زياد بن عبدالله الدريس
في المعارك، ليست المهارة في بدئها، بل في اختيار التوقيت المناسب لإنهائها.
أسوق هذه القناعة مراقباً الحرب الاقتصادية الناجحة التي يشنها العالم الإسلامي على الدنمارك، إزاء نشر إحدى صحفها للرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
فالإعجاب المتزايد بالنتائج السريعة والقوية التي أحدثتها المقاطعة الاقتصادية، كأكبر حرب سلمية يقودها العالم الإسلامي ضد الغرب في العصر الحديث، قد يصيبنا بالغرور فنتمادى في طلب المزيد من الانتصارات والمكاسب التي قد تصطدم بجدار الفارق في القوة بين العالمين الإسلامي والغربي.
المكسب الأساس لنا من هذه المقاطعة ليس في ما خسرته الدنمارك من ملايين أو بلايين الدولارات، فهذه هي الخسارة الأساس للدانمارك، أما مكسبنا الأول فهو بروز وتنامي صوت الشارع الإسلامي كقوة مؤثرة في معايير المشاعر التي كانت دوماً حكراً على اليهود في ورقتي الهولوكوست ومعاداة السامية.
للمرة الاولى يشعر العالم بتنامي مفهوم جديد مقاوم هو: «معاداة الإسلامية»، بعدما كانت «معاداة السامية» تحتكر المخزون العالمي من المشاعر والعواطف!
الفارق الذي ينبغي أن نكرسه ونشيعه في دوائر الثقافة العالمية أن معاداة السامية هو مفهوم عنصري لحماية شعب بعينه - الشعب اليهودي - من النقد من دون سائر الشعوب الأخرى - بينما مفهوم معاداة الإسلامية ليس لحماية الشعوب الإسلامية من النقد أو حتى السخرية، بل هو لحماية الدين الاسلامي والنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من السخرية والاستهزاء.
ولا يحتكر المسلمون هذه القداسة من السخرية والاستهزاء على النبي محمد وحده، بل وللنبي موسى والنبي عيسى عليهم السلام جميعاً، كي يعرف المسيحيون واليهود في الغرب أن حبنا وتوقيرنا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس حباً قومياً أو انتقائياً، بل هو حب رباني تشريعي مقدس، لا يؤله النبي محمداً كما يؤله المسيحيون عيسى، ولا يزدريه ويسخر منه كما سخر اليهود من الأنبياء.
إن مقاطعة الدنمارك الاقتصادية والضغوط الديبلوماسية قد أحدثت نتائج إيجابية باهرة، ترد بقوة على الذين كانوا يقللون دوماً من تأثير المقاطعة الاقتصادية، إذا أديرت بشكل صحيح.
فاعتذار السفارة الدنماركية في الرياض على صفحة كاملة من الصحف السعودية، واعتذار الصحيفة المذنبة على موقعها الإلكتروني، وأسف رئيس الوزراء الدنماركي، وفصل رئيس تحرير الصحيفة الفرنسية التي أعادت نشر الرسوم، وموقف الصحافة البريطانية المشرف، وموقف الصحافة الألمانية الصارم، وبيان الحكومة الأميركية والبريطانية وغيرهما من الدول الغربية المستهجن للرسومات، كل هذه مكاسب يجب ألا نرفضها، طمعاً في مكاسب قد لا تتحقق.
مكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندنا كبيرة، لكن مكانتنا عند العالم ليست كبيرة بما فيه الكفاية! لا بد أن ندرك هذه الحقيقة المرة قبل أن تتفاقم المعركة إلى ساحات قد لا نربح فيها، ثم نتمنى الرجوع إلى أرباحنا السابقة.
يجب أن نوقف رماة المسلمين من الانتشار في ساحات المعركة طمعاً في الغنائم، فينقلب النصر إلى هزيمة!
إذ آن أوان أن تتحول هذه الغضبة الإسلامية الآن إلى مؤسسات على غرار مؤسسات الهولوكوست في العالم. لكن مهماتها ليست كبت حريات التعبير كما تفعل المؤسسات اليهودية، بل احترام الأديان والمقدسات، وترشيد حريات التعبير الثقافي في حدود النقد لا السخرية والاستهزاء. ومن أهم مهماتها حماية الدين الإسلامي من حرب التشويه التي تشن عليه منذ أعقاب 11 سبتمبر.
تستطيع الدول العربية والإسلامية ممثلة في منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية بحكيميها: أكمل الدين أوغلو وعمرو موسى، أن تتقدما بمشروع بهذا الخصوص إلى منظمة اليونسكو، مستندة فيه إلى اتفاقية حماية التنوع الثقافي التي أقرتها اليونسكو في مؤتمرها الأخير (أكتوبر 2005 م)، تلك الاتفاقية التي لا تمنع نق
الحياة - 09/02/06