د. عباس عروة
حين تتوحد كلمة المسلمين حول شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)
د. عباس عروة
رئيس لجنة حقوق الإنسان
الحملة العالمية لمقاومة العدوان
(abbas@aroua.com)
نُشر هذا المقال باللغة الفرنسية مع إضافة طفيفة
في يومية الزمن (Le Temps) السويسرية بتاريخ 3 فبراير 2006
(http://www.letemps.ch/template/opinions.asp?page=6&article=173359)
من كان يتوقع أن تتوحّد يوما كلمة وزراء الداخلية العرب، مديري صناعة التعذيب بمحض إرادتهم أو بتوكيل من الخارج، من جهة، وجماهير المواطنين العرب ضحايا الأنظمة البوليسية، من جهة أخرى ؟ لقد حدث ذلك فعلا ! وكان المتسبب في هذا الحدث مجموعة من اثني عشر رسم كاريكاتوري تهجمي تحت عنوان "أوجه محمد" نُشرت يوم 30 سبتمبر 2005 في يومية يلاندز بوستن (Jyllands-Posten) الدنمركية. ففي حين طلب وزراء الداخلية العرب على إثر اجتماعهم في تونس يوم 31 يناير 2006 من الحكومة الدنمركية "العقاب الصارم" في حق رسّامي الكاريكاتورات المهينة لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، تضاعفت المظاهرات في العواصم العربية والإسلامية حارقة العلم الدنمركي وصورة الوزير الأول أندرس فوغ راسموسن (Anders Fogh Rasmussen). كما تعززت حملة المقاطعة للبضائع الدنمركية في العالم الإسلامي وتوسعت رقعتها، فاتّبعها بشكل محكم على السواء المسلم المتديّن الذي تخلى عن حليب أرلا (Arla) وكذا المسلم غير المتديّن الذي عزف عن جعة كارلسبرغ (Carlsberg). وقد اضطرت شركة نيسلي (Nestlé) السويسرية التي حُشرت خطأ في الموضوع إلى نشر إعلان في الصفحة الأولى من يومية الشرق الأوسط بخصوص حليب نيدو، مؤكدة أنه "ليس منتجا دنمركيا ولا مستوردا من الدنمرك".
فما هو يا ترى سر توحيد الكلمة في العالم الإسلامي بين المسؤول السامي والمواطن البسيط، بين السني والشيعي، بين السلفي والإخواني، بين العربي والأعجمي، بين المؤسسة الحكومية والمنظمة غير الحكومية ؟ إنه المساس بشخص النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام الذي يكنّ له المسلم من الودّ أكثر مما يكنّه لنفسه أو لماله وولده. ولا يرجع هذا المساس إلى رسم وجه الرسول الكريم الذي لا يجوز عند أهل الإسلام – فلا يُعقل أن يطالب غير المسلم بإتباع هذا التحريم – ولكن إلى مضمون الرسوم الكاريكاتورية الذي يركز في عدد من الصور، مثل تلك التي تمثل الرسول (ص) بعمامة على شكل قنبلة، كل الأكليشيهات المهينة للديانة الإسلامية والمتداولة في الغرب عموما وعلى وجه الخصوص في الدنمرك، تلك "المملكة التي يوصف فيها الإسلام بـ’دين الإرهاب‘ أو ’دين القرون الوسطى الظلامية‘ من طرف بعض رجال السياسة في البرلمان"، على حد تعبير يومية بلجيكا الحرة (La Libre Belgique) في مقال صدر يوم 31 يناير الماضي.
إنّ السلطات الدنمركية رفضت بداية الخوض في هذا الموضوع متذرعة بحرية التعبير المقدسة. وإنّ الملايين من العرب والمسلمين الذين يفتقرون إلى الحرية بشكل رهيب لا يمكنهم تجاهل هذا التبرير. غير أنهم يلاحظون أنّ مبدأ حرية التعبير الذي يُرفع في كل مناسبة تُهان فيها الديانة الإسلامية يختفي في مناسبات أخرى. ويتذكر الجزائريون مثلا أنه في عام 1995 حين كانت السلطات الفرنسية في أعلى هرم الدولة تستقبل سلمان رشدي وتقوم بتكريمه على "آياته الشيطانية"، في الوقت نفسه أصدر وزير الداخلية الفرنسي قرارا بمنع كتاب يحتوي على مجموعة شهادات عن حالات تعذيب قام به النظام العسكري في الجزائر، حليف السلطة الفرنسية. وكانت الذريعة آنذاك كون "الكتاب ينادي إلى الكراهية" وأنّ "توزيعه قد يضر بالأمن العام". كما يلاحظ المواطنون في العالم الإسلامي قسوة القانون والإعلام الغربيَين تجاه معاداة اليهودية – خاصة عندما يتعلق الأمر بالمحرقة – وتساهلهما الشديد تجاه معاداة الإسلام. وقد صرّح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وهو مصيب في ذلك، أنّ الصحافة الغربية تعير بمعيارَين فهي تخشى أن تتهم بمعاداة السامية في حين أنها تتذرع بحرية التعبير عندما تقوم بتشويه صورة الإسلام.
في عصر يتميز بحدة التوترات بين الشعوب يشعر فيه ملايين المسلمين بالمذلة والهوان وهم يشاهدون صور أبي غريب وغوانتنمو، يأتي نشر "أوجه محمد" ليضاعف العنف الرمزي الذي يعيشه المسلمون وليلقي بشرائح واسعة من المجتمعات الإسلامية إلى العنف المضاد الموجه ضد الغرب. ويحق لنا أن نتساءل عن لياقة نشر مثل هذه الرسومات فقط من أجل "اختبار الرقابة الذاتية وحدود حرية التعبير"، كما صرح به البعض في محاولة لتبرير سلوك يومية يلاندز بوستن، وتجاهُل ما يؤدي إليه ذلك من تحريض على الكراهية وحث على العنف في عالم يريد بعض المغامرين أن يلقوا به إلى الجحيم.
إنّ الدول الأوروبية عوض أن تساهم في حل الأزمة التي تمخضت عن الرسوم الكاريكاتورية بشكل حكيم وهادئ عمدت إلى التصعيد من خلال خطاب سياسي تهديدي تجاه الدول العربية، وبتقرير إعادة نشر الرسوم المهينة للمسلمين في أكثر من عشر يوميات أوروبية تضامنا مع يلاندز بوستن ومحاولة لتخفيف الضغط على اقتصاد الدنمرك. أما الحكومة الدنمركية فبعد صمم دام عدة أشهر عن الاحتجاج الذي عبّرت عنه الجالية الإسلامية بهدوء منذ البداية، ها هي الآن وبعد أن لاحظت بوار بضائعها تتفطن لغضب المسلمين العارم. وها هو رئيسها يخاطب العالم الإسلامي عبر شاشة التلفاز بعيون ناعمة معبّرا عن أسفه لما حدث – دون اعتذار صريح – ويلتقي بالسفراء العرب وهو الذي رفض استقبالهم منذ أيام.
إنّ ما أظهرته مرة أخرى قضية الرسوم الكاريكاتورية هو ما لدى المسلمين والعرب من إمكانات الضغط والتغيير والذود عن العرض والدفاع عن المقدسات التي تداس يوميا بالأقدام الهمجية. إنّ على المسلمين شعوبا وحكومات أن يواصلوا جهدهم من أجل وضع حد للإهانة التي تتعرض لها الأمة من طرف كل من هب ودب. ومن الضروري أن يتواصل الضغط على الدنمرك بالوسائل القانونية والدبلوماسية والاقتصادية إلى حين يقوم برلمانه باعتماد قانون يحمي الجالية الإسلامية في هذا البلد والديانة الإسلامية عموما في المستقبل من مثل هذه التجاوزات المشينة، على غرار القوانين التي تحمي جاليات اليهود ومقدساتهم.
إنه يتعيّن على الجميع، وعلى الغرب بوجه الخصوص، أن يفكر بجدية في مبدأ حرية التعبير، وطبيعته المطلقة أو النسبية وتطبيقاته الشاملة أو الانتقائية وكذا حدوده، وأن يتساءل عن دور ومسؤولية الصحافة في ترقية السلم في العالم.