النزاع حول الرسوم الكاريكاتيرية، كاريكاتير الحضارات

فيليب كينيكوت كاتب بصحيفة واشنطن بوست

 ليس هنالك من صحيفة أمريكية جادة يمكن أن تورط نفسها في نشر صور ليسوع المسيح صممت فقط للإساءة إلى المسيحيين. ولو أن صحيفة ما فعلت ذلك، لكانت ردة الفعل سريعة وحاسمة. ولتوجه السياسيون إلى الكونغرس وأثاروا الزوابع على الأشرار. ولقام بعض المسيحيين بالرد على ذلك بالغضب والمقاطعات وبالرسائل الإلكترونية الملتهبة التي يتعذر نشرها في الصحف العائلية، ولرد الآخرون على ذلك بالحزن والصلوات وبالرسائل الجدية للمحرر. ولحدثت فوضى، مع أنه من غير المحتمل أن يتم التلويح بالأسلحة شبه الآلية في الشوارع. ولكن لحسن الحظ، من غير المحتمل أن يحدث ذلك، لأن الصحف اليومية الجيدة محكومة بالمبادئ الأساسية لقيم الصحافة الإخبارية عند استعمالها للصور.

وعندما تم نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية سيئة السمعة عن النبي محمد لأول مرة في الدنمارك، لم تكن لها في الحقيقة أية قيمة إخبارية. بل تم ابتكارها للاستفزاز – حيث أن الإسلام يحظر بشكل عام أي تصوير لنبيه الأعظم- في صحيفة محافظة أرادت أن تثير موضوعاً عن حرية التعبير في الديمقراطيات الغربية الليبرالية العلمانية.

وبالاعتماد على وجهة النظر الخاصة للمرء، لقد كان هذا الأمر بمثابة غرز عود في العين من أجل إثارة نقاش، أو هكذا مجرد غرز عود في العين.

ومع ذلك، نفس الرسوم الكاريكاتيرية الاثنا عشر، التي كانت مجرد غليان داخل إبريق شاي دينماركي، أصبحت الآن تتمتع بقيمة إخبارية عالية. هذه الرسوم الكاريكاتيرية التي كان من الممكن مشاهدتها من خلال الإنترنت، أصبحت الآن مسألة ذات أهمية سياسية. وهذا التغيير الذي حدث في حال هذه الصور كان في الغالب بسبب أولئك الذين اعتبروها مسيئة لهم في المقام الأول. ولو لم يكن هنالك أناس في شوارع غزة وعمان يطالبون بتقييد حرية الصحافة في البلدان التي لا ينتمون إليها، لبقيت هذه الرسوم الكاريكاتيرية مغمورة كما تستحق أن تكون.

ولأن هذه الرسوم، إلى جانب أشياء أخرى، ليست صالحة للاستعمال. وأكثر ما يسبب الصدمة فيها هو كيفية عكسها الدقيق للنبرة الساخنة لتلك الرسوم الكاريكاتيرية التعسة التي يجدها المرء دائماً في صحف الشرق الأوسط. إلاّ أن هنالك استثناء لهذه الحالة: حيث أن رسام الكاريكاتير السوري المعارض يرسم صوراً كاريكاتيرية لقوى سياسية عظمى، عادة ما يتم تخفيف وطأتها بشيء من السخرية والحزن (وهي بطبيعة الحال لا توجد في سوريا لأن الحكومة أغلقت صحيفته التي كان يرسم فيها). ربما لأن وجهة نظر هيئة التحرير، كغيرها من العديد من الحريات، كانت تخضع لقيود صارمة من قبل الحكومات الاستبدادية، فإن رسامي الكاريكاتير الشرق أوسطيين يتناولون المواضيع التي تجد القبول لدى الناس- كراهية إسرائيل والولايات المتحدة- بتكرار ممل ومسموم وقولبة شريرة للأفكار.

وعدد من الرسوم الكاريكاتيرية الدنمركية الأصلية، تم تشكيلها بنفس الأسلوب، حيث تجاوزت مجرد الهجاء أو الرسم كاريكاتيري، إلى درجة التشهير المحض. حيث تم رسم محمد وهو يحمل سكيناً ضخماً ولديه لحية عشوائية كثة، تحيط به امرأتان محجبتان بالكامل عدا عينيهما، وأسوأ هذه الرسوم وأكثرها استفزازاً، هو ذلك الرسم الذي يظهره وهو يحمل قنبلة في عمامته. هذه الصور تواجه أعلى درجات الحساسية الدينية لدى الكثيرين من المسلمين، وبنفس الأسلوب، تقوم الدول الإسلامية بزراعة الغضب الشديد، وربما بشكل شعائري، ضد الشبحين العظيمين في سياسة الشرق الأوسط -إسرائيل والولايات المتحدة. وربما يستغرب الأمريكيون، بالنظر إلى حقيقة الصور في سجن أبو غريب، أن تثير هذه الرسوم الكاريكاتيرية عن محمد، كل هذا الغضب. ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك، أنهم فعلوا الشيء نفسه في واحد من المجالات القليلة المفتوحة والمتاحة للرسامين المسلمين للتعبير عن غضبهم.

ولكن بالنسبة للكثيرين من المسلمين بطبيعة الحال، وخصوصاً الأصوليين منهم، التفاصيل المتعلقة بكيفية رسم هذه الكاريكاتيرات ليست مهمة. وأن الشيء الأساسي هو تحريم أي صورة للنبي. ولذلك الكثيرين من الناس، مسلمين أو غير مسلمين من الذين يخافون المسلمين أو يكرهونهم (لنكن صادقين بشأن مستوى الكراهية بين الطرفين)، يتحاشون هذا الأمر. والناس في الطرفين يريدون تصوير هذا الصراع على أنه صراع أساسي حول القيم بين المعتقدات الدينية المطلقة من ناحية، والمبادئ السياسية المطلقة من ناحية أخرى، وبين كلمة الله (كما يفسرها البشر) وبين الحريات التي تصل إلى درجة القداسة في الديمقراطيات الغربية. فإذا كانت هذه هي الكيفية التي قُدم بها هذا الصرع للناس في الغرب، فإنهم في هذه الحالة لا يملكون الكثير من الخيارات: حيث أن حرية الصحافة بطبيعة الحال، وحتى الحرية بشكل عام، كما تتصورها إحدى الصحف الفرنسية، "بأنها تعني رسم الكاريكاتير حتى للإله نفسه" لا تخضع للمساومة.

ولكن بالنسبة للذين يتمسكون بشدة بالمبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية، ربما يشعرون هنا بيد مثيرة تتلاعب بالأمر في الخفاء. لأن معركة الرسوم الكاريكاتيرية هذه عندما تصطدم بطريق مسدود، ستصبح حينئذ كما يريدها المنظرين في كلا العالمين منطلقاً لصراع الحضارات.

إن عملية الربط بين الأقطاب المتباعدة للحضارة الواحدة كانت دائماً تنطوي على المخاطر، ناهيك عن أن تغري نفسك بالتدخل بحميمة في شؤون الآخرين في أطراف بعيدة. لقد مضى الآن أقل من مائة وخمسين عاماً على امتداد أسلاك التلغراف بين جانبي المحيط الأطلسي، مما سهل على الناس في نيويورك معرفة أن نظرائهم في لندن يعانون من شيء تافه وذو أفق ضيق- والعكس. كما مضى الآن أقل من قرن ونصف القرن منذ بداية عالم جديد يتمتع بالتواصل السريع، حيث أنه لو وقع ثمة حدث مؤسف في الدنمرك يمكن أن يتحول بشكل سريع إلى حرب كلامية على مستوى العالم. ومن الغريب، بل ومن المحزن أن ندرك أننا لم نتعلم ما يكفي من أن المشاجرات التي تقع داخل البارات (محلات بيع المسكرات) تتحول إلى اضطرابات في الشوارع، ومن الآلية العاطفية القديمة التي لا تزال تدير أهم النقاشات التي تشهدها الإنسانية.

الأصولية الدينية فرضت هذا الموضوع، والأصولية السياسية أشعلته. وإن تقديم الاعتذار الآن عن ارتكاب الإساءة يعني استسلاماً للاستبداد الديني، وأن الرغبة الأساسية في الاعتدال أصبحت الآن مساوية للجبن. والقليل من الحبر الذي انسكب على ورقة، قد تضخم الآن ليبرهن على انعدام التوافق الثقافي بين الطرفين. ولذلك، الزعماء السياسيون هنا يتحدثون عن "الحرب الطويلة"، وهو صراع بين الشرق والغرب لا توجد فيه بارقة أمل. وستتحول هذه الرسوم الكاريكاتيرية بمزيد من السخف، إلى جزء من التصلب الثقافي في الفكر الذي سيخيم على الموقف، في كل طرف من طرفي التقسيم الثقافي.

الجاذبية تساعد أولئك الذين يدفعون الناس إلى النزاع، والاعتدال مهمة شاقة يجب أن تعمل دائماً بصعوبة. فالأمريكيون لا يمكنهم أن يفعلوا الكثير، بل هم في الحقيقة مجبرون على أن يفعلوا شيئاً تجاه المجتمعات الإسلامية التي لا تحترم القيم الغربية كالتسامح والحرية. وهم ملتزمون فقط بالمحافظة على التسامح الديني بطريقتهم الخاصة. والاعتدال في هذه الحالة لا يعني المساومة حول الدفاع عن الحريات، ولكن يعني إظهار القيم العظيمة للحرية في المجتمع العلماني.

نحن في حاجة إلى المزيد من الكفر، وخصوصاً ذلك النوع من الكفر الذي يتحدى حساسياتنا الدينية. وهو ليس في حاجة إلى أن يأتي في شكل رسوم كاريكاتيرية ممجوجة، ولكن في شكل أصوات كأصوات مارك توين ومينكين، في شكل أصوات تنتهك وتخدش قداسة معتقداتنا ورموزنا الدينية. وربما ننعق بغياب الحريات في إيران، ولكننا أصبحنا أكثر تطرفاً عندما نتحدث عن الدين في نطاقنا العام. ولكن اللافت للنظر في الإساءة إلى المقدسات، هو أنها في أغلب الأحيان، تؤدي إلى تقوية الأديان الحقيقية، وفي نفس الوقت تؤدي إلى ضمان الحق في الاعتراض عليها.

هذه هي واحدة من الحقائق القليلة التي ربما يمكننا توصيلها إلى الأصوليين في جميع أنحاء العالم. ولكنها تنمو بشكل سريع، وبدون إشراك الأصوات المعتدلة في أي من الطرفين، وهي أننا قد وصلنا فعلاً إلى طريق مخيف ومسدود. استمع إلى ما نقلته صحيفة الأهرام الأسبوعية المصرية عن أحد أعضاء البرلمان المصري، حيث قال "يجب على الحكومة الدنمركية أن تقدم اعتذاراً رسمياً، وأن تعترف بأن حرية التعبير لا تعني أن الناس أحرار في أن يهينوا الأنبياء".

ولذلك، هذه الرسوم الكاريكاتيرية ربما تتمكن من بلورة الأسباب التي لا تؤدي إلى عدم التوافق بين الإسلام والغرب، وبالتالي يجب الاستعداد لخوض حرب طويلة. والخيار الوحيد الآخر هو أن نتذكر أن الأفكار المختلفة في العالم إن لم تجد أرضية معينة للاتفاق حول موضوع بعينه، فلعله قد يكون من السابق لأوانه أن يكون هنالك حوار، في التاريخ الإنساني.

المصدر :

واشنطن بوست – 4/2/2006

http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2006/02/03/AR2006020302974_pf.html  

1
3422
تعليقات (0)