10 فبراير 2006م، بصفحة الرأي.
10 محرم 1426ﻫ الموافق 09 فبراير 2006م

1
3670
تعليقات (0)