د. باسم خفاجي
تتهم الأمة العربية والإسلامية من قبل المحبين والخصوم على حد سواء بأنها أمة عاطفية .. وقد أصبحت هذه التهمة هي أكثر ما يتكرر على الألسنة، خاصة بعد تكرار الهجوم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصحف الغربية، وما تلا ذلك من مظاهرات غاضبة عمت أرجاء العالم العربي والإسلامي. تعجب العالم من ردة فعل الأمة التي لا تتفق مع منطق الغرب في التعامل مع الحريات أو حتى في أسلوب الانفعال عندما تنتهك هذه الحريات.
المشكلة أن التفسير المنطقي الغربي قاصر ويتجاهل حقائق واقعية كثيرة أهمها إن الغرب كائن مريض .. ويعاني بشدة من مرض فقدان الحب. وبدلاً من أن يسعى إلى مداواة نفسه، فإن الغرب يتهم كل الأصحاء بأنهم هم المرضى. العقل النفعي في الغرب أصبح يتحكم في أخلاق البشر، وتوارى القلب خلف ذلك العقل حتى لا يتهم الإنسان بجريمة هذا الزمان .. أنه عاطفي.
لقد حاول الغرب أن يتخلص من الحب عبر قرون طويلة من العقلانية والنفعية، وأصبح الحب في الغرب – بعد قرون من الحرب عليه - عاطفة هامشية هشة لا تحرك الإنسان، ولا تدفعه للتضحية أو للعطاء. وبدلاً من أن يحاول الغرب علاج مرض فقدان الحب، فإنه أصبح يتحرك في العالم منادياً المحبين أن يتوقفوا عن مظاهر الحب.. لأنها ليست عصرية .. وليست عقلانية .. وليست منطقية أيضاً. يريدوننا أن نتحاكم إلى منطقهم هم، وعقلانيتهم هم، وأن نقبل أن نقتدي بالمرضى.
وفي المقابل فإن لهيب الحب لا يزال مشتعلاً في الشرق، وتظهر معالم قوة هذه العاطفة الجياشة في مثل هذه المناسبات المرتبطة بالدفاع عن أغلى من نحب – بعد الله - وهو نبي الأمة .. محمد صلى الله عليه وسلم.
إننا نشهد اليوم مشروعاً تدريبياً مكثفاً يتعاون عليه العديد من وسائل الإعلام الأوربية لتعويد الأمة على تهدئة مشاعر الحب .. إنهم – كما يظهر لي - يريدوننا أن نبغض الحب. يسعى الإعلام الغربي إلى ترويض عاطفة الأمة اليوم تجاه نبيها عليه الصلاة والسلام. المؤسف أن الغرب لا يعرف حقيقة العلاقة التي تربطنا بنبي الإسلام .. بل بجميع الأنبياء. إنها علاقة حب حقيقية .. وليست فقط علاقة إيمان .. إننا أمة تعلمت أن أوثق وأعلى درجات الإيمان أن تحب في الله وأن تبغض أيضاً في الله. وأسمى درجات المحبة في الله أن تحب خير خلق الله. نعم نحن نؤمن برسالة النبي، ونراه قائداً وهادياً ورسولاً .. ولكننا أيضاً وفوق كل ذلك نحبه حباً كبيراً ومختلفاً عن كل معاني الحب التي تربط الغربيين بحكامهم أو حتى أنبيائهم.
بل إن العجيب في الأمر – والذي يؤكد مرض الغرب – أننا نحن المسلمون نحب أنبياءهم أكثر من حبهم هم لهم. فليس من الممكن أن تسمع مسلماً يهزأ بالمسيح عليه السلام، ولا يمكن أن تجد أي فرد من أفراد هذه الأمة العربية والإسلامية يسخر من نبي الله موسى عليه السلام. إنهم أنبياء نؤمن بهم ونوقرهم والأهم في كل ذلك – في هذا السياق – أننا حقاً نحبهم. ليتهم في الغرب يعرفون ماذا يعني هذا الحب .. وكم هو جميل أن تكون محباً .. وأن تحيا بالحب، وليس بالمصلحة أو المنفعة.
لكن الحب يفرز أيضاً عاطفة مضادة وهي الكره، وهنا يمكن أن نجد تفسيراً لحماس مفكري الغرب في الهجوم على ظاهرة حبنا الشديد لنبي الإسلام. فالحب عاطفة جياشة .. وكأي عاطفة فإنها تحمل دائماً ضمن عناصرها نقيضها وهو الكره. إن من يعرف كيف يحب .. يتقن أيضاً كيف يكره. إننا أمة نحاول دائماً أن نربط الحب بمعايير الدين والأخلاق، ونحاول كذلك أن نتحكم في الكراهية لكي تنضبط ضمن أطر الدين والقانون والأعراف، ولكننا لا نحاول أبداً أن نتخلص منهما. بل إن الدين الإسلامي الذي يحث على الانضباط والتقيد في الحب .. هو نفس الدين الذي يرى أن الكره عاطفة بشرية لا يمكن القضاء عليها، ولكن يجب أن تقنن وتضبط ضمن قيم وقواعد المجتمعات الإسلامية.
أما الغرب فهو يريد أن يتخلص الناس .. وخصوصاً هذه الأمة من تلك العواطف الجياشة .. حباً كانت أم كراهية .. فكلاً منهما يساعد على تقوية النقيض .. فمن يحب بشدة – حتى وإن انضبط بمعايير الشرع – يمكن أن يكره أيضاً بشدة ضمن نفس المعايير والضوابط. هناك في الغرب من يريد تركيع البشرية حتى لا يكره أفعاله أحد حتى وإن قتل وعذب واستهزأ وهيمن وسيطر .. لابد إذن أن يقيد ويحجم الحب .. وأن تقتل مشاعر البغض .. وليس هناك من تدريب أفضل على قتل الحب لهذه الأمة من أن يستهزأ بخير خلق الله، وأن تمنع الأمة من التعبير عن غضبها من الاستهزاء أو حبها للنبي. الغرب يريد أن يطوعنا أن نقبل أن يهان أغلى من نحب، وأن نمتنع عن إظهار الحب .. وبالتالي سنتمنع أيضاً تلقائياً – في ظنهم - عن بغض أفعالهم.
لن تنجح محاولة تدريب الأمة أفراداً وجماعات على أن ننسى الحب .. ولن يفلح من يحاول أن يكبت طاقات المحبين. قد يكون المطلوب – للبعض في الغرب- أن تفقد الأمة ثقتها في نفسها .. وفي قيمة الحب .. وبالتالي تلفظ الحب والكره معاً .. وتتحول إلى كائن مطيع ينضم إلى القافلة المتحركة نحو نهاية التاريخ .. عندما ينتصر الغرب، ولكنني أشك في إمكانية حدوث ذلك. إننا أمام معركة المستقبل بين العواطف والمصالح .. بين الإنسان والآلة .. بين سيادة القلب أم هيمنة العقل.. من أجل ذلك لابد نقبل خوض المعركة .. وسلاحنا في ذلك هو الحب .. وليتهم يعرفون الحب.
د. باسم خفاجي
articles@khafagi.net
بتاريخ 6 - 2 – 2006